فتحت تقنية "بلوك تشين" (Block-chain) آفاقاً جديدة للأعمال التجارية وللمجتمع على حد سواء، ولكن السؤال هنا هو معرفة ما إذا كانت تلك التقنية قادرة على مساعدة الدول النامية بنفس قدرتها على مساعدة تلك المتطورة. يمكننا القول بأن "بلوك تشين" -كحال العديد من الأفكار المدهشة الجديدة- قادرة على مساعدة الدول النامية على التقدم وربما تخطّي حتى الاقتصادات المتقدمة. فما هي إجابة سال كيف تساعد البلوك تشين الأسواق الناشئة بطريقة صحيحة؟
اقرأ أيضاً: كيف تساعد تقنية البلوك تشين المسوقين على بناء علاقات أفضل مع عملائهم؟
وكانت إحدى الاستراتيجيات الفعالة في التغلب على مشاكل الدول النامية والنقص الحاصل في بنيتها التحتية، هي القيام بما يمكن أن نسميه قفزات نوعية. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما تقوم به كل من دولة كينيا وجنوب إفريقيا الناميتين، إذ وفرتا الإنترنت لجميع السكان اعتماداً على شبكات الهاتف المحمول من الجيل الثالث (3G) بدلاً من شبكات الإنترنت التقليدية المعتمدة على الكابلات النحاسية. وأسهمت تلك الطريقة في زيادة عدد مستخدمي الإنترنت من خلال أجهزة الهاتف المحمول، بدلاً من الحواسيب المكتبية.
يعتبر ما سبق أحد أبرز الأمثلة على القفزات النوعية لتوضيح كيف تساعد البلوك تشين الأسواق الناشئة بطريقة فعالة، إلا أن تلك القفزات لا تقتصر فقط على تخطي العوائق الناتجة عن نقص في البنية التحتية. على سبيل المثال، يمكننا النظر إلى القفزة النوعية الهائلة التي حققتها اليابان قبل بضع عقود، عندما خرجت اليابان بضرر كبير ناتج عن هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ومع الكثير من الدمار، ثم عملت آنذاك على تبني تقنيات تصنيع جديدة متطورة واستخدمت تقنيات مراقبة الجودة التي لم تكن حتى الصناعات الأميركية أو الأوروبية قد تبنتها رغم تطويرها من قبل الصناعي الأميركي ويليام إدواردز ديمينغ (W. Edwards Deming). ومنذ ذلك الحين، أصبحت مراقبة الجودة حجر الزاوية للصناعة في اليابان، لتحدث ثورة في التصنيع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتعيد تشكيل العلامة التجارية الوطنية ونظرة الناس حول العالم إلى العلامات التجارية اليابانية، مثل "تويوتا" و"كانون" و"نيكون"، كمثال للتميز والجودة. في تلك الفترة، كانت الشركات الأوروبية والأميركية تسعى جاهدة للحاق بالشركات اليابانية.
حالياً، يعتبر نظام الدفع بواسطة الهاتف المحمول "م-بيسا" (M-Pesa) في كينيا وتنزانيا أحد أبرز الأمثلة عن القفزات النوعية. إذ يتيح هذا النظام لمواطني تلك البلاد استخدام هواتفهم للعمليات المصرفية والتبادل التجاري باستخدام عملتهم الوطنية. وأسهم هذا النظام في تحقيق قفزة نوعية في الممارسات المصرفية واستخدام الهاتف المحمول في التعاملات التجارية في البلدين، كما عزز التنمية الاقتصادية عبر تمكين المزارعين الفقراء نسبياً من إرسال وتسلم دفعات بعمولات منطقية، ليزيد نمو البلدين الاقتصادي. وجدت دراسات موّلتها مؤسسة "بيل ومليندا غيتس فونديشن" أن هذه الخدمة أدت إلى انتشال 194 ألف كيني من الفقر، وحققت أثراً كبيراً على الأسر التي تعيلها إناث.
اقرأ أيضاً: البلوك تشين تؤثر في المنظومة المالية كما أثرت الإنترنت في وسائل الإعلام
ولو عملت حكومتي كينيا أو تنزانيا على نسخ الأنظمة المصرفية الغربية، التي استغرق بناؤها وتطويرها قرون، لما حصل سكان هذين البلدين على نفس النتائج المميزة المطبقة لديهم الآن. في نفس الوقت، تعتبر الخدمات المالية المتنقلة مثل "م-بيسا" أكثر تقدماً وتطوراً من تلك الموجودة في العديد من الاقتصادات المتقدمة. بالمحصلة، فإن ما قامت به هاتين الدولتين كان قفزة نوعية تخطتا بها البنية التحتية التي عفا عليها الزمن في العالم المتقدم للوصول إلى بنية تحتية أشد تطوراً ويمكنها تحقيق الفائدة لهما لسنوات طويلة قادمة.
كيف تساعد البلوك تشين الأسواق الناشئة حول العالم؟ وأين تكمن الفرص أمام الاقتصادات النامية لإجراء تلك القفزات النوعية؟
لننظر إلى مثال آخر من إحدى الدول النامية، وهو نظام "أدهر" للتحقق من الشخصية القائم على المعلومات الحيوية. يعتبر هذا النظام من الأمثلة الرائعة حول القفزات النوعية المميزة، إذ يقوم على حماية التعاملات بين الأفراد من خلال تأكيد هوية الأشخاص، وبالتالي تسهيل التجارة. كما يقوم النظام على تخصيص رقم فريد لكل شخص مقيم في الهند مؤلف من 12 خانة، يعمل هذا الرقم كمعرّف للشخص في قاعدة البيانات المركزية الخاصة بالبلاد حيث يُدرج فيه جميع المعلومات الحيوية الخاصة به (مثل بصمات الأصابع والمسح الضوئي لقزحية العين وما إلى ذلك). في حال أراد هذا الشخص إجراء معاملة تجارية أو شخصية، كإنشاء حساب مصرفي، عليه فقط تقديم هويته والقيام بمسح ضوئي لبصمة أصابعه أو قزحية عينه لإثبات شخصيته، وهو ما يقلل من حالات الاحتيال ويخلق كفاءة سوق أكبر. حالياً، يستفيد نحو مليار شخص من هذا النظام، كما يعتبر إلى حد بعيد أكبر وأشمل اعتماداً على تقنية القياسات الحيوية لأي حكومة في العالم. زاد هذا النظام من أمن المعاملات في الهند، إذ يُستخدم أيضاً للاشتراك في خدمة الهاتف المحمول (وهي عملية ما تزال تتطلب ملء الأوراق في العديد من البلدان وغالباً ما تكون هناك حالات للاحتيال).
يمتد أمن المعاملات إلى ما هو أبعد من المعلومات الحيوية للفرد، إذ تعمل المعلومات الحيوية على تأمين آخر جزء من المعاملة المالية بين الأطراف فقط (أي التأكد من هوية طرفي المعاملة)؛ في حين تعمل "بلوك تشين" على تأمين باقي الأجزاء بالكامل. يعتبر هذا أمراً حيوياً للاقتصادات النامية، خصوصاً بين الأشخاص العاديين الذين يرغبون في التجارة. كما يمكن أن تفيد "بلوك تشين" في تحفيز الابتكار وتقديم تقنية متفوقة محلية. وتعني الطبيعة اللامركزية "بلوك تشين" أن مكان وجود البنية التحتية، مثل مراكز البيانات، غير مهم. كما يمكن للدول النامية بناء مراكزها التكنولوجية وإنشاء عمليات برمجة آمنة في داخلها كما هو الحال في أي مكان آخر حول العالم. لا يهم المكان في تقنية "بلوك تشين"، التي يمكنها دعم الصناعات التكنولوجية المحلية في العديد من البلدان النامية.
يمكن أيضاً أن تعالج "بلوك تشين" الاحتياجات الأكثر إلحاحاً لحكومات العالم النامي، المتمثلة في تحديث الوظائف الحكومية ورقمنتها. وتعتبر دبي إحدى المناطق الرائدة في اعتماد "بلوك تشين"، إذ قدمت الكثير من الأمور التي يمكن لباقي الدول النامية حول العالم تبنيها أيضاً. وتعمل استراتيجية "بلوك تشين" الخاصة بمدينة دبي على نقل جميع الوثائق الحكومية -أكثر من 100 مليون وثيقة سنوياً– إلى "بلوك تشين" بحلول عام 2020، وخلق منصة جديدة للابتكار وتحقيق وفورات ضخمة في التكاليف. (نشير هنا إلى عمل مؤلفي هذا المقال على المشروع).
يمكن أن يكون النهج الذي تتبعه دبي في اعتمادها على "بلوك تشين" مثالاً لباقي البلدان النامية الساعية إلى تنمية اقتصاداتها أكثر. إذ تقدم الحكومة المركزية هناك الخدمات اعتماداً على "بلوك تشين" كوسيلة لتشجيع الابتكار، حيث يمكن لحكومات أخرى الاستفادة من ذلك في تقديم معايير نزاهة أعلى في نظم التجارة الأساسية، خصوصاً في الحالات التي تتطلب صادراتها تقديم أدلة قوية على أصول السلع، مثل البن والأخشاب.
يمثل "إنترنت الاتفاقات" رؤيتنا التقنية لتسهيل التجارة، إذ نعتقد هنا أن بإمكان التقنية أن تدعم أي اتفاق أو صفقة بالاستفادة من المفاهيم الأساسية لفضاء "بلوك تشين". من هنا، تتمثل رؤيتنا في 3 دعائم أساسية: تجارة عالمية، وأنظمة محلية، وتولي أجهزة الكمبيوتر الأمور الروتينية.
اقرأ أيضاً: البلوك تشين.. تطبيقات ستتجاوز حدود عالم المال
تنجح التجارة العالمية المعتمدة على أنظمة محلية مدارة تقنياً وذلك نظراً إلى تقليل التقنية من تكاليف المعاملات. بمعنى آخر، في حال امتلكنا التقنيات المناسبة، لن نحتاج بالضرورة إلى اتفاقات تجارية ضخمة مثل اتفاقيات "الشراكة عبر المحيط الهادي" (Trans-Pacific Partnership) أو "المنطقة الاقتصادية الأوروبية" (European Economic Area) لتخفيف المعاملات الورقية اللازمة للتجارة العابرة للحدود. تعمل "بلوك تشين" انطلاقاً من فرضية أن البيانات مفتوحة المصدر، ما يسمح للحكومات والشركات بالتعلم من التجارب الموجودة، وتطوير أفضل وأكثر الممارسات كفاءة لتنفيذ وتيسير التجارة، ما يخفّض تكاليف المعاملات الاقتصادية بشكل كبير بنفس الطريقة التي خفّضت فيها الإنترنت تكاليف قضايا مثل النشر والاتصالات لتتفجر الإبداعات والأفكار التي نراها اليوم. وتقدم "بلوك تشين" وعد السهولة نفسه، إذ إن تخفيض تكاليف الامتثال للأنظمة والقوانين سيفتح أسواقاً عالمية أكثر ويحقق الثروات من دون أن يعني تغييراً في الأنظمة المحلية.
جذبت "بلوك تشين" بالفعل انتباه الخبير الاقتصادي هيرناندو دي سوتو (Hernando De Soto)، الذي عمل منذ عقود على تحسين فرص الدول الفقيرة في الوصول إلى الاقتصاد العالمي. يقول دي سوتو إن عدم وصول الفقراء الفضاء الاقتصادي العالمي يعود لسببين: الأول، لأنه لا يمكن الاعتماد على نُظم حفظ السجلات في بلدانهم النامية. والثاني، لأنهم لن يقدموا معلومات عن أنفسهم لأي شخص لعدم ثقتهم إلى أين ستذهب المعلومات (أي حكوماتهم). يتابع دي سوتو قائلاً: "لا يريد الناس أن يكونوا عرضةً لشيء يمكن أن يُستخدم ضدهم، ما يمثل أحد أسباب تميّز "بلوك تشين". وفي حال تمكنت حقاً من إيصال الرسالة المتصلة بها بشكل صحيح، سيرون أنه من المجدي تسجيل أنفسهم".
تعتبر "بلوك تشين" تقنية آمنة للغاية نظراً لأنها مصممة للعمل في بيئة لا يثق فيها المشاركون ببعضهم في العادة. تكون هنا السجلات محفوظة على قاعدة بيانات "بلوك تشين" وفي مأمن من العبث من قبل أي طرف خارجي؛ وبالتالي تكون أكثر موثوقية. في نفس الوقت، سيتم تنفيذ العقود الذكية تلقائياً مع قابلية للتنبؤ بما تقدمه، وهو ما يزيل أيضاً قدرة الأطراف الخارجية على تخريب العمليات التي تم الاتفاق عليها مسبقاً. كما ستكون فوائد "بلوك تشين" على الاقتصاد النامي واضحة، مع احتمالات احتيال وفساد أقل، وتجارة أكثر كفاءة بكلفة أقل، وحكومة أكثر فاعلية، وقابلية إنشاء مراكز تكنولوجية محلية لتهيئة البنية التحتية اللازمة وتصدير المعارف المكتسبة.
إذا كان في إمكان "م-بيسا" وخدمات مماثلة انتشال عشرات الآلاف من الفقر، فتخيل التحول الواسع الذي يمكن أن تقوم به "بلوك تشين"؛ يمكن أن يؤدي ذلك إلى إنشاء حكومة ذات كفاءة عالية ببنية تحتية جديرة بالثقة، وإتاحة الفرص أمام المواطنين للوصول بشكل عادل إلى الاقتصاد الرسمي، وزيادة كفاءة العمليات التي ستؤدي بدورها إلى انخفاض الأسعار وتحسين نوعية السلع للجميع، وإطلاق ابتكار التقنيات المتطورة في جميع أنحاء العالم. كما يمكن أيضاً تتبع حالة جميع السلع التي تتدفق من وإلى بلدان العالم النامي، إذ يمكن مثلاً استيراد الأدوية الآمنة من دون الخوف من الاحتيال، وتصدير الخشب والسلع بشكل آمن. كما يمكن في الوقت نفسه الاستفادة من السجلات التعليمية وتاريخ الأعمال ومعلومات الرعاية الصحية والتقارير الائتمانية في أي مكان من العالم، ومساعدة من يرغبون في التجارة أو السفر على إثبات هويتهم دون عوائق. يساعد وجود هكذا أنظمة أي شخص على معرفة إن كان قد دفع أقساطاً جامعية أكثر مما يلزم، أو تعرض إلى مشاكل في حساباته المصرفية، ما سيوفر له إمكانية رؤية مدى فائدة وجود هكذا أنظمة في حياته.
وفي نهاية الإجابة عن سؤال كيف تساعد البلوك تشين الأسواق الناشئة عالمياً، قد تفتقر الدول التي لديها أنظمة فعالة إلى حد ما إلى الحافز لاعتماد تقنية "بلوك تشين" حالياً، إلا أن بقية الدول قد ترى فيها فرصة للتقدم في ظل الإنترنت. في حال قامت تلك الدول بذلك، ستحقق أكثرها قفزات نوعية تتخطى فيها الدول المتقدمة بطرق لا يمكن تخليها حالياً وستعتمد على أفكار الناس الذين سيصلون إلى الحوكمة والبنية التحتية التجارية للقرن الحادي والعشرين. إنها أحلام كبيرة بالفعل، ولا ينبغي لنا أن نتفاجأ إذا رأينا ولادة بعض المنابر والمنتديات العالمية الرائدة بعيداً عن المراكز التقليدية لتطوير التقنيات. سيحمل لنا المستقبل الكثير، كما ستقدم لنا "بلوك تشين" مستقبلاً أفضل مما كنا نتخيله.
اقرأ أيضاً: تقنية البلوك تشين يمكنها مساعدة الفنانين على تحقيق مكاسب أكثر من أعمالهم