ما الذي يقوله الخبراء؟

تقول عالمة الاجتماع والمديرة المؤسسة لمركز أبحاث النوع الاجتماعي في المهن في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييغو، ماري بلير لوي: “قد لا يمثل إدمان العمل في مجتمع ينظر إلى العمل على أنه فضيلة مشكلة جدية. نعيش في ثقافة يتطلب فيها العمل ولاءنا الكامل ويستحقه”. ولهذا النوع من التفاني فوائده فعلاً. تقول لوي موضحة: “يوفر العمل إحساساً بالتحدي والمشاركة وتعلم أشياء جديدة، ويتيح لك الفرصة لتشكيل المسار المهني للآخرين. هذه الفوائد مجزية جداً”. ولكن أستاذ الإدارة في كلية وارتون ومؤلف كتاب “قيادة الحياة التي تريدها: مهارات تحقيق التكامل بين الحياة المهنية والأسرية” ( Leading the Life You Want: Skills for Integrating Work and Life)، ستيوارت فريدمان، يقول إنك ستدفع ثمناً باهظاً في النهاية إذا كرّست جل اهتمامك للعمل، وإن العمل ساعات طويلة وأخذ إجازات قليلة والاتصال المستمر فعلياً بالعمل بسبب الانتشار الواسع للأجهزة الرقمية في كل مكان يضر بعلاقاتك الشخصية وصحتك وكذلك إنتاجيتك. فيما يلي بعض النصائح المفيدة للتغلب على إدمانك.

أعِد تقييم مفهومك للنجاح

ابدأ بالتفكير مجدداً في نظرتك للنجاح. يميل مدمنو العمل إلى الهوس بالكمال والتركيز دائماً على التقدم في حياتهم المهنية. يقول فريدمان إن الإنجازات المهنية مهمة بالطبع، ولكن لكي تعيش حياة مرضية بالفعل، يجب أن تكون لديك أيضاً غاية وتضع حدوداً واضحة تحترم جوانب حياتك العائلية وصحتك البدنية والروحية. بعبارة أخرى، يجب ألا أن يتمحور تقديرك لذاتك حول وضعك المهني وراتبك ومكانتك فقط؛ بل يجب أن تأخذ في الاعتبار أيضاً جودة علاقاتك والانخراط في مجتمعك ورفاهك الجسدي والعاطفي. تذكّر أيضاً أنه لا يمكنك التفوق في جميع مناحي الحياة وفقاً لقول لوي، لذلك حاول ألا تقسو على نفسك: “لا يتعين عليك أن تكون الموظف أو الوالد أو الرياضي المثالي أو شخصاً يمتلك معرفة واسعة في شتى المجالات. ينبغي ألا تضع لنفسك توقعات خارقة”.

غيّر وجهة اهتمامك

بعد ذلك، عليك أخذ وقفة والتفكير في الطريقة التي تريدها لاستخدام وقتك وطاقتك. ينصح فريدمان بأن تضع في اعتبارك ما هو مهم بالفعل بالنسبة لك: “يصبح الاهتمام أثمن ما تملك عند إنشاء علاقات هادفة والتقدم في حياتك المهنية. كيف تريد استثماره؟ في الواقع، لديك سيطرة على هذه الخيارات أكبر مما تدركه. سيكون هناك دائماً المزيد من العمل الذي يتعين إنجازه، لذلك اتخذ خياراً واعياً لقضاء بعض الوقت بعيداً عن العمل، مع العائلة أو مع الأصدقاء أو في الانخراط في المجتمع”. تقترح لوي التركيز على شيء واحد في كل مرة، والتوقف عن العمل على أكثر من مهمة في نفس الوقت: “إذا كنت تتنزه مع زوجتك أو تستمتع بمشاهدة مباراة بيسبول مع طفلك وتلقيت مكالمة تتعلق بالعمل أو كنت تتحقق من البريد الإلكتروني، فأنت تخدعهم وتحرمهم من قضاء وقت ممتع معك”. الانشغال بأداء مهام أخرى في أثناء قضاء الوقت مع أحبائك غير مهذب، بل عديم الفعالية أيضاً. ربما تكسب بعض التقدير الإضافي الطفيف في العمل مقابل استجابتك السريعة، ولكنه تصرف غير مدروس. يجب أن تمنح الشخص الذي تتعامل معه اهتمامك الكامل لفترة محددة، بعد ذلك، يمكنك أخذ وقت مستقطع لـ 5 دقائق مثلاً للتعامل مع أي مسائل طارئة تتعلق بالعمل.

أعِد تحديد التوقعات

لا يمكنك التخلص من الإدمان على العمل بمفردك وفقاً لفريدمان الذي يقترح الاستعانة بالزملاء والعائلة والأصدقاء لتحميلك المسؤولية عن أفعالك ودعمك في أثناء العملية: “تتطلب إعادة تحديد توقعات مديرك وزملائك في العمل توضيح التغييرات التي تتخذها وأسبابها. اشرح لمديرك وزملائك مصلحتهم في مساعدتك على الانفصال عن العمل، واحرص على ألا يتمحور طلبك لمساعدتهم حول قضاء الوقت مع عائلتك فقط، بل يجب أن يروا الفائدة التي تعود عليهم أيضاً من مساعدتك”. يقترح فريدمان أن تقول لمديرك شيئاً مثل: “لن أكون متصلاً بالإنترنت بعد الساعة 4 مساءً كل يوم ثلاثاء خلال الشهر القادم. أعتقد أنك ستلمس تحسن أدائي لأنني سأكون قادراً على الاهتمام ببعض شؤوني الشخصية وسأكون أقل تشتتاً. وبعد تجربة هذا الأمر لشهر واحد سنناقش النتائج بالنسبة لكلينا”. وتوافق لوي على ذلك وتقول: “سيساعدك التعبير بصراحة وصدق عن خططك لتخصيص وقت في يومك لا يمكن لأحد مقاطعتك فيه على إتاحة مرونة أكبر في صياغة جدول مواعيدك وإدارة توقعات الآخرين في فريقك أيضاً”.

جرب التخلص من السموم الرقمية

لا يحتاج المرء إلى أن يكون مدمناً على العمل ليقع في فخ الاعتماد المفرط على الهاتف الذكي الذي يصفه فريدمان بروبوت تفاعلي يهتز كلما اتصل أحد بك، ويقول إنك عندما تكون حاضراً جسداً مع الآخرين، ولكن ذهنك غائب في مكان آخر، فكأنك تقول للأشخاص الموجودين معك أنهم أقل أهمية. لا يوجد حل واحد يناسب الجميع فيما يتعلق بالتخلص من السموم الرقمية، لذلك يجب عليك التجربة واكتشاف ما يناسبك. فيما يلي بعض الاقتراحات:

  • أبعد هاتفك الذكي عن الأنظار. لا يوجد سبب وجيه للاحتفاظ بهاتفك الذكي في متناول يدك بمجرد انتهاء يوم عملك. تطرح لوي سؤالاً: “عندما تكون في المكتب، هل ستُبقي طفلك بجانبك تحسباً من أن يحتاج إلى شيء ما؟ على الأرجح لا. وبالمثل، لماذا تبقى جاهزاً للاستجابة لاتصالات العمل عندما تكون في المنزل ليلاً مع عائلتك؟”. تسلط لوي الضوء على الدراسات التي أظهرت أن مجرد وجود هاتف بين شخصين يمكن أن يؤثر على جودة محادثتهما ومحتواها، وتقول: “يصبح التواصل سطحياً لأننا ندرك أن الإشعارات قد تقاطعنا في أي لحظة”.
  • توقف عن استخدام هاتفك لملء وقت الفراغ. يقول فريدمان إن الكثيرين، لا سيما مدمني العمل، يستخدمون هواتفهم متى أُتيح لهم بعض وقت الفراغ، في أثناء الانتظار بالطابور في المطعم مثلاً أو بين المحادثات في فعاليات بناء العلاقات وفي قاعة المؤتمرات قبل وصول باقي الزملاء، وبذلك يصبح الهاتف بمثابة ركيزة اجتماعية لتجنب الشعور بالقلق أو الملل. يقترح فريدمان مقاومة هذه الرغبة من خلال فعل شيء تستمتع به أو تتطلع إليه: “قد تشعر بعدم الارتياح في البداية لأن استخدام هاتفك في وقت الفراغ أصبح عادة راسخة يصعب كسرها، ولكن مقاومة هذه الرغبة سيسمح لك بالانخراط في اللحظة الحالية وتقدير الأشياء من حولك؛ ربما تتوقف وتشم رائحة الأزهار”.
  • كن نموذجاً لتحسين سلوكيات مكان العمل. يقول فريدمان: “بغض النظر عن مدى قبوله في مؤسستك، فإن استخدام هاتفك باستمرار بينما يتحدث شخص آخر يعد تصرفاً غير محترم. يجب أن تكون نموذجاً يُحتذى به بصفتك قائداً، ففريقك يتعلم السلوك المهني منك، وعندما يلاحظ أفراده سلوكياتك سيقلدونها أمام العملاء وغيرهم. أنت في النهاية تؤثر في محيطك”.

مارس اليقظة الذهنية

تشير مجموعة متزايدة من الأدلة إلى أن ممارسة الوعي غير المتحيز باللحظة الحالية، ما يعرف أيضاً باليقظة الذهنية، يساعد الناس في تعزيز مرونتهم العقلية وتحسين عملية اتخاذ القرارات. ووفقاً لفريدمان، يكتسب التدريب على اليقظة الذهنية أهمية كبيرة خاصة بالنسبة للذين يحاولون التخلص من إدمان العمل، فهي تعزز فيهم الشعور بالسيطرة والغاية والوعي بخياراتهم والتعمق فيها. من جهتها توصي لوي بممارسة التأمل بوجه خاص، وتقول إنه من المفيد أخذ أنفاس عميقة قبل ممارسة اليقظة الذهنية.

امنح الأولوية لصحتك

تذكر أنه من الضروري العناية بنفسك في أثناء إعادة ترتيب الأولويات. توضح لوي أنه لا يمكنك العمل على نحو منتج وبطريقة إبداعية ودقيقة أكثر من عدد معين من الساعات يومياً، وبالطبع لا يمكنك تحقيق ذلك دون أخذ قسط كافٍ من النوم والتغذية الملائمة وممارسة التمارين الرياضية. يظهر العديد من الدراسات أن الأشخاص الذين يعطون الأولوية لصحتهم من خلال تبني عادات غذائية صحية وأخذ فترات راحة وإجازات منتظمة وممارسة التمارين الرياضية يتمتعون بطاقة أكبر وتركيز أفضل. لكن فريدمان يحذر من أن النظر إلى هذه العوامل من منطلق مصلحتك الشخصية ليس نهجاً مستداماً بالطبع، ويقول إنه من الضروري التفكير في الأشخاص الذين يعتمدون عليك وعلى صحتك الجيدة، مثل العملاء والأصدقاء وزملاء العمل والعائلة، حيث يمكن أن تغير هذه العقلية دوافعك.

مبادئ يجب تذكرها

ما ينبغي لك فعله

  • أعِد تقييم مفهومك للنجاح الشخصي كي يكون أكثر ارتباطاً بالعلاقات العالية الجودة والمشاركة الاجتماعية والرفاهة الجسدية والروحية.
  • فكّر ملياً باختيار الطريقة المناسبة لقضاء وقتك ومع من تقضيه.
  • جرّب اليقظة الذهنية.

ما ينبغي لك تجنبه

  • فعل ذلك بمفردك؛ بل اطلب الدعم من الزملاء والعائلة والأصدقاء لمساعدتك في الانفصال عن العمل.
  • استعمال هاتفك تلقائياً في وقت فراغك.
  • إهمال الرياضة والنوم الكافي والطعام الصحي.

دراسة حالة رقم 1: التمس التشجيع وأعد تحديد توقعات زملائك

أدركت المديرة السابقة للعمليات التجارية في إحدى الشركات في مدينة مينيابوليس، أماندا سوادسكي، أنها مدمنة على العمل بعد أن وجدت نفسها في غرفة الطوارئ نتيجة تعرضها لنوبة هلع، وصف لها الطبيب دواء “زاناكس” (Xanax)، وعرفت أماندا حينها أن شيئاً ما يجب أن يتغير:

“أدركت أني خسرت العديد من علاقاتي الشخصية بسبب انشغالي الشديد بالعمل، وكانت تلك إشارة تحذير كان يجب أن أنتبه لها”.

طلبت أماندا الدعم من زوجها في البداية لتغيير عاداتها في الإدمان على العمل: “طلبت منه مساءلتي للتوقف عن العمل في وقت محدد، وتحديداً الاتصال بي الساعة 6 مساءً، وهو توقيت بدا معقولاً أكثر من الساعة 5 مساءً، والاستمرار بالتحدث إلي عبر الهاتف إلى أن أغادرة المبنى”.

بعد ذلك، اتخذت أماندا إجراءات لإدارة استخدامها للأجهزة الإلكترونية في المنزل؛ ستغلق هاتفها الساعة 8 مساءً ولن تشغله حتى الساعة 7 صباحاً. وتقول: “أتاح لي ذلك وقتاً للاسترخاء في المساء وبداية لطيفة ليوم عملي صباحاً دون شعوري بأني مضطرة إلى الإسراع بالتحقق من البريد الإلكتروني بمجرد استيقاظي. توقفت أيضاً عن إرسال رسائل البريد الإلكتروني إلى فريقي بعد ساعات العمل وفي عطلات نهاية الأسبوع لأن ذلك يديم دورة العمل المحمومة“.

تمكنت أماندا من إعادة تحديد توقعات مديرها من خلال إجراء تغيير تدريجي في عدد ساعات عملها، تقول موضحة: “حرصت على الالتزام بالمواعيد النهائية، لكنني بدأت رفض الكثير من المهام مع إعطاء الأولوية للمهام التي كان لها التأثير الأكبر في النتائج”.

وجدت أماندا طريقة أخرى فعالة للتغلب على إدمانها على العمل من خلال ممارسة التأمل، وتقول إنه ساعدها في رفع وعيها باللحظة الحالية والاستمتاع بالحياة أكثر بعيداً عن العمل: “عندما اكتشفت مباهج الحياة مرة أخرى، أدركت كم أفرطت في تحديد قيمتي من خلال العمل، ووجدت أنه من الأسهل الاستمرار في تقليل عبء عملي تدريجياً لأن لدي هوايات وأصدقاء أحتاج إلى رؤيتهم مجدداً”.

دراسة حالة رقم 2: أدِر استخدامك للأجهزة الإلكترونية

يؤدي ماريزا لاريزاده العديد من الوظائف والأدوار؛ فهو مستثمر ملاك في شركة بونوبوس (Bonobos) للتجارة الإلكترونية ومؤسس موقع دوستانغ (Doostang) للبحث التنفيذي والمدعوم من شركات رأس المال المغامر، والرئيس التنفيذي لشركة بلسد (pulsd) الناشئة لخدمات الاستقبال والإرشاد عبر الإنترنت ومقرها نيويورك.

أدرك لاريزاده قبل عامين أن أنشطته المهنية العديدة أدت إلى تكريس جل وقته وطاقته للعمل، وأدرك أن ذلك غير صحي وأنه من الضروري إعادة تقييم منظوره للعمل، ويقول: “أدركت أن الوقت قد حان للتغيير”.

ابتكر لاريزاده العديد من القواعد البسيطة للغاية للحد من استخدامه للأجهزة الإلكترونية؛ على سبيل المثال، سيتحقق من بريده الإلكتروني في الساعة 5 مساءً فقط خلال أسبوع العمل ليقلل بهذه الطريقة الميل إلى مقاطعة سير العمل من خلال عمليات التحقق المستمرة من البريد الإلكتروني: “وإذا كانت هناك مسألة مُلحة يريد شخص ما إخباري بها، يمكنه الاتصال بي عبر الهاتف أو الاتصال بزميل ينبهني إلى ضرورة الرد سريعاً”.

بصفته مؤسس الشركة، اعتاد لاريزاده أن يكون متاحاً دائماً لمعالجة الحالات الطارئة، ولكنه بدأ بتفويض الحالات غير الملحة إلى زملائه في عطلات نهاية الأسبوع مع نمو الشركة.

يمتلك لاريزاده جهاز آيفون، لكنه نادراً ما يتحقق من البريد الإلكتروني في عطلات نهاية الأسبوع، كما لا يستخدم الرسائل النصية كثيراً ويعطل إشعارات معظم التطبيقات: “يمكنك أن تعيش اللحظة وتقدّر الأشخاص الذين تقضي وقتك معهم بمجرد الانفصال عن العمل بضع ساعات فقط”.

والأهم من ذلك أنه بدأ إعطاء الأولوية لصحته ورفاهته، وبدأ ينام أكثر ويقلل من سفره.

كان للتغييرات تأثير إيجابي عليه وعلى زملائه أيضاً، يقول موضحاً: “يرى زملائي مدى سعادتي عندما أحصل على قسط كافٍ من الراحة. لقد تحسن أداء كل فرد في الشركة نتيجة لذلك”.