لا يبدو أنّ إعادة الخلط الكبير للأعمال الذي بدأ في السنوات الثلاث الأخيرة حول موضوع الاندماجات الكبرى آخذ بالتراجع أو الفتور. إذ تُعتبر التغييرات العميقة في التقنية والعولمة التي بدأت في التسعينيات مستمرة في قلب طريقة عيشنا وعملنا رأساً على عقب. حتى أنها أجبرت الشركات على إعادة توزيع ما تحمله من أوراق، وتسببت في إعادة خلط لملكية الأصول في الاقتصاد.
كانت هذه ثالث سنة على التوالي يُعلن فيها عن حصول أكثر من 5,000 صفقة اندماج واستحواذ على مستوى العالم بحسب وكالة طمسون رويترز، وهو رقم قياسي. إذ لم يحدث مثل هذا العدد الكبير من الصفقات العالمية في السابق إلا في عامي 2007-2008، وقبلها في العام 2000، الذي شهد ذروة الصفقات في سنة واحدة بحدوث ما يزيد عن 40,000 صفقة. وشهدنا في الإحدى عشر عاماً الأخيرة أكثر من 500,000 صفقة اندماج واستحواذ، أي أكثر من أي فترة في التاريخ الحديث. (ليس لدينا بيانات جيدة عن بداية القرن العشرين، عندما حصل إعادة خلط هائل للأصول.)
الاندماجات الكبرى لعام 2017
ما الذي تخبرنا به أهم الصفقات التي حصلت في العام 2017 عن إعادة المزج هذا وتأثيره على حياتنا اليومية؟
صحتنا
لا تزال صفقة اندماج شركة سي في إس (CVS) وأتنا (Aetna) ذات الـ68 مليار دولار تحيّر حملة الأسهم والمستهلكين، كيف سيكون أثرها على نظامنا الصحي؟ من الواضح أنها جزء من إعادة خلط أكبر للأصول، بدأ منذ سنوات عديدة مع صفقات في الصيدلة الدوائية كما في اندماجات شركة سانوفي- جينزايم (Sanofi-Genzyme) لعام 2011، ونوفارتس-جي إس كيه (Novartis-GSK) في العام 2014، وعدد من المحاولات الفاشلة من شركة فايزر للاندماج ونقل مقرها الرئيسي إلى الخارج. وحاولت بعدها شركات التأمين أن تتوحد، وواجهت منعاً من هيئات مكافحة الاحتكار. وعملت المشافي أيضاً على الاندماج أفقياً متى أمكن، وكذلك فعلت صيدليات التجزئة. ما أفسح المجال لشركتي سي في إس وأتنا لتفتحا آفاقاً جديدة عبر اندماج رأسي. وسوف تُطلعنا السنوات القليلة القادمة عن تأثيرات هذا النوع من إعادة خلط الأصول.
ما نشاهده
اتخذ الإعلام أيضاً مساراً مشابهاً من إعادة الخلط. بدأ الأمر مع بلوغ الاندماجات الأفقية أقصى حد لها. فقد مُنعت شركة أيه تي آند تي (AT&T) من الاستحواذ على شركة تي_ موبايل (T-Mobile) في العام 2011، كما أنّ سبرينت (Sprint) وتي_ موبايل تحدثتا لكنهما لم تتمكنا من إتمام الصفقة هذه السنة. لكن الرغبة بالاندماج لم تخبو لدى أيه تي آند تي. فقد أعلنت الشركة السنة الماضية عن تقديمها عرضاً للاستحواذ على تايم وارنر (Time Warner) في اندماج رأسي آخر، وقررت وزارة العدل هذا العام أنها ستخضعه للاختبار في المحاكم. بدورها ديزني عرضاً للاستحواذ على الأصول الترفيهية لشركة "توينتي فيرست سينتشري فوكس" (acquisition of 21st Century Fox) وهو ما يعتبر إلى حد ما اتحاداً أفقياً تقليدياً، ولو أنّ الأمر أكثر تعقيداً من ذلك. وهناك جانب في هذا السياق سيكون من المثير مراقبته يتمثل في ما سيحدث لشركة هولو (Hulu)، منافس نتفليكس على الإنترنت، والذي سيخضع لسيطرة الأغلبية من قبل ديزني. إذاً، ستنطلق هذه المعركة من جديد العام القادم.
كيف نشتري في خضم الاندماجات الكبرى
إلى حد ما، كان الدافع وراء إعادة الخلط الذي حصل في الرعاية الصحية والإعلام يعود إلى تهديدات من شركات مثل نتفليكس وأمازون (جزء من زعزعة التجارة الإلكترونية التي تعود إلى بداية الألفية الثانية). فقد استمرت كفاءة شركات الإنترنت تتسبب في تساقط عمالقة التجزئة التقليديين. لكن المعركة بين المتاجر التقليدية ومتاجر الإنترنت اتخذت منعطفاً جديداً مع شراكات واندماجات بين الجانبين. وفي حين أنّ معظمنا علم باستحواذ أمازون على هوول فودز (Whole Foods) مقابل 13 مليار دولار في صفقة هي الأشهر لعام 2017، إلا أن حيواناتنا الأليفة هي غالباً التي لاحظت صفقة استحواذ بتسمارت (PetSmart’s) على تشيوي دوت كوم (Chewy.com) مقابل 3.4 مليار دولار. كذلك يبدو أنّ استحواذ وول مارت على جت دوت كوم (Jet.com) في عام 2016 بدأ يؤتي ثماره الآن، ما يعني أننا سوف نشتري المزيد والمزيد عبر الإنترنت.
اقرأ أيضاً: ما الذي يميّز حقاً الشراكات عن عمليات الاندماج والاستحواذ؟.
الآلات التي تُدير العالم
حتى عالم التقنية نفسه يتعرض لإعادة خلط، حيث بدأ باكراً في دورة الاندماج هذه. فقد تمت العام الماضي صفقة الـ67 مليار دولار للاندماج بين ديل وإي إم سي، كما دخلت صفقة الـ26 مليار دولار للاندماج بين مايكروسوفت ولينكد إن حيز التنفيذ الآن. أما بالنسبة إلى آبل وفيسبوك وجوجل فقد كانوا جميعهم هادئين هذا العام من ناحية الاستحواذات (ربما لأنهم أصبحوا في غاية الضخامة) باستثناء تصدرهم عناوين بعض أخبار الاندماجات الكاذبة. ومع ذلك، هناك مجموعات تقنية مستعدة للاتحاد، مثل برودكوم (Broadcom) التي قدمت عرضاً جريئاً من 105 مليار دولار للاستحواذ على كوالكوم (Qualcomm)، وهو ما أصاب كلاً من جوجل ومايكروسوفت بالقلق لخشيتهما أن تكون آبل من يقف وراءه. نعم، يتصارع عمالقة التقنية الكبار على التحكم بالآلات التي تُدير عالمنا.
كيف نتنقل
تُغيّر صفقات التقنية أيضاً طريقة تنقّلنا من مكان إلى آخر. إذ بدأ إعادة الخلط في هذا القطاع باكراً، بدءاً من اندماجات بين شركات السيارات وشركات الطيران في أواخر التسعينات، ومن ثم مرة أخرى مع حلول الكساد العظيم. هنا أيضاً، بلغت الاندماجات الأفقية حدها الأقصى، لهذا تحول اللاعبون إلى شراكات لا ترقى إلى اعتبارها اندماجات كاملة، كاتحاد "تحالف ستار" (Star Alliance)، الذي احتفل بالذكرى العشرين لتأسيسه هذا العام. لكن حتى هذا القطاع الذي جرت مؤخراً إعادة هيكلته يتعرض لزعزعة من التقنية، مع تحول السيارات إلى كمبيوترات على عجلات.
كيف نصنع الأشياء
تبدو إعادة خلط التكتلات الصناعية أمراً ثانوياً، فنحن معتادون على رؤية شركات ضخمة تستمر في إعادة توزيع أصولها. إلا أنّ التوقع الأكبر الذي يجري مراقبته في هذا المجال هو ما إذا كانت جنرال إلكتريك، مع رئيسها الجديد، ستجزئ نفسها. على أية حال، يبقى ما حدث هذه السنة في مجال الكيماويات حقيقياً، وليس توقعاً. فقد أتمت داو (Dow) ودوبونت (Dupont) صفقة اندماج الندين بقيمة 156 مليار دولار هذا العام، ولا يزالان يعدان بتجزئة التكتل الجديد إلى ثلاثة أجزاء على الأقل. وكان الجانب الزراعي في هذا الاندماج أحد محفزي استحواذ باير (Bayer) على مونسانتو (Monsanto) بصفقة قيمتها 66 مليار دولار يُتوقع إتمامها عام 2018، واستحواذ تشيم تشاينا (ChemChina) على سينغينتا (Syngenta) في صفقة بقيمة 43 مليار دولار ستتم هذا العام. وبدورها تشيم تشاينا مقبلة على الاندماج مع سينو تشيم (SinoChem). أي أنه، لا يزال قلب الاقتصاد موجوداً وهو يصبح أكثر تركّزاً وعالمية، على الرغم من أنّ التقنية تخطف الأضواء.
من يمتلك أصول من
ليس إعادة الخلط العالمي جديداً أبداً. هو يحدث منذ عقود، وتقوده شركات أميركية متعددة الجنسيات غزت في البداية الأسواق الأجنبية في الخمسينيات والستينيات. لكن اتجاه هذا التدفق الاستثماري آخذ بالتحول مع بدء شركات أجنبية بالاستثمار في الولايات المتحدة. فصفقة الاندماج بين كرافت وهاينز لعام 2015 كانت تقودها شركة ثري جي كابيتال (3G Capital) في البرازيل والتي كانت تقف أيضاً وراء صفقة اندماج أنهايزر بوش (Anheuser Busch) وميلر (Miller) بقيمة 100 مليار دولار في العام 2016. لكن الاندماجات العالمية لم تمر من دون مقاومة، مثلما حصل مع بي بي جي (PPG) التي فشلت في الاستحواذ على أكزو نوبل (Akzo Nobel)، ومع قيام الحكومة الصينية هذا العام بوضع حواجز على قيام الشركات الصينية باستحواذات في الخارج.
كانت هذه أهم الصفقات التي تصدرت عام 2017، وهي النقاط الأهم في إعادة خلط الأعمال الذي يعيد تغيير طريقة حياتنا حول موضوع الاندماجات الكبرى بشكل خاص.
اقرأ أيضاً: متى يجب على الشركات التحالف ومتى يجب عليها الاستحواذ؟.