بدت المدن الصينية بشوارعها الفارغة ومراكز التسوق المهجورة في شهر شباط/ فبراير وكأنها مسلسل تلفزيوني يعرض صوراً لما بعد نهاية العالم، ممهّدة المشهد الذي ينتظر شوارع أوروبا وأميركا الشمالية مع تزايد تدابير الإغلاق العام.
وكما هو متوقع، يُركّز الخطاب العام في أوروبا والولايات المتحدة على مدى سوء الأوضاع والجوانب العملية لتحمّل أعباء الحياة في ظل الإغلاق العام: كيف سيحصل السكّان على إمدادات الغذاء؟ كيف يمكن للطواقم الطبية التعامل مع الوضع؟ هل سيحصل الموظفون على أجورهم؟
وفي ظلّ هذه المرحلة من تفشّي وباء "كوفيد -19"، بدأت بعض الدروس حول كيفية التعامل مع الزعزعة الاجتماعية والتجارية تظهر بالفعل من الصين. وتبيّن أن العامل الرئيس للتكيّف في ظل هذه الأزمة هو التكنولوجيا الرقمية.
لنتأمل مثال الصين التي تدلّ المؤشرات الحديثة على استقرار تفشي الوباء فيها. لقد أثار الإغلاق العام في مدينة ووهان التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة مشكلة خطيرة. وبما أنها كانت المدينة الأولى التي تأثرت بهذا الوباء، كان قاطنوها غير مستعدين لما واجهوه بعد ذلك. في البداية، أسفر الإغلاق العام الذي فرضته السلطات الصينية عن إثارة الذعر لدى السكان، وهو ما دفعهم إلى التوجه إلى المتاجر لشراء المواد الغذائية وغيرها من المواد الأساسية إلى أن أصبحت رفوف المتاجر الكبرى فارغة.
لكن في غضون أيام، بدأت الإمدادات تتدفق إلى مدينة ووهان. وعلى الرغم من تزايد المخاوف بشأن المرض، سرعان ما تقبّل السكان فكرة الإغلاق العام واستخدموا التكنولوجيا الرقمية لتنظيم عمل الموردين والتعاون معهم، وهو ما ضمن وصول الإمدادات إلى الأشخاص الذين كانوا في أمس الحاجة إليها. وقد ساهم عاملان في إظهار هذه القدرة على التحمل:
- أنظمة تسليم المنتجات القائمة على التكنولوجيا الرقمية: يمكن تسليم منتجات البقالة وغيرها من المشتريات التي تُطلب عبر الإنترنت إلى منازل السكان في غضون 20 دقيقة بعد إتمام عملية الشراء في المدن الرئيسة في الصين، ويُعزى ذلك إلى مدى انتشار التكنولوجيا الرقمية. على سبيل المثال، تدعم شبكة "تشاينياو" (Cainiao) التابعة إلى شركة "علي بابا" سلاسل توريد التجار عبر نظام إدارة مخازن رقمي مدعم بتقنية الذكاء الاصطناعي يربط بين عالم التسوق عبر الإنترنت وعالم التسوق التقليدي، وهو ما يتيح للتجار خدمة شبكة مستهلكين موسّعة. نتيجة لذلك، بمجرد الإعلان عن الإغلاق العام في مدينة ووهان، بدأت شركة "علي بابا" بشحن الإمدادات الطبية والغذائية إلى المدينة.
- الراحة في إجراء المعاملات الرقمية: قامت مجموعة "علي بابا" و"جيه دي دوت كوم" (JD.com) و"ميتوان ديانبينغ" (Meituan Dianping) والعديد من الشركات الأخرى بتغيير سلوك الشراء الذي يتّبعه المستهلك الصيني في السنوات الخمس السابقة، وذلك عبر تحويل تركيزه من متاجر التسوق التقليدية إلى عالم التسوق عبر الإنترنت، وغالباً ما يجري تعزيز هذا النهج عبر "تطبيق شامل" عبر الهواتف الذكية. وبحلول عام 2019، وصل انتشار التجارة الإلكترونية في الصين وفق أحد التقديرات إلى 36.6% من مبيعات التجزئة، مع إجراء 71% من المستهلكين الصينيين صفقات عبر الإنترنت، في حين تمّت ما نسبته 80% من صفقات التجارة الإلكترونية هذه عبر تطبيقات الهواتف الذكية.
إن الدمج بين النضج الرقمي للمستهلك وسلاسل التوريد المدعومة رقمياً مكّن السكان المحليين من تنظيم توصيل الإمدادات الأساسية إلى منازل الأشخاص الذين اختاروا الحجر الطوعي. على سبيل المثال، نظّم قاطنو المجتمعات والأحياء المغلقة التي تميّز مدينة بكين مجموعات صغيرة من المتطوعين عبر تطبيقات الدردشة الجماعية لتلقّي الإمدادات عند البوابات الرئيسة للأحياء ووضعها في صناديق مخصصة لكل أسرة وتسليمها إلى منازلهم.
لكن يبدو أن المشهد الرقمي في الولايات المتحدة وأوروبا غير ملائم لتبنّي نهج الاستجابة الذي اتبعته الصين.
وعلى الرغم من أن المستهلكين الأميركيين هم أكثر استعداداً للتسوق عبر "أمازون" ومنصات التجارة الإلكترونية الأخرى، أُجريت نسبة 16% فقط من إجمالي المبيعات في عام 2019 عبر منصات التجارة الإلكترونية، وهو رقم حققته الصين قبل أربع سنوات.
علاوة على ذلك، لا تزال مواد البقالة والأغذية الجاهزة فئات يصعب التعامل معها في العالم الرقمي، على الرغم من الجهود المبذولة لتجربة توصيل المواد الغذائية إلى المنازل من قبل شركتي "وول مارت" و"أمازون" التي استحوذت مؤخراً على شركة "هوول فودز" (Whole Foods). كما كان المستهلكون في الولايات المتحدة أبطأ كثيراً في التحول إلى السوق الرقمية في هذه الفئات مقارنة بالمستهلك الصيني، في حين أن حركة البضائع من مركز النقل إلى آخر محطة تسليم لفئة البقالة لم تصل بعد إلى المعايير المتّبعة في المدن الصينية الكبرى. حتى في مجال المطاعم، لا تزال شركة "أوبر إيتس" (Uber Eats) وغيرها متخلّفة عن شركة "ميتوان ديانبينغ"، و"إيلي دوت مي" (Ele.me) والعديد من الخدمات الأخرى المماثلة في الصين.
للأسف، لا تزال أوروبا متخلّفة عن الركب أيضاً. وعلى الرغم من أن تجار التجزئة الكبار مثل شركة "أو شوب" (Ooshop.com) التابعة لشركة "كارفور" والشركات الناشئة مثل "ديليفرو" (Deliveroo) تطور ميزة حركة البضائع من مركز النقل إلى آخر محطة للتسليم، لا يزال طلب المستهلكين واستعدادهم للشراء منخفضاً، فضلاً عن أن البنى التحتية للمدن القديمة وقوانين العمل تجعل تطوير نظام توصيل فاعل اقتراحاً صعباً للغاية.
وفي حين احتفلت شركة "علي بابا" بمبيعات عيد العزّاب وشركة "أمازون" بمبيعات عيد رأس السنة العام الماضي، واجه التجّار الكبار في أوروبا صعوبات خطيرة في التعامل مع خدماتهم اللوجستية لمبيعات "الجمعة السوداء". وتلقيت شخصياً رسائل اعتذار وإلغاء من أحد تجار التجزئة الفرنسيين عبر الإنترنت قائلاً: "واجهتنا صعوبات غير متوقعة في التعامل مع الكمية الكبيرة من الصفقات خلال فترة الجمعة السوداء". قد نتغاضى عن كل ما حدث في حال كان هدفنا إثارة إعجاب صديق ما بجهاز جديد، لكن المستهلكين لن يتغاضوا عما يحدث عندما تنطوي المشكلة على عدم قدرتهم على شراء طعام لأطفالهم.
سينحسر الوباء بالتأكيد، وسيجد الأميركيون والأوروبيون طرقاً للتعامل مع آثاره، فالصينيون لم يحتكروا سبل الإبداع والتضامن التي اتّبعوها لتفادي آثار هذه الأزمة. ولكن مع انحسار فيروس كورونا في الولايات المتحدة وأوروبا، يجب على الحكومات والمدن والشركات إدراك أهمية المزايا الرقمية في الصين في الاستجابة للتحديات اللوجستية التي تفرضها الأزمة. في النهاية، لا بدّ لنا من اعتبار وباء "كوفيد-19" بمثابة تحذير إلى أوروبا والولايات المتحدة بضرورة تسريع عمليات التحول الرقمي لاقتصاداتهما قبل أن نتعرض إلى وباء آخر.