تشجعنا غالبية النصائح المهنية اليوم على التقدم في مساراتنا المهنية بشغف وبخطوات مدروسة وجريئة، والأهم من ذلك كله أن نتقدم بسرعة، ولن يجني المدربون المهنيون أرباحاً كبيرة إذا ما شجعوا الموظفين على "التأني في تقدمهم المهني"؛ ولكن قد يكون الصبر ميزة مهمة في تحقيق أهداف النجاح المهني البعيدة الأجل.
لا نعني بذلك أن الانتظار سهل، بل قد يكون محبطاً ومثيراً للتوتر حتى. ويُوصف شباب اليوم عادة بأنهم تواقون لإحراز التقدم، وشهدتُ ذلك في شركتنا فعلاً فقد كان بعض الموظفين الأصغر سناً هم الأكثر ضجراً وإصراراً على التقدم السريع، وقد يتعذّر إقناعهم بأن التقدم يستغرق وقتاً طويلاً وأن أخذ الوقت الكافي لتحقيق الأهداف دون عجلة ليس أمراً سلبياً.
أردت أن أعرف إذا كان تأخير التقدم المهني شائعاً بين كبار المسؤولين التنفيذيين؛ هل هو تجربة يخوضها الجميع في مرحلة ما من حياتهم المهنية؟ وما أثرها في الأشخاص الطموحين الذين يسعون إلى تحقيق النجاح المهني على المدى البعيد؟ أجريت استقصاءً على مجموعة مكونة من 45 مسؤولاً تنفيذياً من النساء والرجال بالتساوي تقريباً، وكان معظمهم من الرؤساء تنفيذيين أو الأعضاء منتدبين في مؤسساتهم. وكان متوسط سن النساء 50 عاماً، في حين كان متوسط سن الرجال 42 عاماً.
أفادت غالبية النساء تقريباً بأنهن مررن بفترة زمنية تباطأ فيها تقدمهن أو تغيّرت اتجاهات مساراتهن أو توقفت حياتهن المهنية مؤقتاً مدة 4 سنوات وسطياً، وأشرن إلى أن المسؤوليات العائلية كانت السبب في تباطؤ تقدمهن، ومنهن من اخترن إبطاء تقدمهن المهني عمداً. لكن على الرغم من فترة التباطؤ التي مررن بها، حصلت غالبيتهن على وظائف عالية المستوى في مؤسساتهن بين منتصف الأربعينيات وبداية الخمسينيات من أعمارهن.
وفي المقابل، أفاد أقل من نصف الرجال (43%) بأنهم مروا بفترة تغيّرت فيها توجهاتهم المهنية أو تباطأت أو توقفت حياتهم المهنية مؤقتاً، وأشار رجل واحد فقط إلى الأسرة باعتبارها سبب تباطؤ مساره المهني. عزا معظم الرجال التأخير في مساراتهم المهنية إلى تغييرهم قطاع العمل (بحثاً عن أجور أعلى أو فرص عمل أفضل) أو مرورهم بفترة عانوا فيها البطالة.
وعلى الرغم من أن استقصائي لم يكن علمياً، فثمة بحوث أخرى تؤكد أن النساء يمتلكن ميزة الصبر أكثر من الرجال؛ فعند دراسة مجموعة الرئيسات التنفيذيات الـ 24 ضمن قائمة فورتشن 500 مثلاً، وجدنا أن متوسط سنهن عند تقلّدهن الرئاسة التنفيذية بلغ 53 عاماً تقريباً؛ أي أكبر بثلاث سنوات من متوسط سن الرؤساء التنفيذيين الرجال؛ وكشف استقصاء أجرته شركة ماكنزي أن النساء يحصلن على ترقيات استناداً إلى النتائج التي يحققنها، في المقابل يحصل الرجال على الترقية استناداً إلى إمكاناتهم المُتصوّرة.
وعلى الرغم من أن هذا التباين يمثل مشكلة، فأنا أفضّل التركيز على ثمار الصبر التي نجنيها في النهاية لا على العقبات التي تفرضها الأمومة أو الفوارق بين الجنسين. على سبيل المثال، أظهرت دراسة طولية أُجريت على الأمهات العاملات أن الموظفات المسؤولات عن رعاية الأطفال يتقدمن ببطء مقارنة بمن ليس لديهن أطفال، ولكن هذه الفجوة تتقلص مع مرور الوقت وتختفي تماماً في سن الخمسين؛ يتوافق ذلك مع النتائج التي توصلت إليها: على الرغم من أن الموظفين الآباء والأمهات استغرقوا وقتاً أطول لتحقيق أهدافهم المهنية، فقد تمكنوا من تحقيقها في نهاية المطاف.
وفي الواقع، أعرب العديد من المشاركين في الاستقصاء غير الرسمي الذي أجريته عن رضاهم عن مساراتهم المهنية المستقرة وأنهم تعلموا دروساً مهمة من تجاربهم. وعلى وجه التحديد، صرّحت نسبة 90% من النساء بأن رفضهن العجلة أو صبرهن أسهم في تحسين مساراتهن المهنية، وكانت النسب متماثلة في الفئة الأصغر من الرجال الذين أبلغوا عن تباطؤ في تقدمهم المهني.
السبب الرئيسي هو الرغبة في تجنب الاحتراق الوظيفي، وقد خضت هذه التجربة شخصياً عندما كنت في عقدي الثالث أرعى 4 أطفال وأعمل بدوام كامل في مكتب؛ إذ قضيت فترة لا تقل عن عقد من الزمن قبل أن أستأنف تقدمي المهني المستقر الذي لاحظته بين معظم زملائي وزميلاتي اللاتي لم يكن لديهن أطفال. وبصفتي اليوم الرئيسة التنفيذية لشركة ناجحة في إدارة الاستثمارات، أعتقد أن استعدادي للاستمتاع بالحياة العائلية والمهنية في الوقت نفسه أسهم في نجاحي على المدى الطويل، ولربما عانيت الاحتراق الوظيفي لو أنني بذلت قدراً أكبر من الجهد في العمل. أعتقد أيضاً أن فعالية الإنسان في التفكير والتعاون تصبح أعلى عندما يحافظ على حياة متوازنة وصحية.
وصف مشاركون آخرون في الاستقصاء مساراتهم المهنية بأنها مدروسة بعناية، واستخدموا كلمات مثل "القدرة على التحمل" و"المثابرة" و"الإصرار" و"التفاني" لوصف التزامهم المهني. على سبيل المثال، وصفت الأستاذة روبن إيلي من كلية هارفارد للأعمال تطور مسارها المهني بأنه "تقدم مدروس"، وعلى الرغم من أن عمل زوجها في منصب رفيع المستوى بمجال الخدمة العامة أجبرهما على الانتقال إلى نيويورك، فقد نجحت في إدارة مسارها الأكاديمي بعناية وحصلت في النهاية على تثبيت وظيفي في كلية هارفارد للأعمال. في الواقع، يُسهم اتباع مسار "مدروس" في تدارك المشكلة التي تواجه العديد من المسؤولين التنفيذيين الطموحين، وهي إدراكهم أنهم اختاروا مساراً مهنياً غير مناسب عند وصولهم إلى قمة السلم الوظيفي.
أخيراً، ذكر بعض المشاركين الآخرين أن أخذ الوقت الكافي أتاح لهم تطوير المهارات التي يحتاجون إليها ليصبحوا قادة فعالين على المدى الطويل. خذ مثلاً ديانا، وهي محامية تطمح أن تصبح شريكة في إحدى شركات المحاماة في نيويورك، إذ اتخذت قراراً استراتيجياً بتولي منصب المديرة التنفيذية لمؤسسة محلية غير ربحية عندما كان أطفالها صغاراً جداً، فاكتسبت من هذه التجربة خبرة في الإدارة العليا في بيئة عمل قليلة الضغوط، ما مكّنها من الانتقال مجدداً إلى مكتب محاماة حصلت فيه على ترقية إلى منصب شريكة وانضمت في نهاية المطاف إلى فريق الإدارة العليا. تعتقد ديانا أن فترة عملها في المؤسسة غير الربحية كانت ذات قيمة عالية أسهمت في تقدمها المهني، فقد أصبحت قائدة متمرسة وواثقة بخبرتها التنفيذية التي اكتسبتها بعد مواصلتها العمل في مجال قانون الشركات.
ستجني فوائد عديدة من التأني في مسارك المهني، سواء كان مبنياً على قرارات مدروسة أو غير متعمد.
على الشبان والشابات الذين يواجهون تحديات في اتخاذ القرارات خلال فترة العشرينيات والثلاثينات من أعمارهم أن يتذكروا أن النجاح المهني لا يتحقق بسرعة، وهو حسب قول أحد المشاركين في الاستقصاء أقرب إلى سباق الماراثون منه إلى سباق المسافات القصيرة.