يثير الحديث عن الذكاء الاصطناعي في عالمنا اليوم الكثير من القضايا التي تحبس الأنفاس، بدءاً من قدرته على بدء العمليات الجراحية وحتى اكتشاف أورام السرطان النادرة. ولكن كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد بشكل عام؟ للإجابة شقّان؛ أولهما ما يمكن أن يُستخدم فيه الذكاء الاصطناعي، وثانيهما آليات السباق التنافسي لتبنّي الذكاء الاصطناعي، الذي من المتوقع أن يحدث بين الشركات.
يحاكي بحث جديد لمركز ماكنزي العالمي للأبحاث، التأثير العالمي المحتمل للاقتصاد الكلي لخمس تقنيات قوية (هي: الرؤية المستقبلية لعصر الكمبيوتر، واللغة الطبيعية، والمساعدون الافتراضيون، وعملية الأتمتة، وتعلم الآلة المتقدم). ويخلص البحث إلى أن الذكاء الاصطناعي يستطيع (في أثناء جمع تأثير المنافسة وتكاليف العملية الانتقالية نحو هذا الذكاء) أن يحقق 13 تريليون دولار، تُضاف إلى إجمالي الناتج المحلي العالمي، في حلول عام 2030؛ أي بمتوسط 1.2% من نمو إجمالي الناتج المحلي في الفترة نفسها. وهذا ما يفوق تأثير كلاً من عصر الثورات الصناعية التي اعتمدت على البخار في القرن التاسع عشر، وتصنيع الروبوتات في القرن العشرين، وتكنولوجيا المعلومات في مطلع القرن الواحد والعشرين.
يعتمد متوسط التأثير في إجمالي الناتج المحلي على عوامل متعددة؛ فعلى مستوى الصناعات تشمل العوامل: (أ) مدى انتشار الذكاء الاصطناعي في الاقتصادات، (ب) تراكم أرباح الشركات، (ج) ديناميكيات سوق العمل.
تتوقف النمذجة والمحاكاة على خاصيتين مهمتين؛ الأولى توافر بيانات عالية الجودة من استبيانين أجراهما مركز ماكنزي العالمي للأبحاث وشركة ماكنزي في عام 2007؛ أحدهما شمل نحو 1,600 مسؤول تنفيذي في صناعات متخصصة في التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي؛ للتحقق من أسباب التأثير الاقتصادي والوتيرة المحتملة لهذا الأثر، وشمل الثاني أكثر من 3,000 شركة في 14 قطاعاً في 10 بلدان. أما الخاصية الثانية للمحاكاة، فهي التقديرات الدقيقة لوتيرة تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي واستيعابها.
وتيرة أسرع لتبنّي الذكاء الاصطناعي
نحن نعلم أن التقنيات غالباً ما تستغرق وقتاً طويلاً للانتشار وتحقيق المنافع؛ فقد استغرقت الكهرباء أكثر من 30 عاماً حتى انتشرت، وأصبح تصميم المنشآت الصناعية التي استطاعت توليد نمو كبير في الإنتاجية متاحاً. واستغرق البخار عقوداً عدّة لدفع عملية نشر خدمات السكك الحديد، وخلق سوق كبير من التبادلات في الولايات المتحدة. وكانت شركة أمازون، التي تأسست منذ 24 عاماً، قد استحوذت على نحو 45% من تجارة التجزئة عبر الإنترنت في الولايات المتحدة، في حلول عام 2017، ولكنها لا تزال تمثل نحو 5% فقط من إجمالي حجم تجارة التجزئة في الولايات المتحدة، في ذلك العام.
كيف يقارن انتشار الذكاء الاصطناعي باستيعاب المجموعة المبكرة من التقنيات الرقمية، مثل الشبكة العنكبوتية والمحمول والسحابة والبيانات الضخمة؟ بدأ استخدام هذه التقنيات منذ ما يتراوح بين 10 و25 عاماً، وبلغ متوسط مستوى استيعاب هذه التقنيات نحو 37% في عام 2017. وتشير المحاكاة التي أجريناها إلى أنها قد تصل إلى 70% في حلول عام 2035. وبالمقارنة؛ فإن استيعاب الذكاء الاصطناعي قد يبلغ في خلال عشر سنوات مستوى استيعاب التقنيات الرقمية اليوم، وذلك في حلول عام 2027.
ثمة نوعان من الأسباب البارزة وراء تبنّي الذكاء الاصطناعي، واستيعابه بوتيرة أسرع هذه المرة؛ أما أحدهما فهو اتساع طرق استخدام الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك المجالات التي لا تزال الرقمنة فيها غير منتشرة بدرجة كبيرة، مثل أتمتة الخدمات والأتمتة الذكية لعمليات التصنيع. أما السبب الثاني فهو أن عوائد السبّاقين إلى تبني هذه التقنيات تميل إلى أن تكون كبيرة؛ إذ سيحققون استفادة من الابتكارات التي تمكنهم من خدمة أسواق جديدة (وربما فتحها)، وفي الوقت نفسه، كسب حصة ممن لم يتبنوا الذكاء الاصطناعي في الأسواق القائمة. إن إدراك مشكلة المزاحمة الذاتية كبير في الشركات التي شملتها الدراسة، تماشياً مع تجربتها في الرقمنة المبكرة، وظهور العديد من نماذج الأعمال الجديدة.
نفترض في بحثنا أن نحو 70% من الشركات قد تتبنّى بعض تقنيات الذكاء الاصطناعي، بحلول عام 2030، مقارنة بـ 33% اليوم، وقد تصل نسبة الشركات التي استوعبت الذكاء الاصطناعي كاملاً إلى نحو 35%، مقارنة بـ 3% فقط اليوم. وتوضح مؤشرات الاقتصاد القياسي أن ضغوط التنافسية بين الأقران، هي المؤثر الأكبر في قرار تبنّي الذكاء الاصطناعي، وتشغيله في جميع وظائف المؤسسة. ويُعد تأثير ضغط الأقران في حافز تبنّي الذكاء الاصطناعي قيمة أُسّيّة، أكبر من تأثير الربحية المتوقع لهذه التقنية، أو من الفكرة المتكونة عن التأثير الذي أحدثه في السنوات الأخيرة.
سباق بين الشركات
حتى في حال تطور سباق التكنولوجيا، فإن بعض الشركات سوف تتبنّى الذكاء الاصطناعي سريعاً، مقابل شركات أخرى تتبنّاه بسرعة أقل، وستتراوح فوائد الذكاء الاصطناعي وفق ذلك. ويمكن تعزيز وتيرة تبنّي التقنية من خلال ديناميكيات القطاع، وعن طريق خصائص الشركات مثل حجمها ومدى عولمتها، ولكن يمكن أيضاً أن تعيقها قيود مثل القدرات المبكرة في الرقمنة، أو الجمودية المؤسسية.
حاكَينا التأثير الاقتصادي للذكاء الاصطناعي في ثلاث مجموعات من الشركات، هي: "السبّاقون"، و"الأتباع"، و"المتخاذلون". تحصد المجموعة الأولى أكبر الفوائد للذكاء الاصطناعي، فيما تحصد المجموعة الثانية جزءاً من هذه الفوائد المتعلقة برفع الإنتاجية العامة للذكاء الاصطناعي. وقد يواجه المتخاذلون - ومنهم كثيرون لم يتبنّوا التقنية - تقلُّص حصتهم في السوق، وربما لا يجدون مفراً سوى الخروج من السوق تماماً على المدى الطويل.
فيما يتعلق بالسبّاقين، يشير متوسط المحاكاة لدينا إلى أن 30% من الشركات تقريباً، قد تكون استوعبت المجموعة الكاملة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في عملياتها، بحلول عام 2030. ونصف هذه الشركات تقريباً سيقوم بذلك في خلال نصف المدة المتبقية، وقد تزيد سيولة التشغيل لديها إلى أكثر من الضعف بحلول 2030. ويتساوى هذا مع استدامة معدل نمو طويل الأجل بنسبة 6% سنوياً؛ بفضل الذكاء الاصطناعي. وعادة ما تنمو هذه الشركات بالمعدل نفسه لشركات الأداء العالية النمو. ولا تجري عملية توليد النقد بشكل خطّي، بالنظر إلى أن أثر الذكاء الاصطناعي يتزايد مع مرور الوقت؛ فقد يكون الأثر سلبياً في السنوات الأولى، ثم يصبح إيجابياً ويتقدم بسرعة بعد فترة تتراوح بين خمس سنوات وسبع. وفي هذه الفترة الأولية، قد يشهد السبّاقون تدفقات نقدية خارجة، في الوقت الذي يستثمرون فيه في الذكاء الاصطناعي ويتوسعون في ذلك. لكن مع مرور الوقت، سوف يميل هؤلاء - في تمهُّل - إلى التركيز على ركن الأرباح في صناعتهم، في إطار ظاهرة "الفائز يجني أكثر".
أمّا الأتباع فهم شركات بدأت بتبنّي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واستيعابها بحذر، بعد أن شاهدت التأثير الملموس الذي يتمتع به السبّاقون، وبعد أن أدركوا التهديد التنافسي لعدم تبنّيهم واستيعابهم التكنولوجيا. افترضنا أن 20% - 30% من الشركات ستكون في هذه الفئة بحلول عام 2030. وبالنسبة إلى هذه الشركات، فمن المرجح أن تكون وتيرة التغير ودرجته في التدفق النقدي أكثر اعتدالاً، وعادةً ما تكون أقل من متوسط زيادة الإنتاجية التي يشهدها اقتصادها. من ناحية، أثار السبّاقون بعض الآثار الجانبية التي نشرت بعض الفوائد على الأتباع، ومن ناحية أخرى، يفقد الأتباع حصصهم في السوق لصالح السبّاقين.
أما المتخاذلون فهم الشركات التي لا تستثمر في الذكاء الاصطناعي على محمل الجد، أو لا تستثمر فيه على الإطلاق. لماذا لا يقفز المتخاذلون إلى الذكاء الاصطناعي؟ الجواب هو أنهم قد يواجهون قيوداً قصيرة الأجل، وقد يراهنون بالخطأ على أن الوقت يقف إلى جانبهم. إنّ تكلفة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، تعني أن الاختلاف بين الشركات فيما يخص موقفها تجاه تبنّي هذه التكنولوجيا، قد يؤثر فقط في اقتصاداتها بعد بضع سنوات؛ وهذا ما يمكن أن يثنيهم عن فعل شيء حيال الأمر. وقد تفقد هذه الشركات نحو 20% من التدفق النقدي، مع حلول عام 2030 مقارنةً باليوم. وقد يكون لدى المتخاذلين مشكلات في القدرات الرئيسة؛ تمنعهم من الانضمام إلى سباق الذكاء الاصطناعي؛ وقد يحتاجون ساعتئذ إلى الاستجابة بطرق أخرى، مثل الحد من التكاليف وخفض الاستثمار. ويأتي الانخفاض في التدفقات النقدية في آخر الأمر، ولكنه يمثل انحداراً كبيراً عند مجيئه.
يبدو أن السباق التنافسي الشرس بين الشركات آخذ في الاستمرار، مع اتساع الفجوة بين المستثمرين في الذكاء الاصطناعي وبين غيرهم. ويمكن أن تسهّل هذه الفجوة "التدمير الخلّاق" والمنافسة بين الشركات؛ إذ تؤدي إعادة تخصيص الموارد نحو الشركات ذات الأداء الأعلى، إلى تحسين حيوية الاقتصادات الإجمالية. ولكن لا شك في أن التحول قد يسبب اضطرابات وصدمة في الاقتصاد. وتحتاج هذه المقايضات إلى من يفهمها ويديرها بشكل مناسب؛ من أجل تحقيق المكاسب للاقتصاد الدولي من إمكانات الذكاء الاصطناعي.