ماذا لو تمكنا من تتبع كل مكون من مكونات سلسلة التوريد والتحقق تلقائياً من مطابقتها للقوانين والتشريعات في أثناء عبورها للحدود ومعالجتها وتجميعها مع مكونات أخرى لتشكيل المنتج النهائي المعدّ للبيع؟ ماذا لو كان باستطاعتنا التحقق من رواتب عمال المصانع وظروفهم خطوة بخطوة؟ ماذا لو أخذنا في الحسبان تماماً الانبعاثات الكربونية الناتجة عن تصنيع البضائع وشحنها ومعالجتها؟ وصفت في ورقة عمل حديثة أنا وزملائي في "صندوق هيكسيورت كابيتال" (Hexayurt.Capital)، المستقبل الذي ستشرح فيه تقنية سلسلة الكتل (البلوك تشين)، والذكاء الاصطناعي، والخدمات اللوجستية، كيف ستتمكن المؤسسات والحكومات قريباً من أداء كل هذه الأمور وأكثر.
(إفصاح: أنا شريك في صندوق هكسيورت كابيتال الذي يستثمر في إنشاء شبكة إنترنت الاتفاقيات).
يبدو امتلاك هذه الإمكانيات بالأمر الجيد وكذلك وجود أدوات معيارية مفيد لعملية القياس، ولكن مع تزايد التعقيد في سلاسل التوريد العالمية وتباطؤ محرك التناسق والتناغم في قوانين التجارة العالمية أو تحركه باتجاه معاكس، فإن القدرة على الإجابة قد تجعل هذه الأسئلة أمراً حاسماً لأي عمل يأمل النمو في الأسواق الدولية.
تناغمت قوانين التجارة العالمية في العقود الأربعة الأخيرة من خلال الاتفاقيات الدولية والمؤسسات التجارية، ولكن بدأ هذا المنحى بالانعكاس في العام 2016. إذ كانت إحدى الإجراءات الأولى للرئيس ترامب الانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية تجارة حرة بين إحدى عشرة دولة، فيما لم تصوّت بريطانيا فقط للخروج من "الاتحاد الأوروبي"، بل يبدو أنها مستعدة أيضاً للخروج من السوق الأوروبية الموحدة لمنطقة التجارة الحرة.
تنبأ داني رودريك، عالم الاقتصاد في جامعة "هارفارد" بكل هذا في العام 2007، في مدونة له بعنوان" الثالوث المستحيل في الاقتصاد العالمي" (trilemma of the world economy) – أي المأزق التي يتعين فيها تبني أحد الخيارات الصعبة من بين ثلاثة خيارات جميعها غير مرغوب بها- حيث توقع رودريك أنه سيكون من المستحيل اتباع نهج العولمة في ظل الحفاظ على الدول القومية والحكومات الديمقراطية. وأوضح أنه سيكون من الصعب الحفاظ على القواعد الدولية وتوسيع نطاقها مقابل مواجهة المتطلبات الديمقراطية للقوانين والتشريعات المحلية.
يعتبر هذا تحدياً للشركات التي بدأت تعتمد في أعمالها على القواعد المتوافقة مع نظام التجارة الدولية. من حيث المبدأ، لا يوجد مشكلة في الجمع على نحو معقول بين الديمقراطية والدول القومية وبين التجارة العالمية المفتوحة، لكن الممارسات العملية هي التي تجعل الأمر صعباً. عملياً، عندما تضع كل دولة قوانينها الخاصة واتفاقياتها الثنائية إنما تضع وصفة للفوضى والاضطراب. لا يمكن لشخص مواكبة الأوراق المطلوبة مع تحمل أعباء تلبية الاحتياجات التي يفرضها ذلك النظام، لكن الكمبيوتر يستطيع، وهو ما يقودنا نحو "إنترنت الاتفاقيات".
قد تكون الاتفاقية بسيطة بساطة المصافحة بين شخصين يثقان ببعضهما، لكن هذه الثقة لا تنتشر بعيداً عنهما. تحتاج شبكات التجارة الحديثة إلى المئات من الأشخاص للتعاون، ولا يقتصر الأمر على أطراف التجارة أو زبائنها ومورّديها، لكنه يشمل أيضاً وكلاء الجمارك ومحصلي الضرائب ووكلاء النظام القانوني. ولأننا لا نستطيع الوثوق بالجميع، فإننا نحتاج إلى أن تكون التشريعات والقوانين على هيئة أوراق. فإذا كانت هذه الأوراق صحيحة وتتوافق مع ما حدث فعلياً للحصول على المنتج بعد شحنه عبر الحدود الدولية، فعندها سنعلم أن كل شيء على ما يرام، أما وجود حالات مخالفة فهذا أمر يشير إلى حدوث مخالفات أو فساد أو خلل ما.
يعتمد العمل على الاتفاقيات التي تنظم، على سبيل المثال: إرسال تلك الشحنات وتسلمها ودفع الأجور والفواتير ونقل البضائع وتطبيق العقود واستحقاق الديون والامتثال للقوانين. يُجرى ذلك حالياً على الورق والكشوفات وفواتير الشحن وشهادات السلامة وأوراق الاعتماد المهني بتوفر التواقيع من كل الأطراف للتحقق من الموافقة. لكن المستقبل القريب سيشهد مجموعة كاملة من الوثائق الرقمية. ستتحقق تقنية البلوك تشين ومفاتيح التشفير من مصداقية البيانات وسيضمن التخزين اللامركزي عدم فقدان هذه البيانات أو إبدالها أو التلاعب بها، ما يوفر وسيلة ممتازة لإدارة الوثائق الرقمية للعمليات التجارية.
لا يعتبر هذا مجرد توفير في الورق، لكنه تغيير جوهري في طبيعة العقود والاتفاقيات. وللسبب نفسه الذي مكنتنا فيه أجهزة الكمبيوتر من معالجة قضايا أعظم تعقيداً في مجالات أخرى، فإن الكمبيوتر قد يتحقق من 476 مجموعة من التشريعات كما لو أنه يتحقق من مجموعة واحدة منها فقط. وبوجود البيانات التي توضح ما اتفق عليه بين الأطراف في العقد، وما هو المطلوب لتحقيق الامتثال للقواعد التنظيمية، فإن الكمبيوتر يستطيع البدء بإدارة الامتثال نيابة عنا. إن القوانين المقروءة آلياً والعقود المقروءة آلياً ستمكّن سلاسل التوريد المدارة آلياً.
لنأخذ حالة تتبع منتج غذائي من المزرعة إلى السوبر ماركت.
تختبر حالياً شركة "بروفينانس" (Provenance)، الناشئة، ومقرها لندن، تقنية البلوك تشين في تتبع مصدر الغذاء، وطموحها أن توفر شفافية تامة لكامل سلسلة التوريد. ومع إمكانية الوصول إلى مثل هذه المعلومات، تصبح معرفة ما إذا كانت شحنة ما متوافقة مع القوانين المحلية مشكلة يمكن حلها. ونظراً لأن اقتصاديات السعة توفر في التكاليف، فإن فكرة وجود سلسلة توريدات واضحة تماماً أصبح أمراً قابلاً للتحقيق. وكما عززت حاويات الشحن التجارة عبر توحيد معايير الشحن، فإن إنترنت الاتفاقيات ستوحد المعايير في طرق تبادل البيانات الوصفية للتجارة ومعالجتها، وهذه البيانات الوصفية مهمة للتحقق من وجود الامتثال للقواعد.
يمكن تتبع عوامل الإنتاج الأخرى وإدارتها بطريقة مماثلة. تخيل لو كان بإمكانك فحص عقود العمل التي يستخدمها الموردون، فسيمكنك عندها ضمان الحد الأدنى من معايير الأجور أو السلامة أو التعليم التي يمكن تلبيتها. عندما تُسجل مواعيد دخول عمال المصنع وخروجهم ويُدفع لهم مقابل أوقات عملهم، فإن السجل الدائم الذي سيُنشَأ على البلوك تشين سيسمح لصاحب المعمل إثبات حالة الامتثال لقوانين العمل المعيارية في الأسواق التي يباع المنتج لها، وذلك بتكلفة بسيطة.
إنها القدرة على أتمتة العمل الورقي، وهو النظام الذي سيسمح لنا بالوثوق ببعض على الرغم من بُعد المسافات والاختلافات الثقافية، وسيسمح لنا بتمديد العولمة لما وراء الحدود التي رسمها الثالوث المستحيل لرودريك. وكما ذكرنا في ورقة عمل إنترنت الاتفاقيات: "مرحلة العولمة الأولى كانت ذات طابع صناعي، حيث يجب تصنيع كل شيء وفق المعايير نفسها قبل أن يمكن للأشخاص العمل معاً. في مرحلة العولمة الثانية، أخذت الحواسيب على عاتقها تحمل التعامل مع الاختلافات في المعايير والقوانين وتفضيلات المستهلكين، ويلبي التصنيع المتقدم هذه المتطلبات لأن بإمكانه تجهيز تشغيلات صغيرة الحجم بكفاءة مصممة خصيصاً لتلبية الاحتياجات المحلية". لا تتطلب هذه البيئة الجديدة أن تكون القوانين متماثلة لدى الجميع، ويكفي أن تترابط قوانين الجميع ويُتّفق عليها بطريقة ما. يمتلك إنترنت الاتفاقيات القدرة على تسهيل هذا، ما يسمح بالتدفق التجاري الذي يكون قانونياً ويلبي حاجات السوق.