ملخص: أثبت جوبز أن البساطة تنتصر على التعقيد في صراع البقاء بين المنتجات والأفكار على السّواء. لكن عن أي بساطة نتحدث؟ وكيف يمكن أن نربح عبرها ما قد نخسره بالتعقيد؟ لا أفضل من ستيف جوبز ليجيب!
"البساطة هي قمّة الذوق الرفيع هي قمّة التعقيد". تختصر هذه العبارة فلسفةً في تصميم المنتجات أثمرت قصة نجاح مبهرة. في سبيعنيّات القرن الماضي، وضع ستيف جوبز تلك العبارة على كتيّب إعلاني لثاني حاسوب شخصي تنتجه آبل. من يومها لم تحد الشركة عن نهج البساطة كما يعلّق أحد كتّاب سيرة جوبز. وبغض النظر عن الاختلاف في نسبة مقولة البساطة والتعقيد لهذا الكاتب أو ذاك، نجحت آبل في تفجير طاقاتها الدلالية على أرض الواقع.
أثبت عبقري وادي السيليكون أن البساطة تنتصر على التعقيد في صراع البقاء بين المنتجات والخدمات والأفكار على السّواء. البساطة باعتبارها منتهى البهاء الإنساني. لكن عن أي بساطة نتحدث؟ ضمن أي نطاق؟ وكيف يمكن أن تربح معها الشركات والعقول المبدعة ما قد تخسره بالتعقيد والتكلّف؟ لا أفضل من ستيف جوبز ليجيب!
الانطلاق من المألوف
عوض تصميم منتجات غريبة تماماً عمّا ألفه المستخدمون وإرفاقها بدلائل وشروحات معقدة، كان ستيف جوبز يفضّل تصميم منتجات من صميم عوائد الناس. ظل يوجّه مهندسي آبل، وفق ما ينقل عنه كاتب سيرته والتر آيزاكسون (Walter Isaacson)، إلى ضرورة أن "تبدو الأمور تلقائية وبدهيّة في تصاميمنا".
يعطي جوبز مثالاً لهذه الفكرة بـ"سطح المكتب" (Desktop) على أجهزة الحواسيب وهو مجاز مقتبس من المكاتب الحقيقة. يقول جوبز، وفق ما يرد بسيرة آيزاكسن، "يعرف الناس كيف يديرون المهام على مكاتبهم بشكل تلقائي. إذا ما دخلت إدارة ما، ستجد عدة أوراق فوق كل مكتب. من الواضح أن تلك الموضوعة على سطحه أهم من الأخرى. يعرف الناس كيف يرتبّون الأولويات. أحد الأسباب التي تجعلنا نصمم حواسيبنا انطلاقا من مجازات من قبيل "سطح المكتب" هو استثمار التجارب القائمة لدى الناس مسبقاً".
ظل سيتف جوبز حريصاً على ألا يعترض زبائن الشركة أي تشويش أو غموض في تشغيل منتج أو إيجاد زر أو فهم الهدف من منتج أو خدمة ما. كان يرصد التفاعلات التلقائية للناس مع الأشياء المحيطة بهم، من واقع المعيش اليومي، ويبني عليها في ابتكار منتجات جديدة.
تجنب الإغراق في التفاصيل
هذه النظرة التي اشتهر بها جوبز وليدة إعجابه بتيار الباوهاوس الألماني في الفن والعمارة. وهو تيار يحتفي بالتجربة الإنسانية من خلال البساطة والأناقة وتدقيق الرسوم وتجنّب إغراق الناظر بكثرة التفاصيل. سيظهر أثر ذلك في تصميم منتجات آبل وفي إعلاناتها أيضاً. فقد كان جوبز فعلاً حريصاً على تقديم منتجات يسيرة الاستعمال ومريحة للعين دون تفاصيل مشوشة. كان لسان حاله ينطق بالمبدأ الذي دافع عنه مهندس الطيران الأميركي كيلي جونسون (Kelly Johnson) "دع الأمور سهلة وبسيطة" (Keep it short and simple).
في إعلانات آبل أيضاً، ستبرز فلسفة الشركة في التخفّف والإيجاز (Minimalsim)، وستمثل نقطة انطلاق لأبحاث عديدة في التسويق شرّحَت أثر هذا النهج الفريد في تذكر العلامات التجارية والتعرّف عليها من قبل الزبائن.
مثلاً، في أحد الإعلانات التاريخية للشركة ستبني آبل عالماً معقداً وغامضاً وتكسره في دقيقة: لماذا ستأتي سنة 1984 على غير ما تخيّل الكاتب البريطاني جورج أورويل في روايته التي تتخذ من هذا التاريخ عنواناً وعتبةً لفصولها؟ لأن آبل، بكل بساطة، ستطرح في 24 يناير/كانون الأول من 1984 حاسوب "ماكنتوش". فإذا كانت البيروقراطية تبسط كامل سطوتها على العالم في رواية أورويل، فشركة آبل هنا لتمنع حدوث ذلك في الواقع.
الباحثة الإيطالية في الهندسة المعمارية لينا مالفونا (Lina Malfona) التي تتبعت أسرار فلسفة آبل في ابتكار المنتجات وتصميم التجارب المعمارية، ترى أن إعلان 1984 وإعلاناً لاحقاً عليه يرمزان معاً إلى الاحتفاء بالفردانية والرغبة بتغيير العالم والاصطفاف ضد النظام القائم. وقد استفاض باحثون آخرون في المعاني العميقة لهذا الإعلان القصير.
الإعلان الآخر الذي تقصده مالفونا هو إعلان "فكر باختلاف" (Think different) لعام 1997. وفي الحقيقة، هذا الشعار هو بحد ذاته مثال للاقتصاد في اللغة مع التوسع في المعاني. كلمتان صغيرتان يسيل منهما فيض من المعاني: الفردانية والاختلاف والابتكار والتغيير والتحرّر والبساطة وإثبات الذات. وقد صار هذا الإعلان بدوره نموذجاً لقوّة الإيجاز في الإعلانات.
أناقة الظاهر والباطن
يذكر إيزاك إيساكسون أن ستيف جوبز طلب مرة تغيير لوحة داخل حاسوب ماكنتوش لأن "شكلها قبيح". اعترض أحد المهندسين الجدد على جوبز معتبراً أن المهم أن يعمل الحاسوب بشكل جيّد لا شكل لوحة بداخله لن يراها أحد أصلاً.
رد جوبز كان حاسماً "أريد لهذا الحاسوب أن يكون على أكبر قدر ممكن من الجمال، حتى في مكوناته الداخلية. النجّار الماهر لن يستعمل خشباً رديئاً في الجانب الخلفي من خزانة أو دولاب فقط لأن أحداً لن يراه".
فالبساطة عند جوبز لا ترادف التهاون والتفريط في تدقيق التفاصيل الصغيرة، إنها على العكس تعدّ ثمرةَ جهدٍ منظم وشاق لتصنيع "معجزات صغيرة" تجمع بين الفعالية القصوى والأريحية في الاستعمال.
الاستدامة والتفكير في المستقبل
في عرضه التقديمي لأوّل هاتف "آيفون" تطرحه الشركة في الأسواق سنة 2007، أوضح ستيف جوبز أنه انطلق في تصميم هذا المنتج الذي اعتُبر ثورياً حينها، من حل مشكلة. مشكلة ظلت تحد، بنظر جوبز، من قدرة الهواتف الموجودة حينها على الصمود أمام صروف الزمن التكنولوجي.
يتعلق الأمر بلوحة الأزرار بتلك الهواتف. اعتبر جوبز أن تلك الأزرار البلاستيكية الثابتة لا تتلاءم والطبيعة المتجددة والمتغيرة للتطبيقات المثبتة بداخل تلك الأجهزة ولا بالتكنولوجيا بشكل أشمل. ومن هنا جاءت فكرة شاشة لمس ديناميكية قابلة للمواءمة مع التطبيقات أو التعديلات الجديدة على الهواتف.
ولعل قمّة المشاريع التي تعبّر عن أهميّة استحضار التحولات المستقبلية التي قد تواجه منتجاً أو خدمة ضمن فلسفة ستيف جوبز عن البساطة هي المقر الجديد للشركة. صُمّم المقر الجديد في شكل سفينة فضائية دائرية. جوهرة مستديرة تتوسّطها 9 آلاف شجرة وتُضاء بأشعة الشمس وتمثل منتهى تلاقي الابتكار مع الجمال وصداقة الطبيعة.
لقد تحوّل، هذا المقر، جميل المبنى والمعنى، الذي وقف جوبز مدافعاً عن فكرته وجدواه أمام مجلس مدينة كوبرتينو عام 2011، إلى معلمة أنيقة تخلد رؤية جمالية فذة عميقة في بساطتها.