شهد قطاع التعليم تغيراً جوهرياً منذ عام 2020، إذ تأثر أكثر من 1.5 مليار طالب في بداية جائحة كوفيد-19 بسبب تعطّل العملية التعليمية. وقد أربك هذا التغيّر الكثير من المدارس على مستوى العالم، التي تعثرت بدورها في عملية الانتقال إلى آلية التعليم عن بُعد. وعلى الرغم من صدمة بعض المدارس وزعزعتها، استطاعت أخرى الانتقال بشكل سريع ومثالي إلى التعليم عن بُعد، لتدعم استمرار العملية التعليمية متخطية العديد من التحديات، ونأخذ هنا مدارس التربية الإسلامية في السعودية نموذجاً.
مدارس التربية الإسلامية هي مدارس أهلية أسّستها الأميرة سارة بنت فيصل بن عبد العزيز في عام 1964 في الرياض، ثم انتقلت ملكيتها في عام 2006 إلى وزير التربية والتعليم السابق، الدكتور محمد بن أحمد الرشيد، رحمه الله.
وضعت مدارس التربية الإسلامية استراتيجية ممنهجة مكّنتها من نقل العملية التعليمية إلى الفضاء الإلكتروني، والتغلب على التحديات التي واجهت الكثير من المؤسسات التعليمية آنذاك مثل عدم انتظام الحضور للطلاب والمعلمين، والمشكلات التقنية في التعامل مع المنصات الإلكترونية، والأداء المنخفض للطلاب، وتأثر الصحتين النفسية والعقلية لديهم، وضعف التواصل، وغيرها من التحديات.
لم يعد التعليم عن بُعد مرتبطاً بالجائحة فقط، إذ شهدنا جميعاً كيف أسهم في دعم العملية التعليمية وتحقيق نتائج إيجابية، فما هي الاستراتيجية التي اتبعتها مدارس التربية الإسلامية للانتقال السلس إلى بيئة التعليم عن بُعد؟
1. الجاهزية المبكّرة
لم يكن التعليم عن بُعد بدعة ابتكرتها الجائحة، بل كان اتجاهاً موجوداً ومسألة انتشاره وتحوله إلى واقع ما هي إلا مسألة وقت، لكن كان دور الجائحة هو تسريع تبنّيه كما فعلت في تبنّي التحول الرقمي في كافة القطاعات، وإجبار المؤسسات المقاومة للتغيير على السير باتجاهه.
على النقيض، كان عدد قليل فقط من المؤسسات التعليمية يطبّق أساليب التعليم عبر الإنترنت أو التعليم المدمج قبل الجائحة ببدء دمج التكنولوجيا ضمن طرق التدريس، كنوع من الاستجابة للمتغيرات التي تفرضها الابتكارات الجديدة، وتلبيةً للاحتياجات والمهارات المستقبلية بعيدة المدى، ما حسّن من فاعلية استجابة هذه المؤسسات في أثناء الجائحة، وهذا ما فعلته مدارس التربية الإسلامية، إذ كانت من السبّاقين في تبني نظام إلكتروني بدأته بتطوير نظام داخلي، ثم انتقلت إلى الاشتراك في منصة كلاسيرا التعليمية، وتمكنت عبر حسابها في هذه المنصة من رفع مصادر التعلم والمناهج الإلكترونية المتنوعة.
فتقول الرئيسة التنفيذية لمدارس التربية الإسلامية، أسماء خالد القاضي: "حينما جاءت الجائحة، انتقلت المدارس بشكل سلس وآلي إلى التعلم عن بعد دون تحديات تُذكر، إذ كان الطلاب والمعلمون مستعدين ومدربين جيداً".
2. استجابة سريعة عبر خطة تنفيذية شاملة
بمجرد إعلان وزارة التعليم في السعودية تعليق الدراسة وإغلاق المدارس في جميع أنحاء المملكة، سارعت إدارة مدارس التربية الإسلامية إلى عقد اجتماع طارئ مع كافة القيادات بالمدارس بدايةً من مالكي المدارس والمديرة وقادة المراحل المختلفة ومديرة الجودة والتطوير ومديرة الشؤون المدرسية، واتفِق على وضع خطة تنفيذية شاملة تضم أهدافاً واضحة، ومهام محددة، ولكل مهمة مدة زمنية معيّنة.
كانت كلمة السر في نجاح هذه الخطة هي الإلمام بأدق التفاصيل، بدءاً من إرسال رسالة لأولياء الأمور بتعليق الدراسة، وتنظيم اجتماعات دورية، وتوضيح منصات التواصل، ومنصات التعليم عن بُعد، وتجهيز المواد ورفعها عبر المنصات، وتوضيح آلية التعامل مع المنصات سواء للطلاب أو أولياء أمورهم، وقد تم تصميم استمارات خاصة بحضور الحصص الافتراضية ليستخدمها القادة والمشرفون عند الحضور الافتراضي ومتابعة العملية التعليمية، بالإضافة إلى استخدام بياناتها في التحسين والتطوير المستمر.
أوضحت الخطة أيضاً مهام كل الأطراف من المعلمين، ورؤساء الفِرق، والمدراء، وتم التشديد على دور كل منهم وطبيعة عمله بدءاً من مواعيد الحضور إلكترونياً، وتحديد عدد الساعات، ومنصات حضورهم مثل البريد الإلكتروني وكلاسيرا والهاتف وبيرسون وكلاس دوجو. إذ جنّب هذا الوضوح المدارس تحدياً رئيسياً واجه العديد من المؤسسات التعليمية حول العالم، وهو ارتفاع معدلات غياب المعلمين مقارنةً بالسنوات الدراسية قبل جائحة كوفيد-19، بسبب ترك العمل، والإرهاق والتوتر الناجم عن عدم وضوح الرؤية أو الجاهزية والتمكُن من التحول.
3. إتاحة منصات تفاعلية سهلة التعامل
عقدت المدارس شراكات عالمية مع كلاسيرا ومايكروسوفت وبيرسون لإتاحة منصات سهلة الاستخدام من قِبل المعلم والطالب معاً، وتتيح التفاعل والنقاش، وصممت بتمايز تجربة مختلفة لكل مرحلة (لمراعاة الفئات العمرية). فعلى سبيل المثال، خصصت المدارس منصة كلاسيرا لمراحل التعليم الأساسية، وهي نظام إدارة تعلّم إلكتروني ذكي يوفر بيئة ذكية تخص التعليم الإلكتروني التفاعلي، وهي الأعلى تصنيفاً في منطقة الشرق الأوسط. كما خصصت منصة كلاس دوجو لمرحلة رياض الأطفال، إذ تحمل واجهة سهلة الاستخدام وتعزز السلوك الإيجابي والمشاركة بين الطلاب، فيما خصصت بيرسون (SAVVAS REALIZE)، وهو نظام لإدارة التعلم أيضاً، لمرحلة الدبلوما.
4. آليات بناء المحتوى الإلكتروني
جودة المحتوى وشكل تقديمه من أكبر التحديات أمام تقديم تجربة تعليمية إيجابية. وفي هذا الصدد، اتبعت المدارس عدة آليات، الأولى هي التنويع بين حصص البث المباشر التي تسمح للطلاب بالحضور والمشاركة وطرح الأسئلة في الوقت نفسه، والفيديوهات المصورة مسبّقاً، والروابط التي تضم مصادر تعلم إضافية متنوعة من مواقع مختلفة، والأنشطة التفاعلية. وقد أثبت هذا التنوع فاعلية في جذب الطلاب من ناحية، وزيادة تركيزهم وانخراطهم من ناحية أخرى.
والآلية الثانية هي وضع معايير لتدقيق المحتوى الإلكتروني سواء الفيديوهات أو المرفقات، وتراعي هذه المعايير جودة المادة مثل مناسبتها للمرحلة العمرية وارتباطها بالمنهاج الدراسي وأهداف الدرس، وخروجها بشكل لغوي وإملائي سليم، كما تراعي إخراج المادة بشكل مناسب لضمان سهولة تلقيها من قِبل الطلاب مثل حجم الخط ولونه (فمثلاً يُمنع استخدام الخط الأحمر لأن هناك 6% من البشر لا يرونه)، والتنسيق وجودة الفيديو واستخدام مؤثرات مناسبة، وهكذا.
كما كانت التحديات التكنولوجية والتعامل مع منصات التعلم الإلكتروني واحدة من المشكلات التي أبلغ عنها الطلاب حول العالم بصفتها أحد العوائق التي حالت دون تحقيق النتائج المرجوة. وبشأن هذا التحدي، كانت مدارس التربية الإسلامية حريصةً على شرح كافة تفاصيل استخدام المنصات للطلاب، فصممت مقاطع فيديو توضيحية، ورسوم إنفوغراف سهلة الفهم، توضح بالتفصيل كيفية استخدام كل منصة، وفقاً للمرحلة التعليمية.
كما صممت فيديوهات توضيحية لأولياء أمور الطلاب في مرحلة رياض الأطفال، تشرح لهم كيفية استخدام هذه المنصات، وتعرض لهم أسماء المسؤولين عن كل مرحلة وقنوات التواصل الفعال معهم.
5. مشاركة أولياء الأمور
لعبت مشاركة أولياء الأمور دوراً قوياً في التخفيف من بعض قيود التعليم عن بُعد. ولطالما اعتبرت مدارس التربية الإسلامية أولياء الأمور شريكاً أساسياً في العملية التعليمية، حتى قبل الجائحة، إذ تُطلعهم على الأهداف الاستراتيجية، وتُصمم أدوات ووسائل واضحة للسماح لهم بالاطلاع على كافة المستجدات والإنجازات وعرض البيانات والإحصاءات باستمرار.
وحينما انتقلت المدارس إلى التعليم عن بُعد، كانت الإدارة واعية بأهمية مشاركة أولياء الأمور، إذ حرصت على فتح قنوات التواصل معهم عبر البريد الإلكتروني، ومقاطع الفيديو، لإعلامهم بكل جديد، وإرشادهم إلى كافة الإجراءات الجديدة واستخدام المنصات الإلكترونية، وتوعيتهم بدورهم في دعم أبنائهم تعليمياً ونفسياً.
6. الصحة النفسية للطلاب
لعل أبرز الجوانب ذات التأثير الأكبر في فترة الانتقال إلى التعليم عن بُعد هي الصحة العقلية للطلاب، التي تأثرت نتيجة ضعف التواصل والانعزال، إضافة إلى القلق المصاحب لانتشار الوباء. لذلك، حرصت المدارس على دمج التفاعل ضمن الأنشطة الطلابية، إضافة إلى توعية أولياء الأمور بدورهم في هذا الصدد، إذ تم تصميم برنامج حياة، وتأسيس إدارة خاصة به تُعنى بالصحة النفسية للطلاب والمنسوبين، كما وجهت المدارس خطاباً لأولياء الأمور يركز على السلامة النفسية للطلاب ويشرح الخطوات التي يتعين عليهم القيام بها لاحتواء أبنائهم ومساعدتهم على تجاوز هذه المرحلة الصعبة.
7. التطوير المهني
أصدر البنك الدولي تقريراً لرصد الدروس المستفادة من التعليم الإلكتروني الذي اتجهت إليه المدارس في أثناء الجائحة، وكان أحد هذه الدروس تأكيد أهمية التطوير المهني للمعلمين، فعقدت المدارس ورش افتراضية للفريقين الأكاديمي والإداري حول موضوعات متعددة مثل مهارات الاتصال الفعّال، وبناء فرق عمل ناجحة، ومهارات التيسير، والتعرف على الذات، وأخلاقيات العمل المهني والارتقاء بالأداء الوظيفي، كما تم استخدام بيانات حضور الحصص الافتراضية وتحليلها لتقديم التغذية الراجعة والتطوير بشكل مستمر.
كما دشنت المدارس مجتمعات للتعلم المهني الإلكتروني على منصة يامر (Yammer) التي تُعرف الآن باسم فيفا إنجيج (Viva Engage) التابعة لشركة مايكروسوفت، وتشمل مجموعة خاصة بالتعليم عن بُعد، يشارك من خلالها جميع المنسوبين والمنسوبات خبراتهم وتفعيلهم للبرامج التقنية المختلفة في تفعيل التعليم عن بعد، حيث يشارك المعلمون كل شيء جديد يخص قطاع التعليم، وكل استراتيجية جديدة جرّبها أحدهم ولاقت نجاحاً ليستفيد منها زملائهم من المعلمين والمعلمات.
8. معايير وتقارير جودة الأداء
لم تكتفِ المدارس بحرصها على تدقيق جودة المحتوى الإلكتروني المقدم لطلبتها، بل عززت ذلك بوضع معايير خاصة لمتابعة جودة الحصص الافتراضية لضمان تحقيق التوقعات المطلوبة، فلم تتهاون المدارس بمستوى جودة التعليم في مواجهتها للجائحة، حيث تضمنت العملية قياس ومتابعة وحضور لعدد من الحصص الافتراضية تجاوز 1044 حصة أي بمعدل حصة لكل معلم، إضافة إلى تقديم التغذية الراجعة الناجعة لأداء المعلم في كل حصة، ما شكل بيئة تعليمية داعمة ومتطورة.
وتخلل عملية المتابعة للأداء إجراءات وآليات خاصة لخلق بيئة تنافسية إيجابية من خلال عرض لوحات بيانات تفاعلية (Dashboard) توضح نسب تفاعل الطلبة والمعلمين لمنصات التعليم الإلكترونية لرفع مستوى التفاعل والانخراط وتكريم العناصر والأفراد الأكثر تفاعلاً.
واختتمت رحلة القياس والمتابعة بعدد من التقارير والإحصاءات والتحليل للبيانات التي قدمت التوصيات والإجراءات اللازمة لتطوير وتحسين الأداء.
9. برامج إثرائية
انتقال التعليم إلى الفضاء الإلكتروني لا يعني حرمان الطلاب من فرص تطوير مهاراتهم بعيداً عن المناهج الدراسية، ففعّلت المدارس عدة برامج عن بُعد مثل برنامج موهبة الذي ينظم بدوره اختبارات لقياس الموهبة العلمية، ومن يجتازه يلتحق بفصول البرنامج، وبرامج "حياة محمدية" و"حتى لا تذبل قيمنا"، ومسابقة "تحدي القراءة" وغيرها من المسابقات التي تركز على مهارات الرسم والإلقاء، وكذلك مهارات استخدام الحاسوب من برمجة وتصميم.
بسبب هذه الاستراتيجية الفعّالة، شاركت المدارس، باعتبارها نموذجاً ناجحاً للانتقال إلى بيئة التعليم عن بُعد في مبادرة "تعليمنا لن يتوقف" بدعوة من شركة كلاسيرا، لتوفير كوادر من المدارس لعقد تدريبات ونقل الخبرات لمساعدة المدارس الجديدة التي انضمت حديثاً إلى المبادرة.
لم تكن نهاية الوباء وفتح المدارس نقطة النهاية للتعليم عن بُعد، ولا سيما أن منظمة الصحة العالمية أشارت إلى احتمالية ظهور أوبئة جديدة في المستقبل، ما يستدعي أن تكون المؤسسات التعليمية جاهزة لمواجهة أي ظواهر. لذلك، تتبع المدارس نظاماً هجيناً، فعلى الرغم من عودة الطلاب للمدارس، لا تزال المنصات الإلكترونية تعمل كما هي.