لقد تعرضنا جميعاً لهذا الموقف المزعج عندما نتحدث إلى شخص ما ثم ندرك في الواقع أنه لا ينصت إلى ما نقوله.
في بعض الأحيان يكون هذا الأمر واضحاً، مثلما يحدث عندما يتصفح شخص ما هاتفه في أثناء حديثك. وفي أحيان أخرى، يكون من الصعب ملاحظة ذلك، مثلما يحدث في أثناء المكالمات الهاتفية، حيث تكون الردود بسيطة وتدل على شرود الذهن وعدم التركيز. يتمثل أحد أبرز مظاهر الاحترام التي يمكن إظهارها لشخص ما في منحه الانتباه الكامل، ولكن تحقيق ذلك بات أكثر صعوبة، فمع زيادة مشتتات الانتباه، مثل إشعارات الهواتف الذكية والاهتزازات التي تصدر من الساعات الذكية والأفكار العشوائية التي تخطر في أذهاننا، أصبح الحفاظ على التركيز تحدياً حقيقياً.
لا أزال أذكر جيداً غداء العمل الذي جمعني بأحد المُرشدين، فقد ذهبنا إلى مطعم شهير في منطقة هارفارد سكوير (Harvard Square) الذي يرتاده العديد من زملائنا. بعد أن أمضيت أكثر من 15 عاماً في مجتمع هارفارد، كنت أعرف العديد من الضيوف الآخرين وكذلك المدير العام للمطعم. وفي حين أنني كنت أستمتع بإلقاء التحية والابتسام في وجه العديد من زملائي في أثناء مرورهم، فقد اقترح مرشدي أنه ربما يجب علينا الذهاب إلى مكان آخر في المرة المقبلة حتى أتمكن من التركيز على محادثتنا. كانت هذه الملاحظة قاسية بعض الشيء، لكنها كانت في محلها.
إذاً، ماذا يمكنك أن تفعل عندما تلاحظ أن مَن تتحدث إليه لا يعيرك انتباهه؟ تتميز المحادثات الرائعة والمثمرة بإيقاع طبيعي أو تدفق سلس ومتوازن، ما يتطلب من الطرفين المشاركة الفعّالة لتحقيق هذه الانسيابية. إليك بعض الخطوات التي يمكنك اتباعها لاستعادة تركيز الشخص الذي تتحدث إليه والحفاظ على تفاعله:
حاول النظر إلى الموقف من زاوية أوسع
إذا شعرت بأن الطرف الآخر لا يستمع إليك، فيجب عليك أخذ وقفة في أثناء المحادثة. يتحدث المؤلف والمحاضر الأول في كلية هارفارد كينيدي (Harvard Kennedy School)، رونالد هايفيتز، عن فكرة "الخروج من ساحة الرقص والصعود إلى الشرفة"، والمقصود بهذا التشبيه هو النظر إلى الموقف الراهن بعين المراقب الخارجي حتى تتمكن من تقييمه بطريقة موضوعية ومحايدة وتحديد الأنماط والسلوكيات والتفكير بطريقة استراتيجية لفهم ما يحدث. أسمّي هذه اللحظة "التمهّل والتقاط الأنفاس"، وهي طريقة سريعة لإعادة تنشيط الذهن واستعادة التركيز. يمكن أن تكون هذه الخطوة بسيطة، مثل أخذ رشفة من الماء وتنظيم أفكارك واتخاذ قرار بشأن خطوتك التالية.
افترض حسن النية
بدلاً من أخذ الموقف على محمل شخصي والاعتقاد أن هذا التصرف مقصود، من المهم أن تفترض وجود نية إيجابية لدى الطرف الآخر. فكّر فيما إذا كان أسلوبك قد تسبب في تشتيت انتباهه وتراجع تفاعله، وتساءل عمّا إذا كنت تتحدث لفترة طويلة دون منحه فرصة للتحدث والمشاركة. صاغت الأستاذة في كلية هارفارد للأعمال ومؤلفة كتاب "تحدّث: علم المحادثة وفن التعبير عن الذات" (Talk: The Science of Conversation and the Art of Being Ourselves)، أليسون وود بروكس، مصطلحاً للأشخاص الذين لا يطرحون أسئلة في أثناء المحادثات. إذ أطلقت عليهم اسم "الأشخاص الذين لا يطرحون الأسئلة" (Zero Questioners)، وهي تتحدث عن أهمية التوازن بين التحدث والإنصات في المحادثات. لذلك، قد تكون تصرفاتك هي السبب وقد لا تكون كذلك. من الطبيعي أن نظن أننا السبب في تشتيت انتباه الآخرين، لكن غالباً ما تكون هناك عوامل خارجية تسهم في ذلك. فكر في المعلومات التي تعرفها عن هذا الشخص. هل يمر بظروف معيّنة أو يواجه بعض المشكلات في حياته؟ هل يواجه ضغوطاً داخل العمل أو خارجه؟ قد لا يكون تشتت انتباهه مرتبطاً بك على الإطلاق. لذلك، افترض النوايا الحسنة تجاهه قبل اتخاذ أي رد فعل.
اطرح عليه بعض الأسئلة
تتمثل الخطوة التالية في إعادة جذب انتباه الطرف المقابل والتفاعل معه، فأسهل طريقة لجذب انتباه شخص يبدو مشتّت الذهن هي توجيه سؤال مباشر إليه. حاول مناداته باسمه واطرح سؤالاً مفتوحاً، مثل: "كيف تعاملت مع هذا الأمر من قبل؟" أو "ما هو رأيك؟" فهذه الأسئلة المفتوحة تتطلب إجابات تفصيلية بدلاً من الاكتفاء بـ "نعم" أو "لا"، ما يؤدي إلى زيادة احتمالية تفاعل الطرف الآخر وإجابته بإسهاب. بمجرد أن يجيب عن سؤالك، حاول الحفاظ على استمرارية تفاعله من خلال طرح سؤال متابعة إضافي. ومن أفضل هذه الأسئلة التي أحب أن أطرحها السؤال الآتي: "هل يمكنك أن تخبرني بالمزيد من التفاصيل؟" فمن الممكن أن يؤدي هذا النوع من الأسئلة إلى الحصول على إجابات غنية ووافية عن سؤالك الأول، كما أنه يمنح الطرف الآخر الفرصة لتوضيح مزيد من المعلومات والتفاصيل. في بعض الأحيان، نكون متسرعين في الاستماع إلى الإجابة ثم الانتقال إلى موضوع آخر دون أن نعطي الطرف الآخر الفرصة الكافية لتوضيح ما يقوله، لذلك، من المهم أن نمنح الاهتمام الكامل والوقت الكافي للاستماع إلى إجابة الطرف المقابل بعناية قبل الانتقال إلى موضوع آخر. إذا كان الشخص الآخر يتجاهلك حقاً، فيمكنك أن تسأله بلطف: "هل كل شيء على ما يرام؟ يبدو أنك مشتت الذهن قليلاً وأريد أن أتأكد من عدم وجود أي مشكلة". تذكّر أن افتراض النوايا الحسنة هو أمر مهم حتى لا يشعر الطرف الآخر بأنك تهاجمه.
احرص على تغيير إيقاع المحادثة أو نمط التفاعل
إذا كنت تشعر بأن إيقاع المحادثة غير متناسق أو غير متوازن، فإليك بعض الخيارات التي يمكنك اللجوء إليها لتعديله. يمكنك التوقف عن الحديث حتى يسود الصمت للحظات، ما يحفّز الطرف الآخر على الانتباه من جديد، وفي نهاية المطاف، سينظر إليك، وعندها يمكنك أن تبتسم وتطرح عليه أحد الأسئلة المذكورة أعلاه لمواصلة المحادثة. في بعض الأحيان يمكن أن يساعد تعديل وضعيتك الجسدية على إعادة تركيز الطرف المقابل على المحادثة؛ إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى تنشيط التفاعل واستعادة الانتباه، ولا سيما في الاجتماعات الطويلة أو المناقشات الفردية غير الرسمية. إذا كنت جالساً، فقف، وإذا كنت واقفاً، فيمكنك أن تقول: "دعنا نجلس".
الأشخاص البارعون في التواصل ليسوا مجرد متحدثين متميزين، بل هم أيضاً مستمعون بارعون يعرفون كيفية إعادة إشراك الآخرين في المحادثة والحفاظ على تركيزهم.
في عالمنا المليء بمشتتات الانتباه، يجب علينا إتقان فن جذب انتباه الآخرين والحفاظ على تركيزهم، ولدينا عدد من الأدوات اللفظية وغير اللفظية المتاحة لتحقيق هذا الغرض، فمن الممكن أن تؤدي التغييرات البسيطة، سواء في العقلية أو في الأسلوب، إلى تحويل محادثة محبطة ومزعجة إلى نقاش مثمر وفعال.