آفاق استخدام تقنية البلوك تشين في تنظيم السجلات الصحية الإلكترونية

5 دقائق
البلوك تشين في الصحة

تواجه أنظمة الرعاية الصحية حول العالم معضلة مزعجة تتمثل في معرفة الكيفية التي يمكن من خلالها مشاركة المزيد من المعلومات الطبية مع عدد أكبر من أصحاب المصلحة لخدمة أهداف أكثر مع الحفاظ على سلامة البيانات وحماية خصوصية المرضى في نفس الوقت، فماذا عن استخدام البلوك تشين في الصحة تحديداً؟

جرت العادة على تبادل البيانات الطبية بين المؤسسات وفقاً لأحد النماذج الثلاثة التالية: نموذج الإرسال ونموذج الطلب ونموذج الاطلاع (وسنتطرق لها بالشرح في السطور التالية)، ويتميز كل منها بعناصر إيجابية وأخرى سلبية. بينما تقدم تقنية البلوك تشين (سلسلة الكتل) نموذجاً رابعاً قد يحمل في طياته القدرة على مشاركة السجلات الطبية بشكل آمن مدى الحياة بين مزودي خدمات الرعاية الصحية.

استخدام البلوك تشين في الصحة

يعتمد "نموذج الإرسال" على فكرة إرسال حزمة من المعلومات الطبية من مزود خدمة إلى آخر، حيث يوجد في الولايات المتحدة معيار لأمن البريد الإلكتروني يدعى "دايركت" (Direct) يستخدم لتأمين النقل المشفر للبيانات بين الطرف المرسِل (مثلاً، طبيب غرفة الطوارئ) والطرف المستقبِل (مثلاً، طبيبك المعتاد الذي يعرفك). وعلى الرغم من اعتماد هذا الأسلوب دون مشاكل فيما مضى بين مزودي الرعاية الصحية، فإنه يتطلب توفر بنية تحتية تسبقه لتضمن عمله كما ينبغي. مثل وجود دليل إلكتروني بعناوين مزودي الخدمات في المجتمع المحلي ووجود عدد من الموافقات القانونية التي تسمح بالمشاركة الواسعة للبيانات. إن نموذج الإرسال هو أسلوب لنقل البيانات بين طرفين لا ثالث لهما، إذ لا سبيل لأي طرف آخر للاطلاع على ما تم تبادله. فإذا انتهى بك المطاف إلى مستشفى جديد، فلن يستطيع العاملون فيه الوصول إلى بيانات الرعاية الصحية التي تم إرسالها إلى المستشفى الأول. وليس هناك ضمان لسلامة البيانات بين الطرف المرسل والطرف المستقبِل الذي يستعمل هذا الأسلوب، إذ يُفترض بالنظام المرسل أنه قام بتوليد حزمة دقيقة من البيانات وأن النظام المستقبل استوعبها بدقة أيضاً، دون تدقيق معياري معتمد للتحقق من سلامة العملية.

أما "نموذج الطلب"، فيحدث من خلال طلب أحد مزودي الخدمة المعلومات من مزود آخر. مثلاً، قد يطلب طبيب القلب الذي يعاين حالتك الصحية معلومات من طبيبك الخاص الذي تزوره عادة. وكما في حالة نموذج الإرسال، جميع الموافقات التي تحصل لإتمام العملية غير رسمية، وتتخذ في حينها، ولا يوجد تدقيق معياري يطالها للتحقق من سلامتها.

أما فكرة النموذج الثالث، "نموذج الاطلاع"، فتتلخص في تمكين أحد مزودي الخدمة من الاطلاع على البيانات ضمن سجلات مزود آخر. فمثلاً، قد يطالع جراح يعمل في غرفة عمليات تابعة لمستشفى معين صورة أشعة سينية (أشعة إكس) أخذتها سابقاً في أحد مراكز العناية الطبية العاجلة (الطوارئ). مجدداً، تعتمد مقاربة أمن البيانات على الظروف في وقتها، ولا يتخللها تدقيق معياري، ولا تشترط بالضرورة وجود علاقة مسبقة بين المريض ومزود الخدمة.

ولا ضير في أي من هذه المقاربات من الناحية التكنولوجية، لكن السياسات التي تحكمها تخضع للاختلافات المؤسسية، والممارسات المحلية، وقوانين كل ولاية أميركية، ومدى متانة تطبيق سياسة الخصوصية على المستوى الوطني.

تتميز تقنية البلوك تشين بأنها ذات تركيبة مختلفة، فهي تملك طقم أدوات معتمد عالمياً لضمان سلامة البيانات بواسطة التشفير والتدقيق المعياري، إضافة إلى "عقود" ذات صبغة رسمية للوصول إلى البيانات.

أما الفكرة الأساسية فهي كالتالي:

كان التصور الأولي لتقنية بلوك تشين لتكون كدفتر حسابات للتعاملات المالية، حيث تضع كل مؤسسة مالية قائمة مشفرة تضم جميع معاملات السحب والإيداع الخاصة بها. فتستخدم البلوك تشين أساليب تشفير المفتاح العام لإنشاء محتوى متسلسل غير قابل للتغيير إلا بالإضافة إليه. ثم توزع نسخة من هذا التسلسل على كل طرف مشارك في الشبكة.

والحاصل اليوم أن لملمة البيانات الطبية بطريقة متوافقة يتم يدوياً بين العيادات والمستشفيات والمختبرات والصيدليات وشركات التأمين. وهذا الأسلوب تعتريه ثغرات لغياب قائمة موحدة بجميع الأماكن التي يمكن العثور فيها على البيانات أو الترتيب الزمني الذي أُدخلت فيه. بمعنى آخر، بإمكاننا الآن معرفة كل وصفة طبية تم صرفها، لكن لا يمكننا معرفة العقاقير التي يأخذها المريض حالياً. عدا عن ذلك، وعلى الرغم من كل التحسن الذي طرأ على معايير البيانات في وقتنا الحاضر، لا تزال السجلات الصحية الإلكترونية تخزن البيانات تبعاً لخطوات ومسارات عمل مختلفة، ما يخفي هوية من سجّل كل تفصيلة وتوقيت التسجيل.

تخيل ما سيكون عليه الحال لو أن كل سجل صحي إلكتروني مرسل – حول الوصفات الطبية والمشاكل الصحية وتفاصيل الحساسية – يصل إلى دفتر حسابات موثوق ومفتوح المصدر على مستوى المجتمع المحلي، ما يجعل أي إضافة أو حذف يطال السجل الصحي مفهوماً وقابلاً للتدقيق على نطاق جميع المؤسسات. وبدلاً من مجرد عرض البيانات المأخوذة من قاعدة بيانات واحدة، فإن السجل الصحي الإلكتروني سيمكننا من عرض البيانات العائدة إلى جميع قواعد البيانات المذكورة في دفتر الحسابات. والنتيجة النهائية ستكون عبارة عن المعلومات التي تخصك في صورة متوافقة تماماً ومتاحة على مستوى المجتمع المحلي، مع ضمان سلامتها من منبعها إلى موطن استخدامها، ودون أي تدخل بشري يدوي.

اختبر زملائي في مختبر الوسائط التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي) المبدأ المذكور مع الوصفات الطبية وتمكنوا من إثبات جدوى هذه المقاربة، حيث عرضنا في بحثنا المعنون "دراسة حالة للبلوك تشين في مجال الرعاية الصحية" (A Case Study for Blockchain in Healthcare) نظاماً مبتكراً غير مركزي لإدارة السجلات الصحية الإلكترونية باستخدام تقنية البلوك تشين، وأطلقنا عليه اسم "ميد ريك" (MedRec).

لا يحتفظ نظام "ميد ريك" بالسجلات الصحية ولا يتطلب تغييراً في الممارسات، وإنما يحتفظ بتوقيع السجل على هيئة البلوك تشين وينبّه المريض الذي سيمتلك سيطرة كاملة على حركة سجله. يفيد التوقيع في ضمان الحصول على نسخة غير محرفة من السجل، كما أنه ينقل محور السيطرة من المؤسسة إلى المريض نفسه، الذي سيحمل عبء إدارة سجلاته بكل ما في ذلك من إيجابيات وسلبيات. أما أولئك المرضى الذين لا يرغبون بإدارة بياناتهم بأنفسهم، فأتخيل أن هنالك مؤسسات ستنشأ مع الوقت لتقديم هذه الخدمة بتفويض من المريض. ويكمن أحد تحديات المشروع وتطبيق فكرته في بناء واجهة استخدام فعالة تغري المرضى بتحمل مثل هذه المسؤولية. فمعظم البوابات الإلكترونية الفردية التي يستعملها المرضى لهذا الغرض تعاني من قصور في تصميماتها وتزيد من عبء الإجراءات وتختلف واجهاتها بحسب كل مؤسسة. لذا فنحن نتصور أن اعتماد نظام "ميد ريك" بواجهة مستخدم موحدة سيسهل على المريض التفاعل مع سجلات الرعاية الصحية التي تمثل بدورها صلة الوصل بين المؤسسات العاملة في هذا الميدان.

ونخطط في المرحلة المقبلة لتطوير تجربتنا لنظام "ميد ريك" عبر استخدام المزيد من أنواع البيانات، وفتح المجال أمام المزيد من مزودي البيانات ومستخدميها على حد سواء. كما سنأخذ في الحسبان بدائل مبتكرة لما هو مطبق حالياً في تقنية البلوك تشين، مثل تطبيق "ألغوراند" (Algorand) الذي ابتكره "سلفيو ميكالي" (Silvio Micali) لدفتر الحسابات العام ويتميز بأنه أقل استهلاكاً لطاقة الحوسبة مقارنة بغيره من المقاربات.

والمنطق الذي يدفعنا لتبني تقنية البلوك تشين في سجلات الرعاية الصحية الإلكترونية له وجهان: أولهما، أنها تنفي الحاجة إلى طرف يدخل بين المريض وسجلاته. وهذا لا يعني أنها غرفة مقاصة جديدة أو "صندوق إيداع آمن" مستحدث لأجل البيانات. فتقنية البلوك تشين تتيح تحكماً لا مركزياً يلبي مصلحة الجميع، دون أن يملك أي منهم اليد العليا في السيطرة عليه. وهو تغيير في البنية يتجاوز في مفهومه السجلات الطبية. وثانيهما، أن هذه التقنية تضيف بعداً مهماً لدفتر حسابات قابل للبرمجة وتحكمه أختام زمنية. وهو ما يفتح الباب لتحكم حصيف بعملية الوصول إلى السجلات دون الاضطرار إلى إنشاء وظائف برمجية خاصة بكل مزود للسجلات الصحية الإلكترونية، عدا عن تدقيق دفتر الحسابات تلقائياً كجزء لا يتجزأ من العملية.

خلاصة الأمر حول البلوك تشين في الصحة أننا نطمح لتقنية البلوك تشين أن تكمل مسارها في التطور على يد جامعة غير ربحية ولا مصلحة تجارية لها، بما يضمن نضوج الفكرة قبل استخدامها في الأغراض التجارية. إذ إنها لا تزال في طور مبكر جداً ليتم استخدامها رسمياً في مجال الرعاية الصحية، إلا أن لها آفاقاً واسعة في دفع الجهود نحو توحيد معايير التبادل الآمن للبيانات بطريقة أقل كلفة من المقاربات السابقة.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي