في كل مؤسسة، يكون أصحاب الأداء العالي هم القوة الدافعة للابتكار والإنتاجية والتميز، فهم يتجاوزون التوقعات باستمرار ويكسرون الحواجز ويلهمون مَن حولهم، وعلى الرغم من أهميتهم الحاسمة في تحقيق رسالة المؤسسة ونتائجها المرجوة، فإن أصحاب الأداء العالي يتعرضون للتجاهل على الرغم من أن إنتاجيتهم تصل إلى نسبة 400% من إنتاجية الموظف العادي عموماً (وتصل إلى نسبة 800% في المهن المعقدة للغاية، مثل مطوري البرمجيات). يركز المدراء بدلاً منهم على الموظفين أصحاب الأداء الضعيف الذين يتطلبون تدخلاً فورياً لمساعدتهم. يؤدي هذا الاهتمام غير المتوازن إلى تكاليف باهظة، بالإضافة إلى انفصال الموظفين أصحاب الأداء العالي وإحباطهم، وفي النهاية، يؤدي إلى فقدان المواهب المتميزة.
يفترض العديد من المدراء أن الموظفين أصحاب الأداء العالي مكتفون ذاتياً ويحتاجون إلى قدر أقل من الاهتمام، وأنهم يحققون النجاح ولا يحتاجون إلى المستوى نفسه من التوجيه أو الدعم الذي يحتاج إليه الآخرون. في نهاية المطاف، يعتقد المدراء أن هؤلاء الأفراد يحققون بالفعل نتائج استثنائية، لذلك، ليس من الضروري تقديم التوجيه والإرشاد لهم. على الرغم من أن هذه العقلية صحيحة في بعض النواحي، فإنها تؤدي أيضاً إلى اتباع المدراء نهج عدم التدخل؛ إذ يتركون الموظفين أصحاب الأداء العالي يتعاملون مع التحديات بمفردهم، وقد لا يدفعونهم خارج منطقة راحتهم حيث تبدأ عملية التعلم الحقيقي. الاستقلالية مهمة، لكن عدم توفير الدعم المباشر والملاحظات يمكن أن يولّد لدى الموظفين شعوراً بالعزلة وبأن مدراءهم يهملونهم، ويرغب الموظفون أصحاب الأداء العالي في الحصول على فرصة للنمو وتلقّي الملاحظات وتوفير تحديات تعزز تطويرهم، وعندما لا يلبي المدراء هذه الاحتياجات فمن الممكن أن يتضاءل مستوى التزام هؤلاء الموظفين ومشاركتهم بسرعة، على الرغم من أدائهم القوي وإنتاجيتهم.
إذاً، ما الذي يريده الموظفون أصحاب الأداء العالي حقاً في مكان العمل؟ إنهم يسعون إلى الحصول على التقدير والاستقلالية وتعزيز فرص النمو، لكن الحفاظ على التزامهم يتطلب أكثر من مجرد فهم هذه الاحتياجات. من خلال تنفيذ إجراءات محددة وموجهة تركز على تقدير الموظفين وتوفير تحديات ومهام تعزز تطورهم، بالإضافة إلى منحهم فرص التقدم وتعزيز ثقتهم، يمكنك إنشاء بيئة تحافظ على التزام هؤلاء الأعضاء الأساسيين في الفريق وتحفيزهم.
1. التقدير والامتنان والاعتراف بالجهود
لن يطلب أصحاب الأداء العالي الاعتراف بكل نجاح يحققونه والإشادة به؛ فهم مشغولون جداً بالتركيز على التحدي التالي، لكنهم يريدون من الآخرين ملاحظة مساهماتهم وتقديرها. إن استخدام عبارات عامة مثل "عمل رائع" لأمور متوقعة مثل الحضور في الوقت المحدد أو الالتزام بالمواعيد النهائية لتسليم العمل لن يكون له أثر كبير على الموظفين المتميزين؛ فهم يحتاجون إلى تقدير الجهود الإضافية والاستثنائية التي يبذلونها خارج نطاق المهام الروتينية أو المتوقعة منهم. كن محدداً ودقيقاً في الثناء الذي تقدمه لهم، سواء كان على تفانيهم في إنجاز مشروع معقد، أو تقديم حلول مبتكرة للمشكلات، أو قدرتهم على تحفيز الفريق. ربما حددوا مشكلة كانت تعوق تقدم المشروع وعملوا على حلها، أو قدموا ميزة جديدة لم تكن تعلم أنك تحتاج إليها بشدة، أو حلوا مشكلة بنيوية تؤثر في عمليات الشركة، أو نظموا جلسات تدريبية لرفع مستوى الفريق وتطوير مهاراته. تتجاوز هذه الحلول التي يقدمونها نطاق عملهم ومهامهم المعتادة، لذلك، يجب تقدير هذه المساهمات.
أظهرت الأبحاث أن تقدير المهارات والمساهمات الإيجابية يعزز الدافع لدى الفرد الذي يتلقى التقدير، بالإضافة إلى أن هذا التقدير يولّد أثراً ممتداً قوياً وإيجابياً يصل إلى باقي الفريق. يجب ألا يكون التقدير علنياً دائماً، لكن يجب أن يكون هادفاً. يفضّل بعض الأشخاص تلقّي كلمة شكر بسيطة أو ملاحظة لطيفة مكتوبة تعبّر عن الامتنان والتقدير لجهودهم، في حين يفضّل آخرون التقدير العلني مثل الإشادة بجهودهم في اجتماع الفريق أو على منصة مهنية عامة مثل لينكد إن. المهم هو فهم تفضيلات كل فرد من أصحاب الأداء العالي فيما يتعلق بطريقة توجيه التقدير لهم وتصميم طريقة التقدير أو الإشادة بما يتناسب مع تلك التفضيلات.
2. توفير الفرص المناسبة للنمو من خلال التحديات
يزدهر أصحاب الأداء العالي عند مواجهة التحديات، فهم لا يكتفون بتلبية التوقعات فحسب، بل يسعون إلى تجاوزها وتحقيق إنجازات أكبر. وللحفاظ على التزامهم، يجب توفير الفرص لتوسيع قدراتهم. يمكن أن يكون ذلك من خلال تكليفهم بمهام صعبة، أو توجيههم للعمل على مشاريع مشتركة بين عدة أقسام، أو منحهم مسؤوليات وأدواراً تتطلب منهم الخروج من منطقة راحتهم.
لتحديد الفرص التي تتوافق مع نقاط قوة الموظف المتميز الذي يتمتع بأداء عالٍ واهتماماته، استثمر الوقت في التعرف إليه أكثر وفهم ما يحفّزه ويؤدي إلى تميزه. يمكن أن تساعد المحادثات الثنائية المنتظمة أو حتى المحادثات غير الرسمية على الكشف عن اهتماماته وأهدافه البعيدة الأجل والمجالات التي يريد أن ينمو ويتطور فيها. اسأله عن المهام أو المهارات التي يشعر بأنه يتقنها وعن التحديات والصعوبات التي يواجهها، واستكشف رؤيته لمساره المهني، وحاول معرفة المهارات التي يتطلع إلى تحسينها أو تعلّمها. تسمح لك هذه الرؤية بمواءمة المهام مع طموحاته ومواهبه الطبيعية وترسل إشارة قوية تفيد بأنك تهتم بنجاحه. المهم هو تصميم الفرص التي توسع قدراته في المجالات التي يشعر بشغف حقيقي تجاهها.
لكن لا تكتفِ بتكليفه بمشروع صعب أو معقد ثم تتركه وحده في مواجهة هذا التحدي دون متابعة ودعم، بل قدّم له الأدوات والموارد والاستقلالية التي يحتاج إليها للنجاح. وإذا كان الموظف يشغل دوراً يتطلب التعاون مع قسم آخر، فمن المهم أن تتواصل مع القائد المسؤول عن ذلك القسم، اطلب أيضاً من الموظف المتميز أن يخبرك بمدى تقدمه وكيفية سير الأمور والمعرفة التي يكتسبها والمعلومات التي كان يتمنى لو أنه كان على دراية بها قبل بدء المهمة، وقدّم له وجهات النظر والأفكار والسياق التاريخي لمساعدته على النجاح؛ إذ يوضح له ذلك أنك مهتم بنجاحه.
3. توضيح مسارات التقدم في العمل
يتسم أصحاب الأداء العالي بالطموح والسعي الدؤوب والمستمر نحو تحقيق الإنجازات والنجاحات. وهم يرغبون في رؤية أنهم بعملهم الجاد وجهودهم الكبيرة يسهمون في تحقيق أهداف أو نتائج ملموسة. وهم لا يرغبون فقط في تعلم المهارات؛ بل يريدون إتقانها. لا يكفي أن تمنحهم وعوداً غامضة تتعلق بالفرص المستقبلية للتقدم في مسيرتهم المهنية؛ بل عليك توفير مسار واضح وقابل للتنفيذ في ذلك الصدد. يفضّل هؤلاء الأشخاص أن يكون لديهم أهداف وغايات يسعون لتحقيقها، ومن الضروري إجراء محادثات مهنية منتظمة بصورة أكثر تكراراً بدلاً من الاكتفاء بالمراجعات السنوية. ويجب أن تحدد هذه المناقشات الخطوات التالية في حياتهم المهنية والمهارات التي يحتاجون إلى تطويرها والمقاييس والمؤشرات التي يمكن استخدامها لقياس مدى تقدمهم.
عند إجراء محادثات مهنية مع أصحاب الأداء العالي، يجب عليك التركيز بعمق على طموحاتهم وأهدافهم. اطرح عليهم بعض الأسئلة، مثل: "ما هي التحديات الجديدة التي تثير حماسك واهتمامك في الوقت الحالي؟" أو "ما هي المهارات التي تشعر بأنها ستعزز أداءك؟" يدفعهم ذلك إلى التفكير في نموهم المستقبلي بدلاً من التركيز على وضعهم الحالي فقط. يجب عليك أيضاً تحديد خطوات ملموسة لتطويرهم؛ إذ يمكنك طرح بعض الأسئلة، مثل: "ما هي الإنجازات التي ترغب في تحقيقها خلال الأشهر الستة المقبلة؟" أو "كيف يمكنني مساعدتك للتغلب على أي عقبات تعترض طريقك؟".
احرص على إجراء هذه المحادثات بانتظام. يجب على المدراء أن يتعاملوا مع الموظفين أصحاب الأداء العالي بالقدر نفسه من الرعاية والاهتمام الذي يقدمونه للموظفين أصحاب الأداء الضعيف أو الذين يحتاجون إلى دعم ومساعدة فوريين. من المهم تحديد مواعيد اجتماعات شهرية أو ربع سنوية لضمان التركيز على نموهم وتطورهم. تعزز هذه المناقشات فكرة أن تطويرهم يشكّل أولوية بالنسبة لك وأنك تستثمر في نجاحهم على المدى الطويل.
لا تنتظر حتى يسأل الموظف المتميز صاحب الأداء العالي عن مساره المهني، بل يجب أن تكون فرص التقدم الوظيفي واضحة له، لذا احرص على تحديد الفرص المتاحة للموظفين سلفاً، سواء كانت هذه الفرص تتعلق بترقية أو تولي دور قيادي أو التكليف بمشروع جديد يتوافق مع أهدافهم البعيدة الأجل. بهذه الطريقة، يمكنك إظهار مدى التزامك واهتمامك بالاستثمار في مستقبلهم، ما يؤدي بدوره إلى تعزيز التزامهم تجاه مؤسستك.
4. توفير الاستقلالية وتعزيز الثقة
تتمثل إحدى أسرع الطرق التي تؤدي إلى فقدان الدافع لدى الأشخاص أصحاب الأداء العالي وحماسهم للعمل في ممارسة الإدارة التفصيلية (Micromanage)؛ أي التحكم بتفاصيل عملهم الصغيرة. لقد أثبت هؤلاء الأفراد مراراً وتكراراً كفاءتهم وقدرتهم على الابتكار، بالإضافة إلى إمكانية الاعتماد عليهم. وهم يحتاجون إلى الاستقلالية فيما يتعلق باتخاذ القرارات وحل المشكلات وتنفيذ مسؤولياتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، لذلك، يجب الوثوق بهم ومنحهم الصلاحيات التي تتناسب مع مسؤولياتهم، وعندها لن يقتصر أداؤهم على تلبية التوقعات فقط، بل سيتجاوزونها غالباً ويحققون إنجازات أكبر.
يجب على المدير منح أصحاب الأداء العالي الاستقلالية مع مراعاة رغبته الطبيعية في مراقبة أدائهم من كثب، وذلك من خلال تحديد توقعات واضحة من البداية. حدد النتائج التي تسعى إلى تحقيقها، لكن امنحهم الحرية في اتخاذ القرارات وتحديد كيفية تحقيق هذه الأهداف. حدد اجتماعات مراجعة منتظمة وقصيرة مع أصحاب الأداء العالي بحيث يمكنهم إبلاغك بالمستجدات ومدى التقدم الذي أحرزوه، وركز فيها على تقديم التوجيه والدعم بدلاً من محاولة التدخل وفرض أسلوب العمل وتنفيذ المهام.
إذا وجدت نفسك ترغب في ممارسة الإدارة التفصيلية، فتذكّر بأن أداءهم السابق أدى إلى اكتسابهم هذا المستوى من الثقة. فكّر في صياغة هذه الرغبة بطريقة ما، مثل أن تقول: "أنا متاح ومستعد لمساعدتك عند الحاجة، لكنني أثق بقدرتك على تنفيذ هذه المهمة"؛ سيتيح لك ذلك البقاء على اطلاع بالمستجدات ومتابعة عملهم دون تقييد استقلاليتهم. قد يكون التخلي عن مراقبة أداء الموظفين والتحكم في تفاصيل عملهم أمراً صعباً بالنسبة لبعض المدراء، لكنّ الثقة في طريقتهم التي يتبعونها لتنفيذ المهام ستؤدي في النهاية إلى نتائج أفضل وتعزز التزامهم ومشاركتهم.
5. التوافق مع قيم المؤسسة
لا يسعى أصحاب الأداء العالي للحصول على راتب أعلى فحسب؛ بل يسعون إلى تحقيق غاية وهدف من عملهم، فهم يريدون أن يشعروا بأن عملهم هادف ومتوافق مع قيم المؤسسة، لذلك، من المهم التأكد من توافق قيمهم الشخصية مع رسالة الشركة. احرص على التواصل معهم من خلال إجراء محادثات حول الأمور التي تحفزهم وابحث عن طرق لربط عملهم ومهامهم بالأهداف التنظيمية الأوسع.
لاكتشاف العوامل التي تحفّز أصحاب الأداء العالي، اطرح عليهم أسئلة عميقة لفهم جوهر قيمهم وطموحاتهم، مثل: "ما هي الأنشطة أو المهام التي تمنحك أكبر قدر من الطاقة؟" أو "ما هي المهام التي تستنزفك؟" أو "أي جوانب من رسالة المؤسسة تشعر بأنها تتوافق مع قيمك الشخصية؟" تعمّق أكثر من خلال طرح السؤال الآتي: "ما هو الأثر الذي تريد أن يحدثه عملك في الشركة أو القطاع؟" يؤدي ذلك إلى إنشاء رابط وثيق بين مهامهم اليومية ورؤية المؤسسة الأوسع.
تشير الأبحاث التي أجرتها كل من شركتي غالوب (Gallup) وماكنزي (McKinsey) إلى أن توافق عمل الموظفين ومهامهم التي يتولونها مع قيمهم الشخصية يؤدي إلى زيادة مستوى مشاركتهم والتزامهم، ما ينتج عنه في النهاية زيادة مستوى الإبداع والإنتاجية. يتناول كتابي "عامل النجاح" (The Success Factor)هذه الفكرة بوصفها مبدأً أساسياً ومهماً للأشخاص الناجحين وأصحاب الإنجازات. يؤدي تشجيع أصحاب الأداء العالي على تجسيد قيمهم من خلال عملهم إلى تعزيز مشاركتهم والتزامهم، بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى مساهمات أكثر ابتكاراً وتأثيراً؛ إذ إنهم يريدون أن يشعروا بأن عملهم له أثر أكبر من مجرد تحقيق أهدافهم الشخصية، ومن واجب المدراء مساعدتهم على رؤية كيفية مساهمتهم في تحقيق الأهداف العامة للمؤسسة.
يساعدك التركيز على هذه العوامل في الاحتفاظ بالموظفين أصحاب الأداء العالي ضمن فريقك، بالإضافة إلى أنه سيؤدي إلى إطلاق العنان لإمكاناتهم الكاملة، ما يسهم في دفع مؤسستك نحو تحقيق نجاح أكبر. في النهاية، يسعى الموظفون أصحاب الأداء العالي إلى الشعور بأهميتهم وقيمتهم وبأن جهودهم تُحدث تغييراً حقيقياً، وبصفتك قائداً، تقع على عاتقك مسؤولية ضمان ذلك.