لطالما يشير أولئك الذين يدعون إلى إصلاح عيوب النظام المالي الأميركي وإدخال الإصلاحات على أسواق رأس المال، إلى أنّ الشركات الأميركية تمتلك نظرة "مفرطة في التركيز الاستراتيجي على المدى القصير" مع غياب النظرة بعيدة المدى لدى هذه الشركات. إلا أنه يكمن الحل في هذه المعضلة في تقييد المستثمرين ذوي النظرة قصيرة المدى، واستبدال المقاييس التقليدية التي تحدّ من الابتكار، وتنظيم السياسات المالية للشركات واستبدال "رأسمالية المساهمين" بـ "رأسمالية الزبائن".
لكن الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى إصلاح للإدارة أكثر من حاجتها لإصلاح نظامها المالي وأسواق رأس المال فيها.
كتب بيتر دراكر مرة قائلاً إنّ وظيفة المدير تكمن في "بقاء أنفه على حجر الطاحون بينما يرفع عينيه إلى التلال البعيدة". لقد أدرك دوركر أنّ كل الشركات تواجه واقعاً لا مفر منه: إذ يتعيّن عليها أن تستثمر في مستقبلها إذا كانت تريد تكوين مستقبل لها، لكنها في الوقت ذاته بحاجة إلى تحقيق الأرباح اليوم من أجل تسديد تكاليف ذلك المستقبل. إضافة إلى ذلك، يجب عليها أن تفي بوعودها المتعلقة بالعوائد على استثماراتها التي قامت بها في الماضي من أجل الاحتفاظ بالترخيص لمواصلة الاستثمار على المدى البعيد. فليس بوسعها التضحية بالمدى القصير لصالح المدى البعيد مع توقع أن يكون لها مستقبل. لأن "التركيز المفرط على المدى البعيد" سيء تماماً مثل "التركيز المفرط على المدى القصير".
صحيح أنّ المعدل الوسطي لفترة احتفاظ المساهمين بأسهمهم قد تراجعت بشكل هائل خلال نصف القرن الماضي، إلا أنّ العديد من الجهات الفاعلة في السوق (المحللين، ومدراء الصناديق، والمعلقين على شؤون الأسواق) يتملكهم هاجس دائم بخصوص النتائج الفصلية، كما أنّ الكثير من الشركات تدفع لقادتها المال على أساس الأرباح الحالية للسهم. فما المشكلة في ذلك؟
المشكلة الحقيقية هي أنّ الكثير من الشركات تُدار كما لو أنّ هناك علاقة عكسية حتمية وغير قابلة للإصلاح بين تحقيق النتائج الحالية والاستثمار في المستقبل. وبالتالي فإنّ قادتها يشعرون بحاجة إلى تحقيق "التوازن" الصحيح بين المدى البعيد والمدى القصير. فعندما يشعرون نوعاً ما أنّ هناك اختلالاً في التوازن بينهما، لا يتمكنون من التركيز الاستراتيجي ويسعون إلى زيادة التركيز على أحد الجانبين وتقليل التركيز على الجانب الآخر. وهذا الأمر يقود حتماً إلى نوع من فصام الشخصية لدى الشركة، حيث تقوم الشركات بالتنقل ما بين الاستثمارات ذات الرؤية البعيدة المدى، وتخفيضات التكاليف المتشددة والمفرطة في تركيزها على الأداء. وغالباً ما يحصل هذا الأمر عندما يكون هناك تغيّر في الإدارة في نهاية مرحلة ما وبداية مرحلة أخرى.
لكن دراكر لم يعف الإدارة من واجبها المتمثل في إدارة كل من الجوانب البعيدة المدى والقصيرة المدى فقط لأن هناك جهات معنية متنوعة تمتلك أطراً زمنية تختلف عن الأطر الزمنية للشركة. ولا ينبغي لنا نحن أن نعفيها من ذلك الواجب أيضاً.
إذاً، يتعين على القادة في قطاع الأعمال الابتعاد عن "الاستراتيجيات" التبسيطية مثل تخفيض التكاليف بغية تحقيق قدر معين مستهدف من هوامش الأرباح أو تجميع بضعة منتجات ضمن منتج واحد من أجل بيعه في أسواق مختلفة ولزبائن مختلفين. كما ينبغي عليهم إعادة تركيز جهودهم الرامية إلى الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التالية:
- ما هي المجالات التي يجب أن نعمل فيها وكيف يمكن لنا أن نضيف إليها قيمة؟
- من هم الزبائن الذين نستهدفهم وما الذي لدينا لنقدّمه لهم؟
- ما هي المقدرات التي تجعلنا قادرين على إضافة القيمة الفضلى لشركاتنا؟
عندما تكون الإجابات المتميّزة والملفتة عن هذه الأسئلة هي ما يوجّه إدارة الأداء الحالي والاستثمار المستقبلي، فإنّ هذه الإدارة ستقود إلى تحقيق أرباح مستحقة فعلاً. وكلّما كان توجيه هذه العناصر الأساسية للقرارات والإجراءات التي يتّخذها قادة المؤسسات التجارية أكبر، فإنّ النمو والأرباح سيصبح أكثر استدامة – كما أنّ ذلك سيجعل القادة أقل ميلاً إلى السرقة من المستقبل من أجل تحقيق نتائج اليوم أو التضحية بالمدى القصير من أجل البناء للمستقبل.
في نهاية المطاف، إذا لم يكن قبطان سفننا قادراً على الملاحة في خط مستقيم في خضم الرياح والأمواج البحرية العاتية، فإنّ الحل لا يكمن في إلقاء اللوم على الطقس السيء والمطالبة بتنظيمه. بل على القبطان إما أن يتعلّم أساسيات الملاحة البحرية أو أن يتنحى ويفسح المجال لغيره. والشيء ذاته ينطبق على قباطنة القطاع الصناعي.
دعونا إذاً نشن حملة من أجل التركيز الاستراتيجي وإعادة إحياء أساسيات الإدارة، والنهوض بها، والتوقف عن التشجيع على تنظيم الطقس لأنه يكون سيئاً بين الفينة والأخرى.