التحصين النفسي: أداة فعالة من العلوم السلوكية للتصدي للأخبار الزائفة والمعلومات المضللة

4 دقيقة
التحصين النفسي
unsplash.com/Pawel Czerwinski

شهدت السنوات القليلة الماضية نمواً هائلاً في استخدام أدوات العلم السلوكي وتقنياته لتعزيز استراتيجيات التغيير السلوكي التي يستخدمها صانعو القرار. حتى وقت قريب، كانوا يستخدمون أدوات عدة لتغيير سلوك الناس، بعضها يعتمد على القيادة والسيطرة (إذا لم تفعل كذا فستعاقب)، وبعضها يعتمد على التحفيز (في كل مرة تفعل كذا ستكافأ بحوافز مادية)، وبعضها يعتمد على توفير المعلومات (افعل ولا تفعل). تعتمد هذه الأدوات على افتراض أن الناس عقلانيون ويتفاعلون جيداً مع أدوات تغيير السلوك وتقنياته التقليدية، لكن عصارة الرؤى التي يقدمها علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأعصاب والاقتصاد السلوكي تؤكد بطريقة منهجية أن هذه الافتراضات ليست واقعية كما كنا نظن أو كما تعلمنا. لا يجدي أسلوب القيادة والسيطرة دائماً، والمكافآت المالية ليست مستدامة حتى في أغنى البلدان، ويفترض أسلوب توفير المعلومات أننا قادرون على فهم الحقائق وإجراء التحليل اللازم للأرباح والخسائر والوصول في النهاية إلى القرار الصحيح لأنفسنا ومجتمعنا.

يُستخدم العلم السلوكي في وقتنا الحاضر لتفسير تصرفات الناس بطريقة أفضل، وتوجيهم إلى ما ينبغي لهم فعله. الترغيب هو أحد أساليب العلم السلوكي الذي قدّمه الاقتصادي الأميركي ريتشارد ثالر والباحث الأميركي كاس سنستين، وهو: "أي جانب من جوانب هندسة الاختيار التي تغير سلوك الناس بطريقة يمكن التنبؤ بها دون حظر أي خيار أو تغيير حوافزهم الاقتصادية بدرجة كبيرة". يُعد التذكير في الوقت المناسب والخيارات الافتراضية وتحديث المعايير الاجتماعية وسائل ترغيب، لكن المنع أو المكافأة المادية ليسا كذلك.

تحدّث أحد الآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد السلوكي، دانيال كانيمان، عن "النظام 1" (System 1) و"النظام 2" (System 2) من أنماط التفكير؛ فالأول سهل وآلي ومسؤول عما يقدّر بنحو 90% من قرارات الناس المعتادة، أما الأخير فيتطلب جهداً مكثفاً وواعياً، وقلّما يُستخدم ويطلق عليه اسم "المتحكم الكسول". تعدّ أدوات الترغيب أساليب لتغيير السلوك تعمل على التصدي للتحيزات التي نصادفها في إطار "النظام 1" من التفكير، لكن ثمة نوع محدد من أدوات الترغيب التي تعرف باسم "التعزيزات" تعمل بطريقة تنّشط "النظام 2" لدينا.

التحدي الرئيسي الذي نواجهه بصورة متنامية في وقتنا الحاضر هو الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة التي يمكن أن تتخذ أشكالاً وأساليب مختلفة، مثل انتحال الشخصية، والتصيد الاحتيالي، والخداع، وقد استجاب علم السلوكيات لذلك عبر ابتكار ما يعرف بـ "التحصين النفسي" (psychological vaccine).

التحصين النفسي (psychological vaccine) هو أسلوب فريد قائم على العلوم السلوكية يتصدى للتفكير التلقائي والغريزي الشائع في "النظام 1" وما يرتبط به من تحيزات ومزالق، مثل التحيز التأكيدي والتوافر الإرشادي، وفي الوقت نفسه ينشط تفكيرنا التأملي والتحليلي في "النظام 2" من خلال بناء مقاومة واعية ضد تقنيات التلاعب والأخبار الزائفة.

طريقة عمل نظرية التحصين هي نفسها طريقة عمل التحصين البيولوجي؛ الحقن التي تحتوي على جرعة ضعيفة من الفيروس يمكن أن تمنح مقاومة ضد العدوى في المستقبل. وبالمثل يتعرض الأفراد في نظرية التحصين المعرفي لنسخة ضعيفة من الأفكار المضادة التي تُدحض لاحقاً، وهي البديل عن الفيروس الضعيف، وبذلك يوفر التعرض لنسخة ضعيفة من الأفكار ودحضها، إلى جانب التحذير المسبّق منها، دفاعاً قوياً (تأثير التحصين).

في حين ركزت الأبحاث الأولى حول التحصين التي أجراها عالم النفس الأميركي وليام ماكغواير في الستينيات على تأثير التحصين في "البديهيات الثقافية"، وسّعت الأبحاث الحديثة نظرية التحصين لتشمل قضايا أكثر إثارة للجدل، فمن المحتمل أن يحمل الناس معتقدات مختلفة وأحياناً متعارضة حول قضايا عدة (مثل التغير المناخي، والأخبار الزائفة، ونظريات المؤامرة في 11 سبتمبر/أيلول، والتكنولوجيا الحيوية).

أُجريت غالبية الدراسات السابقة في مراكز الأبحاث واستخدمت التحصين "السلبي" وليس "الإيجابي"، والفرق الرئيسي بين الاثنين هو أنه في التحصين السلبي تُقدم الفكرة الضعيفة مع دحضها في الوقت نفسه، أما في التحصين الإيجابي فيشارك الناس في عملية دحض الفكرة الضعيفة، ما يسمح لهم بالتكيف مع أشكال الهجمات المتغيرة. تشير الأدلة المستقاة من الدراسات إلى أن التحصين الإيجابي يولّد نتائج أفضل من التحصين السلبي لأنه يسمح للأفراد ببناء إطار ذهني يساعدهم على تقييم الأفكار المضادة ودحضها بأنفسهم بدلاً من تعلمها بالتلقي.

في مثال عملي على التحصين الإيجابي من خلال لعبة على الإنترنت تسمى "الحصول على أخبار سيئة" (Get Bad News)، حسّن اللاعبون الذين يحاكون دور الأشرار الذين يستخدمون تكتيكات وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الأخبار الكاذبة، مثل الاستقطاب والتصيد وانتحال الشخصية والتآمر وتشويه السمعة، قدرتهم على اكتشاف أساليب الأخبار الزائفة والتضليل.

لذلك ابتكرنا لعبة جديدة للتحصين الإيجابي بالتعاون مع باحثي جامعة كامبريدج الذين ابتكروا لعبة "احصل على أخبار سيئة"، وهذه المرة في مجالي التلاعب والعنف. في اللعبة الجديدة التي أطلقنا عليها اسم "التطرف" (Radicalise)، يأخذ اللاعبون دور الأشرار الذين يحددون المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي ويستخدمون أساليب التلاعب من أجل عزلهم وتجنيدهم لارتكاب أعمال عنف. كانت لعبة "التطرف" ابتكارا مهماً ونتائجها رائعة:

  • تحسن ملحوظ في التعرف على رسائل واتساب المتلاعبة (+14%)
  • تحسين قدرة التعرف على مواصفات الأشخاص المعرضين للتلاعب (+19%)
  • زيادة الشعور "بالاتحاد" (الشعور بالترابط) مع الشرطة والأسرة ووسائل الإعلام والجيران (ما بين +35% إلى +45%)
  • زيادة الثقة العامة في الإجابات.

ابتكرنا نسخة عربية مبنية على لعبة "التطرف" أطلقنا عليها اسم "التحصين الذهني" (Mindfort)، واختبرناها في بيئة ما بعد النزاعات، ونجحت التجربة على الصعد جميعها تقريباً، وبالتحديد اكتشاف التلاعب في الصور المتداولة وتحسين الشعور بالاتحاد مع الجهات المعنية الرئيسية.

حتى الآن، اختبرنا مفهوم التحصين النفسي ضد الأخبار الزائفة في مجموعة متنوعة من البيئات، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والبيئات المتماسكة اجتماعياً وأوساط الصحة العامة (لقاح كوفيد-19)، وقد ثبتت فعاليته في مختلف الثقافات والوسائط (مثل الفيديو ورسائل البريد الإلكتروني والألعاب)؛ إذ أصبح المشاركون أكثر صلابة في مواجهة الإقناع، ولا تقتصر صلابتهم على مجرد حفظ حقائق محددة حول نوع واحد من الاحتيال أو أساليب التلاعب.

لنستخلص بعض الأفكار: أولاً، ثبت أن فعالية التحصين الإيجابي أعلى، مثل التحصين من خلال اللعبة، ولكن حتى عندما يكون التحصين سلبياً تكون فعاليته أعلى من مجرد تقديم الإرشادات.

ثانياً، كما هي الحال مع اللقاح البيولوجي، فإن "الجرعات المعززة" الدورية ضرورية للحفاظ على مستوى المقاومة على المدى الطويل.

ثالثاً، توسيع نطاق هذه التقنيات من أهم النقاط التي يجب أخذها في الحسبان. الجيد في الأمر أنه لكي ينجح التحصين ويحقق مناعة القطيع المجتمعية، ليس من الضروري أن يتلقى كل فرد "التحصين النفسي" بل يكفي أن يُحصّن عدد كبير من الأفراد ضد الأساليب المستخدمة في نشر المعلومات المضللة، وهذا يعني أن على صانعي القرار التحدث عن عناصر الأخبار الزائفة في تواصلهم وتفاعلهم مع المستهلكين والمواطنين وإدراك أنه وسيلة مؤثرة لوقف انتشار الأخبار الزائفة.

وأخيراً، ثمة إمكانية قوية لتطبيق التحصين في مجالات أخرى؛ على سبيل المثال، ما تزال نظرية التحصين في القطاع المالي في خطواتها الأولى، إذ يمكن تطوير أدوات لتحصين الناس ضد أساليب المحتالين النفسية الخفية، وضد الانسحاب الجماعي من المصارف (bank runs) في حالات عدم الاستقرار المالي. فمع ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة يزداد احتمال الإساءة أكثر من أي وقت مضى.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي