بات يُنظر إلى درجة انخراط العامل في شركته وحماسته للعمل فيها، في يومنا هذا، بوصفها المقياس الأسمى الذي لا يُشقّ له غبار للحكم على فعالية العامل في مكان عمله. وبحسب الدراسة التي يتردد ذكرها بكثرة والتي أجرتها شركة "غالوب"، فإن ثلث الموظفين الأميركيين فقط منخرطين فعلاً بحماسة في وظائفهم، مع العلم أن القيمة العالمية لهذه النسبة بلغت 13% فقط على مدى سنوات طوال. وتنفق شركات كثيرة مبالغ كبيرة من المال بهدف تحديد العوامل التي من شأنها أن تقود إلى زيادة درجة انخراط العاملين في أعمالهم وبالتالي تشجيعهم على أن يكونوا سُعداء ومُنتجين أكثر.
إننا نعتقد أن الانخراط في العمل أمر مهم، غير أننا وبناءً على الأبحاث التي أجريناها بالاشتراك مع العديد من الشركات الكبرى، نودّ هنا أن ندعو إلى بعض الحذر: فمفهوم الانخراط كثيراً ما ينطوي على شيء من الغموض. وتبعاً للطريقة التي تقاس فيها درجة الانخراط، فإنها قد تعني الرضا في العمل، أو التعاطف مع القضية التي تضعها الشركة في صدارة أهدافها، أو الرغبة والاستعداد لبذل جهود طوعية لخدمة الشركة، أو الترويج للشركة بوصفها مكان عمل جيد. وفي حين توحي الكثير من الدراسات بأن ازدياد درجة انخراط العاملين في أماكن عملهم يؤدي في المحصلة إلى تحسين نتائج الشركة، فإن نظرة أعمق إلى نتائج تلك الدرسات تظهر أن ذلك الاستنتاج ليس بالضرورة صحيحاً دائماً على المستوى الفردي.
بالتعاون مع اثنتين من الشركات المدرجة على لائحة "فورتشن 100"، أردنا اختبار الفرضية القائلة بأن العاملين المنخرطين بدرجة كبيرة في أعمالهم هم الأكثر إنتاجية. ولعل الافتقار إلى مقاييس للإنتاجية سليمة ودقيقة بالنسبة لغالبية الوظائف المرتبطة بالمعرفة (في مقابل أرقام القياس الواضحة المتوفرة بالنسبة لموظفي البيع على سبيل المثال)، يجعل تحديد قيمة رقمية للإنتاجية على المستويات الفردية أمراً صعباً، ولذلك لجأنا إلى منتجنا في شركة "مايكروسوفت" المخصّص لتحليل أماكن العمل والذي يستخدم بيانات مفكرات العمال وبريدهم الإلكتروني اللاشخصية بغية إيجاد علاقات تربط بين مدخلات العامل (مثل عدد ساعات عمله، والوقت الذي يقضيه مع مديره، وحجم شبكة علاقاته على سبيل المثال) من جهة، ودرجة انخراطه في مكان عمله من جهة أخرى.
وبعد أن جرّبنا عدداً من مقاييس السلوك المحتملة رسَونا على استخدام مقياس يحدد متوسط عدد ساعات العمل الأسبوعية بوصفه المقياس الأساس. ومع أن عدد ساعات العمل لا يشير إلى جودة العمل أو إلى الإنتاجية، إلا أننا رأينا أنه من المثير للاهتمام استكشاف ما إذا كانت هنالك علاقة بين درجات انخراط العاملين في وظائفهم وعدد ساعات عملهم الأسبوعية. ولقد كانت النتائج التي توصلنا إليها مختلفة تماماً في كل من الشركتين المدروستين.
الشركة الأولى: علاقة قوية. وجدنا بالنسبة للشركة الأولى أن ساعات العمل الطويلة ارتبطت بقوة مع درجة الانخراط المرتفعة. هذا يعني أن الموظفين الذين يعملون لساعات طوال في الشركة كانوا في العموم أكثر انخراطاً وحماسةً للعمل من سواهم، وذلك حسب تقديرهم الشخصي لدرجة انخراطهم وحماستهم. ولعلّ التفسير الأكثر احتمالاً لهذا الترابط، بناءً على ملاحظاتنا الكيفية أيضاً، هو أن الموظفين الأكثر انخراطاً في العمل يعملون ببساطة ساعات أطول لأنهم متحمسون –وهو أمر جيد بالنسبة لجميع الأطراف. ومن المنطقي أن ترى الشركة في هذه النتائج حافزاً إضافياً وإثباتاً على أن متابعة الإنفاق بهدف رفع درجة انخراط عامليها في أماكن عملهم سيسهم بالمقام الأول في رفع العائد على الاستثمار في الشركة إلى جانب جعل العاملين أكثر سعادة.
توحي هذه العلاقة عموماً بأن درجة انخراط العاملين وفق الطريقة المتّبعة في القياس قد انسحبت، جزئياً على الأقل، على كمية الوقت والطاقة التي كانوا على استعداد لتكريسهما في سبيل عملهم. غير أننا عندما ننظر إلى الموظفين الذين يعملون لساعات طويلة جداً نسبياً في الأسبوع الواحد (أي الذين يعملون أكثر من 90% من أكبر عدد لساعات العمل)، فإننا نجد أن درجة انخراطهم تنخفض بسرعة كبيرة، الأمر الذي قد يدل على إرهاق الموظفين بسبب ساعات العمل الطوال. وهكذا فإن درجة الانخراط المرتفعة في العمل لا توصلنا سوى إلى حدّ معين بالنسبة للإنتاجية.
الشركة الثانية: لا علاقة. لقد توصلنا إلى نتيجة مختلفة بالنسبة للشركة الثانية. فدرجة انخراط الموظفين بحماسة في عملهم لا تبدو أنها تخبرنا شيئاً عن عدد الساعات التي يرغبون في تكريسها لعملهم. ومع غياب أية علاقة واضحة بين عدد ساعات العمل ودرجة انخراط الموظف في مكان عمله، لجأنا إلى تقسيم البيانات بطرق أخرى. ولتبسيط الأمور قمنا بتقسيم مجموعة الموظفين في الشركة الذين يقارب عددهم حوالي 3,000 موظف إلى مجموعتين تبعاً لمتوسط عدد ساعات عملهم في الأسبوع الواحد: مجموعة الموظفين الذين يعملون عدداً من ساعات العمل يفوق المتوسط، ومجموعة الموظفين الذين يعملون عدداً من ساعات العمل أصغر من المتوسط. وبالمثل قسمنا الموظفين أيضاً إلى فريقين تبعاً لدرجة انخراطهم بحماسة في عملهم، الأمر الذي أتاح لنا تصنيف كل موظف مجهول الهوية ضمن واحدة من الفئات الأربع التالية:
• الذين يعملون ساعات عمل طويلة ويحققون درجة مرتفعة من الانخراط في العمل –وهي الفئة المثالية التي تسعى كل الشركات إلى توظيفها.
• الذين يعملون ساعات عمل طويلة ولا يحققون سوى درجة منخفضة من الانخراط في العمل. وهذا يشير إلى مخاطر الاستنزاف التي تستدعي الانتباه واليقظة حيالها. وقد يكون أولئك موظفين مهمين غير أنهم يشعرون بالإرهاق في عملهم ولا شك في أن خسارتهم ستكون مؤلمة لشركتهم.
• الذين لا يعملون ساعات عمل طويلة، لكنهم يحققون درجة مرتفعة من الانخراط في العمل. من المحتمل أن يكون أولئك العاملون راضين في عملهم لأنهم قادرون على تحقيق أو تجاوز القليل المتوقع منهم.
• الذين لا يعملون ساعات عمل طويلة ولا يحققون سوى درجة منخفضة من الانخراط في العمل. قد تدل درجة انخراطهم المنخفضة في العمل على أنهم مهددون أيضاً بمغادرة أماكن عملهم، غير أن ساعات عملهم المنخفضة توحي بأن فقدانهم قد لا يكون سيئاً بالنسبة للشركة.
درجة انخراط الموظفين في وظائفهم وعدد ساعات عملهم الأسبوعية لا يتفقان دائماً.
توزّع حوالي 3,000 موظف في إحدى الشركات المدرجة على لائحة "فورتشن 100".
درجة انخراط الموظفين درجة مرتفعة 25% من الموظفين 28%.
درجة منخفضة 25% 22%.
ساعات عمل طويلة ساعات عمل قصيرة.
طول ساعات العمل الأسبوعية.
المصدر: برنامج تحليل مكان العمل من "مايكروسوفت"
HBR.ORG
لقد فوجئنا بأن عدداً كبيراً نسبياً من الموظفين الذين يُبدون درجة مرتفعة من الانخراط في عملهم لا يعملون سوى عدد قليل من الساعات، فربع موظفي هذه الشركة يمكن تصنيفهم ضمن فئة الذين لا يعملون ساعات عمل طويلة، لكنهم يحققون درجة مرتفعة من الانخراط في العمل. كما أن 22% من الموظفين يُصنّفون ضمن فئة الذين يعملون ساعات عمل طويلة، لكنهم لا يحققون سوى درجة منخفضة من الانخراط في العمل. وتفسيرنا لذلك هو أن مجموعة كبيرة من العاملين تشعر بالرضا والسعادة لأنها لا تعمل سوى عدد قليل من الساعات، وأن مجموعة أصغر منها من العاملين الذين يعملون ساعات طوالاً هي في الواقع مهدّدة بالاستنزاف بسبب انخفاض درجة انخراطها في العمل.
ولعل كلا المعطيَين يُشكّلان مناسبة لدعوة كبار القادة في الشركة المعنية إلى توظيف المزيد من الموارد من أجل خلق ثقافة للانخراط والإنتاجية معاً. فأية مبادرة تهدف إلى تعزيز واحدة فقط من هاتين الميزتين قد تكون لها عواقب سلبية غير مقصودة. والشركة الآن بصدد إطلاق سلسلة من المبادرات الهادفة إلى جعل أعباء العمل أكثر توازناً، الأمر الذي يعتقد قادتها أنه سيساعد على صعيدي الانخراط والإنتاجية في آن معاً. ولعلّ القادم من الأيام كفيل بإظهار ذلك.
يُجمع غالبية الناس على أن انخراط القوى العاملة بدرجة مرتفعة في أعمالهم هو أمر جيد، غير أن الشركات يجب أن تكون واعية ومتيقظة إلى ما تؤشر إليه نتائج قياس درجات انخراط عامليها فعلاً –وهو أمر قد يختلف كثيراً كما رأينا سابقاً. وبسبب هذا الغموض، فإنك إن عوّلت فقط على نتائج قياس درجة انخراط الموظفين في تقييم صحة مؤسستك، تكون عرضة لفقدان الصورة الكاملة حول حقيقة ما يحدث فيها، وقد يُفضي بك الأمر لأن تخسر الإنتاجية مقابل حصولك على قدر من "الانخراط" المعرف بشكل فضفاض.
فقياس درجة الانخراط من خلال عبارة "الشركة الفلانية هي مكان رائع للعمل"، على سبيل المثال، قد لا يكون سوى مجرد انعكاس للتوافق بين الموظفين وثقافة الشركة أو بيئة العمل فيها. فإذا كانت ثقافة الشركة وبيئتها العامة تسمحان بالتثاقل والبطء والراحة في العمل، فإن الموظفين الذين ينخرطون في بيئة عملهم بحماسة ويتفقون مع ثقافة شركتهم من المرجّح أن يكونوا مسرورين فيها، لكن إنتاجيتهم قد تكون منخفضة. وبالمقابل، فإن شخصاً نشيطاً ومجتهداً ويشعر بطبيعته أن بوسعه تغيير العالم قد يكون منتجاً إلى أبعد الحدود، من دون أن يكون منخرطاً في بيئة عمله بحماسة واندفاع لأن ثقافة الشركة لا تنسجم مع توجهات شخصيته وطبائعها.
وفي المحصلة، على الشركات أن تختار نمط الثقافة التي ترغب في أن يسود فيها وأن تجد الأدوات المثلى لقياس ذلك –مع عدم إغفال أي بيانات، أكانت ناتجة عن استبيان آراء الموظفين أم عن دراسة سلوكهم، بحيث تتمكن من معرفة ما يحدث فعلاً على أرض الواقع. وبعد ذلك على تلك الشركات أن تدرب مدراءها على تعزيز تلك الثقافة بالتشارك مع طواقم عملها. ولحسن الحظ فقد تمكّنا، كجزء من بحثنا، من التعرف على الإجراءات التي بوسع المدراء القيام بها بغية تحفيز الموظفين في وظائفهم، ابتداءً بإجراءات القيادة الحقيقية وانتهاءً بتوزيع أعباء العمل بالعدل بين الموظفين. ولما كانت جميع الأفكار والمنتجات ونتائج الأعمال نابعة في نهاية المطاف من جهود ونشاطات الموظفين، فإن من المرجح أن الشركات القادرة على تحفيز وإلهام موظفيها بأساليب تدفع بنتائج العمل الحقيقية نحو الأعلى، هي التي ستحقق السبق في الأداء.