منذ الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية عام 2016، زادت المخاوف تجاه تداول الأخبار "المزيفة" وغيرها من المحتويات الرقمية غير المؤكدة. ومع اعتياد الناس اعتمادهم على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، أُثير جدلاً واسعاً حول دورها في انتشار المعلومات المغلوطة. وتم تركيز الاهتمام مؤخراً على تطبيق مرشحات للتأكد من الحقائق، وذلك، لأن الادعاءات الكاذبة غالباً ما تبقى في الوعي العام حتى بعد تصحيحها.
بدأنا باختبار تأثير السياق الذي تُعالج فيه المعلومات على استعدادنا للتحقق من الادعاءات الغامضة. وتوصلنا بناء على ما تكشفه نتائج ثمان تجارب إلى أنّ نسبة تأكد الناس من الحقائق تقل عندما يقيّمون البيانات في بيئة جماعية (مثلاً ضمن مجموعة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي) أكثر من الحالات التي يكونون فيها بمفردهم. يعود تفسير هذا الأمر إلى أنّ إدراك حضور الآخرين يقلل من يقظة وحذر المشاركين عند معالجة المعلومات، ما ينتج عنه تدني مستويات التأكد من الحقائق.
استطلعت تجاربنا أكثر من 2,200 شخص بالغ من الولايات المتحدة عبر خدمة "أمازون ميكانيكل تورك" (Amazon Mechanical Turk)، حيث تكوّن النموذج العام على النحو التالي: كجزء من دراسة حول "أوضاع التواصل عبر الإنترنت"، سجل المشاركون دخولهم إلى موقع إلكتروني مُحاكى وقيّموا سلسلة من البيانات. تكوّنت هذه البيانات من مجموعة الادعاءات الغامضة (والتي كان نصفها صحيحاً والنصف الآخر منها خاطئاً) في عدة مواضيع تبدأ من حوادث حالية (مثل "أعلن العلماء رسمياً عن موت الحاجز المرجاني العظيم") إلى تصريحات المرشحين السياسيين الحزبية (مثل "يدفع المهاجرون غير الموثقين 12 مليار دولار سنوياً إلى الضمان الاجتماعي").
كان على المشاركين تعليم ما إذا كان كل بيان من البيانات المذكورة في الموقع صحيحة أم خاطئة، أو تحديده للتأكد من حقيقة ذلك البيان. بالإضافة للمبلغ الثابت الذي يُدفع لكل مشترك، أُتيح لكل شخص فرصة الحصول على مكافأة بناء على أدائه (مثلاً، يحصلون على نقطة 1+ عند الإجابة الصحيحة وعلى 1- عند الإجابة الخاطئة على التوالي، إذ تعادل كل نقطة 5 سنت). في بعض الدراسات، لم يحصل المشاركون على أي نقاط عند الإشارة لعبارة ما بأنها بحاجة للتحقق، وفي دراسات أُخرى تلقوا عقوبة أو مكافأة صغيرة عند الإشارة للخطأ المحتمل لعبارة غير مناسبة. وفي حالات أُخرى أيضاً، أدخلنا هؤلاء الأشخاص في سحب يانصيب بقيمة 100 دولار في حال حصولهم على نسبة 90%. إذن، لم يغير هيكل الحوافز هذا من النمط العام الذي وجدناه.
تنوعت إجابات المشاركين في التجربة الأولى ما بين (صحيح وخاطئ ومشار إليه على أنه خاطئ) على 36 بياناً وُصفت كعناوين أخبار نشرتها مؤسسة إعلامية في الولايات المتحدة. وأثناء قيام المشاركين بالمهمة، لاحظ نصف المشاركين اسم المستخدم الخاص بهم ظاهراً بشكل منفرد على جانب الشاشة، في حين لاحظ النصف الآخر منهم أسماء المستخدمين الآخرين الذين يبلغ عددهم 102 والذين يظهر أنهم موجودون حالياً، مع افتراض أنهم ينجزون المهمة نفسها. وكانت النتيجة أنهم علّموا عدداً أقل من البيانات (أي تأكدوا من صحتها) بعد إدراكهم لحضور أشخاص آخرين.
حاولنا لاحقاً محاكاة الحضور الاجتماعي في بيئة أكثر طبيعية. وبعد أن ظهرت أسماء المستخدمين إما منفردة أو إلى جانب أسماء أُخرى، قيّم نصف المشاركين "عناوين الأخبار" على الموقع الإلكتروني والتي اُستخدمت في الدراسة السابقة (ما يعكس منصة إعلامية أكثر "تقليدية")، في حين قرأ النصف الآخر العناوين نفسها لكن مع تقديمها كأخبار تنشرها المؤسسة عبر "الفيسبوك". في الموقع التقليدي تكررت النتيجة، إذ أشار المشاركون إلى عدد أقل من البيانات عندما لاحظوا وجود أشخاص آخرين مقارنة بالحالات التي اعتقدوا فيها أنهم بمفردهم. إلا أنّ المشاركين الذين قرؤوا منشورات "الفيسبوك" أشاروا إلى عدد أقل من البيانات بغض النظر عمّا إذا كانوا قد رأوا أسماء أُخرى على الشاشة. وبالنتيجة، فإنّ تصفح المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهو سياق اجتماعي بطبيعته، جعل الأفراد يتصرفون كما لو أنهم في مجموعة.
وفي تجربة أخرى، استنتجنا أنه يتم استشعار حضور الآخرين حتى لو كانوا غير مشاركين بنشاط ما في الوقت نفسه. كما قلّ خيار الإشارة للخطأ المحتمل عندما لاحظ الناس وجود أسماء أُخرى على الشاشة حتى عند وصف مشاركين آخرين بمستخدمين سجلوا دخولهم وأنجزوا المهمة قبل أسبوع.
لماذا تؤدي البيئات الجماعية إلى امتناع الناس عن التأكد من الحقائق؟ ربما يكون أحد الأسباب هو أنهم ببساطة شعروا بثقة أكبر تجاه إجاباتهم عندما شعروا بوجود الناس حولهم. ولكن هذا لا يبدو تفسيراً محتملاً، إذ أننا عندما طلبنا من المشاركين إفادتنا عن مدى ثقتهم ويقينهم تجاه إجاباتهم، وجدنا أنها لم تختلف باختلاف بيئة التقييم سواء كانت انفرادية أو جماعية. كما وجدنا أنّ أداءهم لم يختلف بانتظام عندما كانوا على انفراد أو ضمن مجموعة.
الحجة الثانية هي اعتماد الناس على جهود الآخرين كما يُظهر أحد الأبحاث حول "نشر المسؤولية وتأثير المتفرّج" (على سبيل المثال: "إذا كان الجميع يتحقق من صحة المعلومات لم علي أن أفعل ذلك أيضاً؟"). ولكن على الرغم من هذا لم يستطع المشاركون في أغلب دراساتنا الاعتماد على الآخرين للتأكد من صحة المعلومات. كما اختبرت تجربة منفصلة إمكانية إشعار أشخاص ضمن مجموعة ما بالمسؤولية الفردية، وهل يمكن لهذا الإجراء أن يصحح عقلية "العبث" هذه. يقرأ المشاركون في هذه التجربة 38 بياناً حول أعضاء الكونغرس رجالاً ونساء في الولايات المتحدة، مع ظهور الاسم الشخصي فقط للبعض وأسماء "أعضاء من الفريق" يقومون بالمهمة نفسها للبعض الآخر. وهناك فئة ثالثة ظهرت أسماؤهم بارزة باللون الأحمر لتمييزهم عن الأسماء الأُخرى باللون الأسود. وعلى الرغم من شعور هؤلاء المشاركين بقدر أكبر من المسؤولية، لازال استخدامهم للتعليم أقل من أولئك الذين أنجزوا المهمة بشكل منفرد. لذلك لا يمكن "للعبث" أن يشرح هذه السلوكيات التي نلاحظها.
تحققنا أيضاً من إمكانية الاستعانة بنوع محدد من قواعد المحادثة، والتي نفترض فيها أنّ المتحدث صادق، وبالتالي تجنب التعبير عن التشكيك تفادياً للإساءة إليه، وخاصة في البيئات الجماعية لتفسير النتائج. لكن نتائجنا لا تدعم هذا التفسير لأن المشاركين لم يصدقوا المعلومات أكثر بوجود أشخاص آخرين، كل ما في الأمر أنهم تأكدوا من المعلومات بمعدل أقل. لذلك قيّمنا مباشرة فيما إذا كان الأفراد في البيئات الجماعية أكثر استعداداً عندما لا تكون تلك القاعدة بهذا القدر من الوضوح، كما هي الحالة عند تقييم ادعاءات المرشحين السياسيين. وبما أنّ الناس يتوقعون عادة أنّ السياسيين غير صادقين (كما تشير البيانات الصادرة عن أحد الاختبارات الأولية)، يجب أن تقل شكوكهم المعبّرة عن عدم ثقتهم خلال التأكد من صحة تصريحاتهم.
قيّم المشاركون 50 تصريحاً تابعاً للحملات الانتخابية لسياسيين من الولايات المتحدة قبل إحدى الانتخابات: وكانت النتائج: أنّ تصريحات المرشح (أ) كانت ذات رؤية المعتدلة، بينما عكست تصريحات المرشح (ب) رؤية ليبرالية. وكما في الدراسات السابقة، ظهرت أسماء المشاركين إما منفردة أو إلى جانب أسماء مشاركين آخرين. وعلى الرغم من أنّ الناس عرّفوا عدداً أكبر من البيانات على أنها صحيحة عندما تطابقت الآراء المذكورة مع انتماءاتهم الشخصية، إلا أنّ هذا التطابق لم يؤثر على معدلات التأكد من صحة البيانات، إذ أنّ العامل الذي أثر فعلاً على معدل التعليم هو تقييمهم للعبارات بشكل فردي أو جماعي. باختصار، حتى مع المصادر التي يُنظر إليها على أنها أقل جدارة بالثقة (أي السياسيين)، لم يعلّم المشاركون الكثير من البيانات في الحالات التي كانوا يعتقدون فيها أنهم ضمن مجموعة.
إحدى التفسيرات الواردة أيضاً هو أنّ وجودنا مع أشخاص آخرين يقلّل من درجة حذرنا تلقائياً. يشير أحد الأبحاث حول سلوك الحيوانات والبشر إلى قاعدة "السلامة بالكثرة"، والتي تنص على أنّ الحشود (أو القطعان) تقلل من يقظتها، ربما لأننا نعتقد أنّ الخطر الذي يحصل سيتوزع على الجميع. ولأن التأكد من صحة الحقائق يتطلب قدراً من الوعي، وربما تُطبق آلية مشابهة عندما يكون الناس على اتصال مع أفراد آخرين عبر الإنترنت.
بالتأكيد هناك بعض الأدلة التي دعمت مصداقية هذه الفكرة. أولاً، كان معظم المشاركين (في تجربة أُخرى) ممن حققوا درجات عليا في التركيز على الوقاية الدائمة، (وهي سمة مرتبطة بالحذر واليقظة بشكل معتاد) وأصحاب مناعة ضد تأثير الحضور الاجتماعي. بمعنى أنّ هؤلاء المشاركين تأكدوا من صحة الحقائق عندما كانوا بصحبة آخرين بشكل مطابق للحالات التي كانوا بمفردهم فيها. ثانياً، كان أداء الأشخاص الذين أدّوا مهمة التدقيق في بيئة جماعية أسوأ من أولئك الذين قاموا بالمهمة بمفردهم، ما يشير إلى أنّ الحضور الاجتماعي يُضعف يقظتنا. وأخيراً، عندما عززنا عقلية اليقظة من خلال قيام الناس أولاً بالتمارين المبينة لزيادة التركيز على اليقظة بشكل مؤقت، استخدم المشاركون الذين كانوا في وضع جماعي خيار الإشارة إلى الخطأ ضعفي عدد مرات استخدام هذا الخيار من قبل الأشخاص الذين لم يحصلوا على هذا التشجيع.
عموماً، تضاف هذه النتائج إلى المحادثات المستمرة حول المعلومات المغلوطة في البيئات شديدة الترابط عبر الإنترنت. وغالباً ما يشير منتقدو وسائل التواصل الاجتماعي إلى اشتراكها في إنشاء ما يسمى بـ"غرف الصدى" التي تعرضنا بشكل انتقائي إلى آراء الناس أصحاب التفكير المشابه لنا وإلى المحتوى الذي يطابق معتقداتنا ويعززها. ولكن يمكننا أن نستنتج من تردد المشاركين في التشكيك بالادعاءات (حتى بحضور الغرباء) إلى أنّ هذا التأثير ربما يكون مضخّماً وغير واقعي.
لقد لاقت بعض الجهود المبذولة مؤخراً، والمعززة بإشراك الجمهور في عملية التحقق، بعض النجاح في تقليل نشر الأخبار غير الموثوقة. ففي عصر مشاركة المعلومات باستمرار وسرعة، تزداد الحاجة إلى تطوير أدوات تشجع الناس على استقبال المحتوى بعين ناقدة. كما أنّ فهم متى يمكننا التأكد مما نقرؤه يمكن أن يساعد في توجيه هذه المبادرات.