لن تنجح في منصب قيادي ما لم تتعلم مهارة التركيز

19 دقيقة
الانتباه
shutterstock.com/Ody_Stocker
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يمثّل الانتباه العنصر الأساسي لتعلّم أهم مهارات القيادة، بما فيها الذكاء العاطفي والمؤسسي والاستراتيجي، إلا أنه لم يعد يحظى بكثير من الاهتمام. وإذا أراد القادة توجيه انتباه موظفيهم صوب الاستراتيجية والابتكار بالفعل، فعليهم أن يتعلموا أولاً تركيز انتباههم على 3 جوانب: على أنفسهم، وعلى الآخرين، وعلى العالم الأوسع.

وعلى كل قائد تنمية وعيه حول هذه الجوانب وتعزيزه ومراعاة تحقيق التوازن بينها، لأن الفشل في التركيز على النفس يجعل المرء يحيد عن الطريق، والفشل في التركيز على الآخرين يجعله جاهلاً، والفشل في التركيز على العالم يجعله يشعر بالضياع. وما يدعو للتفاؤل هو أننا قادرون على تعزيز كل شكل من أشكال التركيز بالفعل.

ويشرح مؤلف كتابَي “الذكاء العاطفي” (Emotional Intelligence) و”الذكاء الاجتماعي” (Social Intelligence) والعديد من الكتب الأخرى التي تدور حول أهمية تنمية الوعي دور التركيز في القيادة العظيمة، فالقادة الذين يتّسمون بقدرتهم على التركيز قادرون على حشد كامل انتباههم؛ فهم على وعي دائم بمشاعرهم الداخلية، وينجحون في التحكم في دوافعهم، وواعون بنظرة الآخرين عنهم، وقادرون على التخلص من المشتتات والسرَح في خيالهم في الوقت نفسه، ولا يعتنقون أي تصورات مسبقة.

لعلّ المهمة الأساسية للقادة هي توجيه الانتباه، لكنها مهمة تتطلّب منهم تعلّم كيفية توجيه انتباههم أولاً. وعندما نتحدث عن القدرة على التركيز، فإننا نعني بشكل عام التفكير في فكرة واحدة وتجاهل المشتتات. لكن تُظهر البحوث الحديثة في علم الأعصاب أننا نتبنّى عدة أنماط للتركيز ولأغراض مختلفة، وذلك بالاعتماد على مسارات عصبية مختلفة، بعضها يعمل في تناسق، وبعضها الآخر في تعارض.

كما أن فرز أنماط التركيز هذه في ثلاث مجموعات واسعة، التركيز على النفس، والتركيز على الآخرين، والتركيز على العالم الأوسع، يسلّط ضوءاً جديداً على ممارسة العديد من مهارات القيادة الأساسية، فالتركيز على النفس وعلى الآخرين على نحو بنّاء يساعد القادة على تنمية العناصر الأساسية للذكاء العاطفي، في حين يساعدهم الفهم الكامل لكيفية التركيز على العالم الأوسع على تحسين قدراتهم على صياغة الاستراتيجيات والابتكار وإدارة المؤسسات.

وعلى كل قائد تنمية وعيه حول هذه الجوانب وتعزيزه ومراعاة تحقيق التوازن بينها، لأن الفشل في التركيز على النفس يجعل المرء يحيد عن الطريق، والفشل في التركيز على الآخرين يجعله جاهلاً، والفشل في التركيز على العالم يجعله يشعر بالضياع.

التركيز على النفس

يبدأ الذكاء العاطفي بالوعي الذاتي الذي يعني إدراك الصوت الداخلي، ويمكن للقادة الواعين بأصواتهم الداخلية الاعتماد على مزيد من الموارد لاتخاذ قرارات أفضل والتواصل مع ذواتهم الحقيقية. لكن ما معنى ذلك؟ لجعل هذا المفهوم المجرد ملموساً، علينا أولاً فهم كيفية تركيز الأفراد على ذواتهم.

الوعي الذاتي

التركيز على الصوت الداخلي يعني إيلاء اهتمام خاص بالإشارات الفسيولوجية الداخلية التي يتحكّم بها الفص الجزيري الذي يقع خلف الفصوص الأمامية للدماغ، فالتركيز على أي جزء من الجسم يزيد من حساسية الفص الجزيري إليه. على سبيل المثال، عندما تراقب نبضات قلبك، يُثير الفص الجزيري مزيداً من العصبونات في مسارات منطقة القلب. وفي الواقع، أصبحت قدرة الأفراد على الإحساس بنبضات قلوبهم طريقة مألوفة لقياس وعيهم بأنفسهم.

فالحدس أو المشاعر الداخلية هي رسائل من الفص الجزيري ولوزة المخيخ، والتي يُطلق عليها المتخصص في الأعصاب في جامعة جنوب كاليفورنيا، أنتونيو داماسيو، مصطلح العلامات الجسدية، وهذه الرسائل هي أحاسيس تُشعرنا بمدى صحة قرار ما من خطأه. تبسّط العلامات الجسدية عملية صناعة القرار من خلال توجيه انتباهنا نحو خيارات أفضل لكنها غير مضمونة تماماً (كم مرة كان هذا الشعور بأنك تركت الموقد يعمل صحيحاً؟)، لذلك كلما التزمنا الشمولية بتفسير تلك العلامات، كان استخدامنا لحدسنا أفضل. (راجع “هل تتصفح هذا الشريط الجانبي؟”).

هل تتصفح هذا الشريط الجانبي؟

هل تجد صعوبة في تذكر ما أخبرك به شخص ما للتو في المحادثة؟ هل وضعت سيارتك على وضع القيادة الآلية في أثناء التوجه إلى العمل هذا الصباح؟ هل تركز على هاتفك الذكي أكثر من تركيزك على الشخص الذي تتناول الغداء معه؟

الانتباه عضلة عقلية، مثل أي عضلة أخرى، ويمكن تقويتها من خلال ممارسة النوع الصحيح من التمارين. والتمرين الأساسي لممارسة التركيز المتعمّد بسيط بالفعل: فعندما يشرد عقلك، أقرّ بأنك بدأت تسرح في خيالك أولاً، ثم أعده إلى نقطة التركيز التي تريدها وحاول الحفاظ على تركيزك لأطول فترة ممكنة، وهذا التمرين الأساسي هو أساس كل أنواع تمارين التأمل تقريباً، فالتأمل يطوّر القدرة على التركيز والهدوء ويسهّل التعافي من التوتر.

وكذلك الأمر بالنسبة للعبة فيديو تسمى تيناسيتي (Tenacity) التي طورتها مجموعة من المصممين والمتخصصين في الأعصاب في جامعة ويسكونسن. تقدم اللعبة التي طُرحت عام 2014 رحلة ممتعة عبر أي من ستة مشاهد، من صحراء قاحلة إلى دَرَج خيالي يتصاعد نحو السماء. ففي مستوى المبتدئين، تنقر على شاشة الـ آيباد بإصبع واحد في كل مرة تقوم فيها بالزفير؛ والتحدي هو النقر بإصبعين مع كل نفس خامس. وعندما تنتقل إلى مستويات أعلى، يُعرض عليك مزيد من عوامل التشتيت، كطائرة هليكوبتر تطير في مرمى البصر، وطائرة أخرى تحوم في الهواء، وسرب من الطيور يقترب فجأة.

وعندما يركز اللاعبون على إيقاع تنفسهم، فإنهم يقوّون بذلك عادة الانتباه الانتقائي باعتباره أحد تمارين التركيز الهادئ، كما هو الحال في التأمل. وتستكشف جامعة ستانفورد هذا الارتباط في مختبرها “كامينغ تيكنولوجي لاب (Calming Technology Lab) الذي يعمل على تطوير أجهزة استرخاء، مثل الحزام الذي يكتشف معدل التنفس. فعندما تتوتر لرؤية العديد من الرسائل في صندوق البريد الوارد مثلاً، وهي حالة تُسمى انقطاع النفس بسبب البريد الإلكتروني، يمكن لأحد التطبيقات على جهاز الآيفون أن يرشدك إلى كيفية تهدئة أنفاسك وعقلك من خلال التمارين.

لنتأمّل مثلاً نتائج تحليل المقابلات الشخصية التي أجرتها مجموعة من الباحثين البريطانيين مع 118 تاجراً محترفاً و10 مدراء في أربعة بنوك استثمارية في مدينة لندن. لم يكن أنجح التجار (الذين بلغ متوسط دخلهم السنوي 500,000 جنيه إسترليني) من أولئك الأشخاص الذين يعتمدون على التحليلات المحوسبة ولم يكونوا من أولئك الذين يعتمدون على حدسهم أيضاً، بل كانوا يركزون على مجموعة كاملة من المشاعر التي استخدموها للحكم على صحة حدسهم. فبعد أن تكبّدوا بعض الخسائر، تسلّل القلق إلى أرواحهم، فأصبحوا أكثر حذراً، وخاضوا قدراً أقل من المخاطر. أما التجار الأقل نجاحاً (الذين بلغ متوسط دخلهم 100,000 جنيه استرليني فقط)، فكانوا يميلون إلى تجاهل قلقهم والاعتماد على حدسهم، فحادوا عن طريق النجاح لعدم إيلائهم الإشارات الداخلية أي اهتمام.

ويُعد تركيز الاهتمام على الانطباعات الحسية الحالية عن أنفسنا أحد العناصر الرئيسية للوعي الذاتي، لكن هناك عنصر آخر مهم للقيادة، ألا وهو دمج خبراتنا المكتسبة بمرور الوقت مع نظرتنا الشاملة عن ذواتنا الصادقة.

والمصداقية تعني أن تتعامل مع الآخرين كما تتعامل مع نفسك، ويستلزم ذلك جزئياً إيلاء الاهتمام بنطرة الآخرين عنك، لا سيما الأشخاص الذين تقدر آراءهم والذين يلتزمون الصراحة في التقييمات التي يقدمونها لك. وهناك مجموعة متنوعة من مجالات التركيز المفيدة، ولعلّ أهمها الوعي الكامل، الذي نراقب فيه كل ما يدور حولنا دون أن ننشغل بأي شيء معين أو نحصر تركيزنا عليه، بمعنى أننا لا نمارس الحكم أو الرقابة أو التجاهل في هذا الوضع؛ بل الإدراك فقط.

وقد يجد القادة الذين اعتادوا على تقديم الآراء أكثر من تلقّيها صعوبة في ذلك. وعادةً ما يشعر الشخص الذي يواجه صعوبة في الحفاظ على وعيه الكامل بالضجر من التفاصيل المزعجة، كأن يستغرق المسافرون وقتاً طويلاً في وضع حقائبهم المحمولة على الماسح الضوئي في طابور التحقق الأمني في المطار. بينما سيراقب الشخص الذي يمكنه الحفاظ على انتباهه في وضع الوعي الكامل المسافرين دون أن ينزعج منهم، ما يجعله واعياً بمزيد من الأمور المحيطة به. (راجع الفقرة الجانبية “وسّع نطاق وعيك”).

ليس بالضرورة أن يقدّم لك الآخرون آراءهم إذا كنت شخصاً يتقبّل النقد، إذ لا تمنحنا الحياة دائماً فرصة معرفة نظرة الآخرين عنا، وتلك الفرص شبه معدومة حتى بالنسبة للمسؤولين التنفيذيين الذين يحصلون على ترقيات إلى مناصب أعلى. ولعلّ ذلك هو السبب الذي جعل أكثر الدورات شعبية وطلباً في كلية هارفارد للأعمال هي دورة تطوير القدرات القيادية الأصيلة لبيل جورج، حيث كوّن جورج ما يُطلق عليه مجموعات الدليل المُرشد لتعزيز هذا الجانب من الوعي الذاتي.

وسّع نطاق وعيك

مثلما تضبط عدسة الكاميرا بشكل ضيق على عنصر واحد أو عدة عناصر لالتقاط صورة بانورامية، يمكنك التركيز في عقلك على فكرة واحدة أو عدة أفكار.

ويقدم أحد مقاييس الوعي الكامل للأشخاص سلسلة من الأحرف والأرقام، مثل S ، K ، O ، E ، 4 ، R ، T ، 2 ، H ، P. سيلاحظ العديد من الأشخاص عند قراءة السلسلة الرقم الأول، 4، ثم يحيد انتباههم عنه. لكن سينجح أولئك الذين هم في وضع الوعي الكامل على تسجيل الرقم الثاني أيضاً.

ويتطلب تعزيز القدرة للحفاظ على الوعي الكامل من القادة أداء مهام تبدو غير طبيعية: كتنمية الرغبة في التخلي عن السيطرة أحياناً، وتجنّب تقديم وجهات نظرهم الخاصة، وعدم إطلاق أحكام على الآخرين. وهي ليست تمارين متعمدة بقدر ما هي تعديلات على السلوك.

ولعلّ إحدى طرق تعديله تكمن في القوة التقليدية للتفكير الإيجابي، لأن التشاؤم يضيق نطاق تركيزنا، قي حين توسع المشاعر الإيجابية نطاق انتباهنا وتقبّلنا لكل ما هو جديد وغير متوقع. وهناك طريقة بسيطة لتعزيز التفكير الإيجابي وهي أن تسأل نفسك، “إذا كانت حياتي مثالية الآن، فماذا سأفعل بعد 10 سنوات؟” لماذا هذه الطريقة فعالة؟ اكتشف المتخصص في الأعصاب في جامعة ويسكونسن، ريتشارد ديفيدسون، أنه عندما نكون متفائلين، تضيء منطقة الفص الجبهي اليسرى في الدماغ التي تحتوي على مسارات عصبية تذكرنا بمدى شعورنا بالرضا عندما نصل إلى هدف سعينا إليه منذ فترة طويلة.

ويقول عالم النفس في جامعة كيس ويسترن ريزيرف (Case Western Reserve)، ريتشارد بوياتزيز: “إن التحدث عن الأهداف والأحلام الإيجابية ينشط مراكز الدماغ التي تفتح لنا إمكانيات جديدة. لكن إذا غيرت المحادثة إلى ما يجب عليك فعله لإصلاح نفسك، فستثبط عزيمتك. بمعنى آخر، أنت بحاجة إلى التفكير السلبي من أجل مواصلة التفكير، وإلى التفكير الإيجابي لتطبيق تلك الأفكار بالفعل”.

إذ تستند هذه المجموعات (التي يمكن لأي شخص تكوينها) إلى مبدأ أن معرفة الذات تبدأ بالتعبير عن الذات. وهي بحسب جورج مجموعات منفتحة وآمنة وتربطها العلاقات الوثيقة و”تتيح للأعضاء مناقشة القضايا الشخصية التي يخشون طرحها في مكان آخر، حتى مع أفراد أسرهم”. ما فائدة هذه المجموعات؟ يقول جورج: “لن نعرف هويّتنا حتى نسمع أنفسنا نتحدث عن قصة حياتنا أمام الأشخاص الذين نثق بهم”. وهي طريقة منظمة لمطابقة نظرتنا عن ذواتنا الحقيقية مع نظرة زملائنا الذين نثق بهم عنا، أي طريقة خارجية للتحقق من مصداقيتنا.

ضبط النفس

“التحكم المعرفي” هو مصطلح علمي يعني جذب انتباه المرء إلى نقطة معينة وتركيزه عليها لمواجهة إغراء تشتت الانتباه، وهذا التركيز هو أحد الجوانب المتعلقة بالوظائف التنفيذية للدماغ، والذي تتحكم قشرة الجبهة الأمامية به، والمصطلح العامي له هو “قوة الإرادة”.

يمكّن التحكّم المعرفي المسؤولين التنفيذيين من التركيز على هدف معين على الرغم من المشتتات والنكسات، والدور الآخر لهذه المسارات العصبية التي تتيح لنا التركيز على هدف واحد هو إدارة المشاعر الجامحة. ولعلّ الأشخاص الذين يتمتّعون بتحكّم معرفي جيد هم أولئك الذين يبقون هادئين في الأزمات، والقادرين على التخفيف من حدّة انفعالاتهم، والتعافي من الفشل أو الخسائر.

وتُظهر البحوث التي استمرت لعقود من الزمن الأهمية الفريدة لقوة الإرادة في نجاح القيادة؛ ولعلّ أهمها هي الدراسة الطولية التي تعقّبت مصير جميع الأطفال الذين ولدوا خلال عام واحد في السبعينيات من القرن العشرين في مدينة دنيدن النيوزيلندية والبالغ عددهم 1,037 طفلاً. قُدّمت للأطفال خلال مرحلة الطفولة مجموعة من اختبارات قوة الإرادة، بما فيها “تجربة مارشميلو” الأسطورية للطبيب النفسي والتر ميشيل التي تتطلّب منهم الاختيار بين تناول قطعة من المارشميلو على الفور أو الحصول على اثنتين أخريين مقابل الانتظار لمدة 15 دقيقة؛ أكل ما يقرب من ثلث الأطفال قطعة المارشميلو على الفور، وصمد ثلث آخر لفترة أطول، في حين نجح الثلث الأخير في اجتياز ربع الساعة بالكامل.

تتجلى قدرة المسؤولين التنفيذيين على التركيز بالفطرة أياً كان مركزهم الاجتماعي أو الوظيفي.

وبعد أن أصبح الأطفال في الثلاثينيات من أعمارهم، أجرى الباحثون دراسة أخرى عليهم جميعاً باستثناء نسبة 4% منهم، ووجدوا أن أولئك الذين كان لديهم تحكم معرفي جيد لمقاومة أكل قطعة المارشميلو لفترة أطول كانوا أكثر صحة، وأكثر نجاحاً من الناحية المالية، وأكثر التزاماً بالقوانين من أولئك الذين لم يتمكنوا من الصمود على الإطلاق. وفي الواقع، أظهر التحليل الإحصائي أن مستوى ضبط النفس لدى الطفل هو مؤشر أقوى للنجاح المالي مقارنة بمعدل الذكاء أو الطبقة الاجتماعية أو ظروف الأسرة.

ويقول ميشيل إن الأسلوب الذي نتّبعه في التركيز هو السر وراء قوة الإرادة. وهناك ثلاثة أنواع مهمة من التحكم المعرفي عندما نسعى إلى ضبط الذات والتخلص من حالة إرضاء الذات: القدرة على فصل التركيز طواعية عن الموضوع المنشود؛ القدرة على مقاومة التشتت حتى لا ننجذب إلى المشتتات مرة أخرى؛ والقدرة على التركيز على الهدف المستقبلي وتخيّل مدى الشعور بالرضا عند تحقيقه. قد يكون أطفال دنيدن، البالغين الآن، رهيني ذواتهم الأصلية، لكنهم قادرون على التغيير، لأن القدرة على التركيز هي مهارة يمكن تطويرها. (راجع الفقرة الجانبية “تعلم ضبط النفس”).

التركيز على الآخرين

أصل كلمة (الانتباه) باللغة الإنجليزية (attention) من الكلمة اللاتينية (attendere)، وتعني: “يمد يديه إلى الغير”، وهو ما يُعد تعريفاً مثالياً للتركيز على الآخرين، الذي يمثل أساس التعاطف وبناء العلاقات الاجتماعية – وهما الركنان الثاني والثالث للذكاء العاطفي.

ومن السهل تمييز المسؤولين التنفيذيين الذين يمتلكون القدرة على التركيز على الآخرين؛ فهم مَنْ يجدون الأرضية المشتركة مع غيرهم، وهم مَنْ تلقى آراؤهم آذاناً مصغية، وهم من يحب الآخرون العمل معهم؛ كما أن قدراتهم كقادة تتجلى بالفطرة أياً كان مركزهم الاجتماعي أو الوظيفي.

تعلم ضبط النفس

أسرع، الآن. إليك هذا الاختبار للتحكم المعرفي. إلى أي اتجاه يشير السهم الأوسط في كل صف؟

يقيس الاختبار المسمى إريكسن فلانكر (Eriksen Flanker) مدى تعرضك للإلهاء. فعند تطبيقه في ظل ظروف معملية، يمكن اكتشاف اختلافات بمقدار جزء من الألف من الثانية في السرعة التي يدرك بها الأشخاص الاتجاه الذي تشير إليه الأسهم الوسطى. وكلما زادت قوة تحكمهم المعرفي، قلّ تعرضهم للإلهاء.

قد تكون الإجراءات التدخلية لتقوية التحكم المعرفي غير معقدة، مثل لعبة “القائد يقول” (Simon Says) أو لعبة الضوء الأحمر (Red Light)، وهو تمرين يُطلب منك فيه التوقف عند تلقي إشارة. وتشير البحوث إلى أنه كلما كان الطفل أفضل في لعبة الكراسي الموسيقية، زادت قوة مساراته العصبية الأمامية المرتبطة بالتحكم المعرفي.

ويعمل نهج التعلم الاجتماعي والعاطفي وفقاً لمبدأ بسيط مماثل، ويُستخدم لتقوية التحكم المعرفي لدى أطفال المدارس في جميع أنحاء الولايات المتحدة. فعند مواجهة الأطفال مشكلة مزعجة، يُطلب منهم تخيّل إشارة مرور؛ فالضوء الأحمر يعني التوقف والهدوء والتفكير قبل التصرف؛ والضوء الأصفر يعني الإبطاء والتفكير في العديد من الحلول الممكنة؛ أما الضوء الأخضر فيعني تجربة الخطة وتقييم نتائجها. ويُتيح التفكير بهذه المصطلحات للأطفال تجنّب الاستجابات التي تحث عليها لوزة المخيخ وتدفعهم إلى ممارسة السلوك المتعمّد الذي تحفزه الجبهة الأمامية.

ولم يفت الأوان بعد على تقوية هذه المسارات العصبية، إذ تؤدي الجلسات اليومية لممارسة اليقظة الذهنية دوراً مشابهاً للعبة الكراسي الموسيقية ونهج التعلم الاجتماعي العاطفي، حيث تركز انتباهك في هذه الجلسات على تنفسك وتتدرب على تتبع أفكارك ومشاعرك دون أن تصرف تفكيرك عنها. وكلما لاحظت أن عقلك يسرح في خياله، تُعيد تركيزه بهدوء إلى أنفاسك. قد يبدو الأمر سهلاً، لكن جربه لمدة 10 دقائق، وستجد أن هناك منحنى تعليمياً بالفعل.

ثلاثية المشاركة الوجدانية

نتحدث عن المشاركة الوجدانية كصفة واحدة بشكل عام، لكن عند إلقاء نظرة فاحصة على مناط تركيز المسؤولين التنفيذيين عندما يُبدون المشاركة الوجدانية، تظهر ثلاثة أنواع مختلفة منها، وكل واحدة منها تمثّل أهمية محورية للقيادة الفعالة:

  • التعاطف المعرفي: ويقصد به القدرة على فهم تصورات الغير.
  • التعاطف الوجداني: ويقصد به القدرة على الشعور بما يشعر به الغير.
  • الإيثار التعاطفي: ويقصد به القدرة على التنبؤ بما يريده الغير منا.

يمكّن التعاطف المعرفي القادة من شرح ما يريدونه بأوضح السبل وأيسرها، وهي مهارة ضرورية للحصول على أفضل أداء من مرؤوسيهم. وبعكس ما قد يظن البعض، فإن ممارسة التعاطف المعرفي تستلزم من القادة التفكير بمشاعرهم أكثر من الإحساس بها.

الطبيعة الفضولية تغذّي التعاطف المعرفي، وهو ما أعرب عنه أحد المسؤولين التنفيذيين الناجحين الذين يمتازون بهذه الخصال قائلاً: “دائماً ما أردت أن أتعلم كل شيء، وأفهم الأشخاص من حولي؛ وسبب تبنّيهم أسلوب تفكير معيّن، وسبب تصرفهم على هذا النحو، وما يناسبهم وما لا يناسبهم”. لكن التعاطف المعرفي هو خطوة متقدمة للوعي الذاتي أيضاً؛ حيث يتم توظيف مسارات الدماغ المتعلقة بالوظائف التنفيذية التي تسمح لنا بالتمعن في أفكارنا الخاصة وبمراقبة المشاعر المتدفقة منها، وفي تطبيق المنطق ذاته على ما يدور في أذهان الغير، ذلك عندما نختار توجيه انتباهنا نحوهم.

أما التعاطف الوجداني فتكمن أهميته في التوجيه والتدريب والتعامل مع العملاء واستيعاب ديناميات التفاعل الجماعي. وهو ينبع من البقاع الغائرة في الدماغ تحت القشرة الدماغية – اللوزة الدماغية، والوطاء (أو ما يعرف بتحت المهاد)، والحُصين، والقشرة أمام الجبهية – وهو ما يتيح لنا سرعة الشعور دون التفكير بعمق؛ فهو يبدل مشاعرنا بحيث تظهر داخلنا مشاعر مشابهة لذلك الشخص، فنقول: “أنا فعلاً أشعر بألمك”. بمعنى آخر، عندما أصغي لك وأنت تخبرني بمشكلتك، ستتوازى النماذج الدماغية التي لديّ مع النماذج التي لديك. وكما تقول مديرة قسم علم الأعصاب الاجتماعي في معهد ماكس بلانك (Max Planck) لعلوم الدماغ والإدراك البشري في لايبزغ، تانيا سينغر: “علينا أن نفهم مشاعرنا الخاصة قبل أن نفهم مشاعر الآخرين”. ويعتمد نقل استيعابنا للتعاطف الوجداني على مزج نوعين من الانتباه؛ التركيز المتعمّد على محاكاة ما لدينا من تجارب مع مشاعر الآخرين، والوعي الكامل لوجوه الآخرين وأصواتهم وأي علامات خارجية للمشاعر. (راجع الفقرة الجانبية: “متى نحتاج إلى تعلّم المشاركة الوجدانية؟”).

متى تحتاج إلى تعلم المشاركة الوجدانية؟

التعاطف الوجداني أمر يمكن اكتسابه بالتعلم، وهو الاستنتاج الذي تم التوصل إليه نتيجة بحث أُجري على بعض الأطباء بإشراف هيلين ريس، مديرة برنامج المشاركة الوجدانية وعلم العلاقات بمستشفى ماساتشوستس العام بولاية بوسطن. ولمساعدة الأطباء على مراقبة أنفسهم، وضعت ريس برنامجاً علّمت فيه الأطباء التنفس العميق وإيجاد حالة خاصة من الانفصال، وكأنهم يراقبون الموقف من الخارج، بعيدين عن الضياع في أفكارهم ومشاعرهم. تقول ريس: “عندما تعزل نفسك عن المشاركة وكأنك مراقب خارجي لما يحدث حولك، فذلك يمنحك درجة عالية من الوعي بما يحدث، لكن دون الشعور بأنك متفاعل معه تماماً”، وتضيف: “يمكنك مراقبة ردود فعل جسمك إن كانت مضطربة أم متوازنة، ويمكن ملاحظة ما يظهر في هذا الموقف”. إذا أدرك الطبيب أنه مضطرب مثلاً، فقد يكون ذلك إشارة إلى أن المريض مستاء أيضاً.

وقد لوحظ أن الأطباء الذين كانوا يفتقدون للتعاطف الوجداني استطاعوا إلى حد ما إظهار هذا الشعور من خلال اصطناعه لكي يصبح ملموساً فيهم، بحسب تعبير ريس. فإذا تصرفنا تصرف المهتم، بالنظر في عيني الشخص، منتبهين إلى العبارات، حتى إن كنا نشعر بأننا لا نريد إعطاء ذلك الاهتمام، فإننا هنا نبدأ بشعور المشاركة أكثر مع الآخر.

وفيما يخص الإيثار التعاطفي، الذي يشبه إلى حدّ ما التعاطف الوجداني، فهو الذي يمكّننا من الشعور بما يريده الآخرون منّا وما يشعرون به حينها. إنه ما تريده في طبيبك أو زوجك أو مديرك. وللإيثار التعاطفي جذوره في مسارات الدماغ التي تجبر الآباء على الانتباه إلى أطفالهم. راقب أين تتوجه أعين الناس عندما يُحضر أحدهم إلى الغرفة طفلاً محبباً! إنك ترى بوضوح أثر نشاط مركز الدماغ المسؤول عن الأمومة.

ولقد أكدت إحدى نظريات علم الأعصاب أن الاستجابة تستثار في اللوزة الدماغية عند شعور الدماغ بالخطر، وتستثار في قشرة الجبهة الأمامية عند إطلاق الناقل الكيميائي العصبي (أوكسيتوسين)، وهو الناقل المرتبط بالاهتمام. وهذا يعني أن الإيثار التعاطفي هو شعور ذو حدين؛ فنحن بالحدس نشعر بمعاناة الآخرين كما لو أنها آلامنا الشخصية، لكن عند اتخاذ قرار تلبية حاجة الغير أم لا، فإننا نتوقف ونقدر كم تهمنا مصلحته.

تتجلى قدرة المسؤولين التنفيذيين على التركيز بالفطرة أياً كان مركزهم الاجتماعي أو الوظيفي.

وهناك آثار هائلة تترتب على الموازنة بين الحدس والتروّي؛ فمَن يمتلكون كماً مفرطاً من المشاعر التعاطفية قد يجدون أنفسهم عرضة للمعاناة الشديدة؛ فأصحاب المهن القائمة على مساعدة الغير قد يقعون فريسة الإجهاد التعاطفي، وعند المسؤولين التنفيذيين قد تؤدي المشاعر المفرطة إلى الإحساس بالقلق حيال ظروف الآخرين ومشاكلهم وحلولها، وهي أمور خارج قدرة أي شخص. أما الذين ينأون بأنفسهم بإماتة المشاعر، فقد يفقدون لمسة المشاركة الوجدانية. لهذا يتطلب الإيثار التعاطفي منا التعامل مع آلامنا الشخصية، دون تخدير أحاسيسنا تجاه آلام الآخرين. (راجع الفقرة الجانبية: “متى نحتاج إلى السيطرة على المشاركة الوجدانية؟”).

متى نحتاج إلى السيطرة على المشاركة الوجدانية؟

من شأن التحكم برغبتنا في التعاطف تجاه مشاعر الغير أن يساعدنا على اتخاذ قرارات سليمة، خاصة حينما نتعامل مع شخص يمطرنا بسيلٍ من العواطف الجياشة.

عندما نرى أحدهم وقد وخزه دبوس، يرسل دماغنا بشكل طبيعي إشارة توحي بأن مراكز الألم عندنا تحاكي الألم نفسه الذي أحس به ذلك الشخص. ولكنّ الأطباء يتعلمون في الكليات كيف يكبحون جماح هذه الاستجابات الآلية. ويبدو أنه يتم توظيف هذا التخدير الانتباهي بالرابط الصدغي الجداري وأقسام الفص الجبهي لقشرة الدماغ؛ وهو مسار دماغي يرفع من التركيز عن طريق إهمال العواطف. وهذا ما يحدث في أدمغتنا عندما نعزل أنفسنا قليلاً عن الآخرين لنبقى هادئين لنعرف كيف نساعدهم. وهي الشبكة العصبية ذاتها التي تبدأ بالعمل عندما نواجه جواً مشحوناً بالعواطف، ونريد التركيز لإيجاد حل. وإذا كنا نتحدث مع شخص يشعر ببعض الانزعاج، فقد يساعدنا هذا النظام على فهم وجهة نظر هذا الشخص من الناحية العقلية، بالتحول من مشاركة التعاطف الوجداني (من القلب إلى القلب) إلى التعاطف المعرفي (من العقل إلى القلب).

إضافة إلى ذلك، تشير بعض البحوث المخبرية إلى أن التطبيق السليم للإيثار التعاطفي أمر أساسي عند إصدار الأحكام الأخلاقية. وبيّن تخطيط الدماغ أنه عندما يستمع المتطوعون لقصص أناس مرّوا بحالة ألم جسدي، فإن مراكز أدمغتهم التي مرت بذلك الألم أضاءت فوراً. أمّا عندما كانت القصة تتعلق بمعاناة نفسية، فإن مراكز الدماغ العليا المرتبطة بالإيثار التعاطفي والرأفة تأخذ مدة أطول لتنشط؛ لأن استيعاب الأبعاد النفسية والأخلاقية للحالة يستلزم بعض الوقت، فكلما كنّا مشتتين، ضعفت قدرتنا على إدراك مظاهر المشاركة الوجدانية والتعاطف الأقل وضوحاً.

بناء العلاقات

من السهل على بعض الأشخاص تحديد هوية أولئك الذين يفتقرون إلى الحساسية الاجتماعية؛ في حين من الصعب على أولئك الذين يفتقرون إليها بالفعل معرفة تلك السمة فيهم لافتقارهم إلى الوعي. فالرئيس التنفيذي للشؤون المالية الذي يتمتع بالكفاءة الفنية ويتنمر في الوقت نفسه على بعض الموظفين ويتجاهل بعضهم الآخر ويُبدي تحيّزه لا يتعمّد أن يكون شخصاً سيئاً، لأنه غير مدرك لأوجه قصوره، حتى عندما تنتقده أو يُلقي باللوم عليك أو يغضب منك أو يعتقد أنك سبب المشكلة.

ويبدو أن الحساسية الاجتماعية مرتبطة بالتعاطف المعرفي، إذ يقدّم المسؤولون التنفيذيون الذين يُبدون تعاطفاً معرفياً أداءً أفضل في المهام الخارجية مثلاً، ربما لأنهم يفهمون المعايير الضمنية ويتعلّمون النماذج العقلية الفريدة لأي ثقافة جديدة بسرعة، فالوعي بالسياق الاجتماعي يُتيح لنا التصرف بمهارة، بغض النظر عن الموقف، كما أنه يمكّننا من اتباع قواعد الإتيكيت العامة على نحو فطري، وتبنّي سلوكيات تتيح لنا كسب رضا الآخرين. (قد يُطلق على هذه السلوكيات في عصر آخر الأخلاق الحميدة).

هناك دراسة تقول إنه كلما ارتقى المرء في المناصب، ضعفت قدرته على المحافظة على التواصل الشخصي.

تتولى المسارات العصبية التي تتلاقى في الحُصين الأمامي مهمة تفسير السياق الاجتماعي وتدفعنا على نحو فطري إلى التعامل مع أصدقاء الجامعة بشكل مختلف عن أسلوب تعاملنا مع عائلتنا أو زملائنا مثلاً، وتثنينا بالتنسيق مع قشرة الجبهة الأمامية عن ممارسة أي سلوك غير مناسب. ووفقاً لذلك، يقيّم أحد اختبارات الدماغ الذي يقيس الحساسية تجاه السياق وظيفة الحُصين. ويفترض المتخصص في الأعصاب في جامعة ويسكونسن (University of Wisconsin)، ريتشارد ديفيدسون، أن الأشخاص الأكثر تيقّظاً للمواقف الاجتماعية يظهرون نشاطاً أقوى وترابطاً أعمق بين الحُصين وقشرة الجبهة الأمامية مقارنة بأولئك الذين يفتقرون إلى الوعي لفهم تلك المواقف.

وقد تؤدي المسارات العصبية نفسها دوراً مهماً عندما ندرس طبيعة الشبكات الاجتماعية في مجموعة ما، وهي مهارة تتيح لنا تنمية العلاقات في تلك الشبكات جيداً، فالأشخاص الذين يُبدون تفوقاً في التأثير المؤسسي قادرون على تنمية علاقاتهم الشخصية وعلى تحديد هوية الأشخاص ذوي الآراء المؤثرة والقادرين على إقناع الآخرين ومن ثم التركيز عليهم.

لكن تشير البحوث إلى أنه عند حصول الموظفين على ترقيات إلى مناصب أعلى واكتسابهم القوة، يستنزفون قدرتهم على إدراك الروابط الشخصية وتنميتها. فعندما أجرى عالم النفس في جامعة بيركلي، داتشر كيلتنر، دراسة على اللقاءات التي جرت بين أشخاص من مناصب مختلفة، وجد أن الأفراد ذوي الرتب العالية يتجاهلون الأشخاص ذوي الرتب الدنيا ويميلون إلى مقاطعة حديث الآخرين أو احتكار الحديث بشكل عام.

وفي الواقع، يمثّل تركيز الانتباه على توزع السلطة في مؤسسة ما دليلاً واضحاً على طبيعة التراتبية (التسلسل الهرمي) فيها: فكلما استغرق الشخص “أ” وقتاً أطول للرد على الشخص “ب”، زادت السلطة النسبية التي يتمتع بها الشخص “أ”. تقصّى أوقات الاستجابة عبر المؤسسة بأكملها، وستحصل على مخطط دقيق على نحو ملحوظ للمكانة الاجتماعية، فقد يترك المدير رسائل البريد الإلكتروني دون إجابة لساعات؛ في حين يُجيب مَن هم في المناصب الدنيا على الرسائل في غضون دقائق. وقد طُوّرت خوارزمية تدعى الكشف الآلي عن التسلسل الهرمي الاجتماعي في جامعة كولومبيا بالفعل للتنبؤ بالمكانة الاجتماعية. وبحسب ما ورد، تُطبّق وكالات المخابرات الخوارزمية نفسها على العصابات الإرهابية المشتبه بها للكشف عن سلاسل النفوذ وتحديد الشخصيات المهمة.

لكن النقطة الأهم هي أن موقعنا على السلم الاجتماعي يحدد مقدار الاهتمام الذي نوليه، ولا بدّ أن يمثّل ذلك تحذيراً لكبار المسؤولين التنفيذيين الذين يدركون أهمية الاستجابة للمواقف التنافسية السريعة التطور من خلال الاستفادة من مجموعة كاملة من الأفكار والمواهب داخل مؤسساتهم، وعليهم بالتالي تعمّد توجيه انتباههم لكيلا يتجاهلوا الأفكار الذكية من الرتب الدنيا.

التركيز على العالم الأوسع

يمتاز القادة الذين يتسمون بالقدرة على التركيز الخارجي بأنهم مستمعون جيدون ومستائلون جيدون أيضاً، فهم أصحاب رؤى قادرون على استشعار العواقب البعيدة المدى للقرارات المحلية وعلى توقّع أهمية القرارات التي يتخذونها اليوم في المستقبل. وهم منفتحون على الطرق المبتكرة التي تتيح لهم استخدام البيانات غير ذات الصلة في تطوير اهتماماتهم الرئيسية. وقدمت ميليندا غيتس مثالاً مقنعاً على ذلك عندما لاحظت في برنامج “60 مينتس” (60 Minutes) أن زوجها كان مهتماً في قراءة كتاب كامل عن الأسمدة. وعندما سأله تشارلي روز عن سبب اختياره الأسمدة؟ تبيّن أن أفكاره تماثل أفكار بيل غيتس الذي يسعى إلى ابتكار أدوات تكنولوجية تنقذ الأرواح على نطاق واسع، إذ أجاب: “لو لم نبتكر الأسمدة، لمات الملايين من البشر”.

التركيز على الاستراتيجية

ستقدّم لك أي دورة تدريبية حول الاستراتيجية في كليات إدارة الأعمال نصيحتين رئيسيين: استغلال ميزتك الحالية واستكشاف مزايا جديدة. وكشفت نتائج تخطيط الدماغ التي أُجريت على 63 شخصاً من صنّاع القرار المتمرسين في مجال الأعمال في أثناء تبديلهم بين الاستراتيجيات الاستغلالية والاستكشافية عن المسارات العصبية المحددة بالفعل. وليس من المستغرب أن تتطلب الاستراتيجية الاستغلالية التركيز على الوظيفة المطلوبة، بينما تتطلب الاستراتيجية الاستكشافية وعياً كاملاً للتعرف على الاحتمالات الجديدة. لكن الاستغلال يصحبه نشاط في مسارات الدماغ العصبية يفعّل قدرتنا على التوقع وانتظار المكافأة، بمعنى آخر، قد نشعر بالرضا عند اتباع روتين مألوف. في حين أننا نضطر عندما ننتقل إلى الاستكشاف إلى بذل جهد معرفي متعّمد للتخلي عن هذا الروتين بهدف التفكير على نطاق واسع والسعي وراء مسارات جديدة.

ما الذي يمنعنا من بذل هذا الجهد؟ الحرمان من النوم والتوتر والحمل النفسي الزائد جميعها عوامل تتداخل مع المسارات العصبية المرتبطة بالوظائف التنفيذية والمستخدمة لإجراء التبديل المعرفي. وللحفاظ على التركيز الخارجي الذي يقود إلى الابتكار، علينا قضاء بعض الوقت غير المنقطع في التركيز العميق.

منابع الابتكار

بما أننا نعيش في عصر يتمتع كل شخص فيه تقريباً بإمكانية الوصول إلى المعلومات نفسها، أدركنا أهمية تجميع الأفكار بطرق جديدة وطرح أسئلة ذكية تفتح إمكانات غير مستغلة. فقبل لحظات من التوصّل إلى أي رؤية إبداعية، يُظهر الدماغ ارتفاعاً بمقدار ثلث من الثانية في موجات غاما، ما يشير إلى حدوث تزامن مع خلايا الدماغ البعيدة، وكلما زاد عدد العصبونات المتزامنة، زاد الارتفاع في الموجات، وهو ما يشير إلى أن الدماغ يكوّن شبكة عصبية جديدة، بمعنى أنه يخلق ارتباطاً جديداً.

لكن من المفيد للغاية اعتبار موجات غاما السر وراء الإبداع، ويشير النموذج التقليدي للإبداع بالفعل إلى الأدوار المهمة لأنماط التركيز المختلفة، فنحن نجهز عقولنا أولاً من خلال جمع مجموعة متنوعة من المعلومات ذات الصلة، ومن ثم نناوب بين التركيز على المشكلة باهتمام شديد والسماح لأذهاننا بالشرود بحرية، بمعنى أننا نمارس اليقظة، فعندما نركز على جميع أنواع المعلومات، نبقى متيقظين لأي شيء ذي صلة بالمشكلة المطروحة؛ ثم نستخدم الانتباه الانتقائي للتركيز على التحدي الإبداعي المحدد؛ ونتبنّى أخيراً الوعي الكامل من خلال السماح لعقولنا بربط المعلومات بحرية ليظهر الحل تلقائياً. (وهذا هو السبب الذي يفسّر قدرة العديد من الأشخاص على التوصل إلى أفكار إبداعية في أثناء الاستحمام أو عند المشي أو الجري).

الفائدة غير المؤكدة للوعي بالأنظمة

إذا طُلب من أشخاص إلقاء نظرة سريعة على صورة تضم الكثير من النقاط وتخمين عددها، سيميل مفكرو الأنظمة المتمرسون في المجموعة إلى وضع أفضل التقديرات. وتظهر هذه المهارة لدى أولئك الذين يجيدون تصميم البرمجيات أو خطوط التجميع أو التنظيم المصفوفي أو الإجراءات التدخلية لتغيير بيئات العمل الفاشلة، وهي فائدة مهمة بالفعل، فنحن نعيش ضمن أنظمة معقدة للغاية في النهاية. لكن بحسب عالم النفس بجامعة كامبريدج، سايمون بارون كوهين (ابن عم الممثل الكوميدي ساشا)، يقترن الوعي القوي بالأنظمة بنقص في المشاركة الوجدانية لدى نسبة قليلة لكنها ملحوظة من البشر، ونقصها يعني التعامي عن أفكار الآخرين ومشاعرهم وعن فهم المواقف الاجتماعية. وبالتالي، على الرغم من أن الأشخاص الذين يمتلكون فهماً أفضل للأنظمة يمثّلون أحد أهم الأصول المؤسسية، ليسوا بالضرورة قادة فعالين.

وقد أوضح لي مسؤول تنفيذي في أحد البنوك بالفعل أنهم طوّروا سُلماً وظيفياً منفصلاً لمحللي الأنظمة يتيح لهم الحصول على ترقيات إلى مناصب أعلى وكسب رواتب عالية على أساس خبرتهم بالأنظمة فقط، وهو ما يتيح للبنك التماس مشورتهم عند توظيف قادة من شبكة أخرى من المرشحين تضم أشخاصاً يتمتعون بذكاء عاطفي.

كتب المتخصص في الاقتصاد، هربرت سيمون، في عام 1971 أن “ثروة المعلومات تولّد ضعفاً في الانتباه”.

خلاصة القول

الرسالة واضحة إذاً للذين لا يرغبون في أن يكونوا أشخاصاً يتمتعون بذكاء عملي دون ذكاء عاطفي، وهي أن القادة الذين يتّسمون بالقدرة على التركيز هم ليسوا أولئك الذين يركزون على أهم ثلاث أولويات في العام، وليسوا أكثر مفكري الأنظمة ذكاءً، أو الأكثر تواؤماً مع ثقافات شركاتهم، بل هم أولئك القادرون على حشد كامل انتباههم؛ فهم على وعي دائم بمشاعرهم الداخلية، وينجحون في التحكم في دوافعهم، وواعون بنظرة الآخرين عنهم واحتياجاتهم منهم، وقادرون على التخلص من المشتتات والسرَح في خيالهم في الوقت نفسه، ولا يعتنقون أي تصورات مسبقة.

وهنا مكمن التحدي، فإذا كانت القيادة العظيمة تعني اتباع صيغة وقالب معينين، فكل القادة العظماء، وما يدعو للتفاؤل هو أننا قادرون على تعزيز كل شكل من أشكال التركيز، إذ لا يتطلّب الأمر موهبة بقدر ما يتطلب اجتهاداً، أي الرغبة في تنشيط مسارات الانتباه العصبية في الدماغ مثلما نستخدم مهاراتنا التحليلية وأنظمة الجسم الأخرى.

لكن يبقى الرابط بين الانتباه والتميّز خفياً معظم الوقت. ومع ذلك، يمثّل الانتباه العنصر الأساسي لتعلّم أهم مهارات القيادة، بما فيها الذكاء العاطفي والمؤسسي والاستراتيجي، إلا أنه لم يعد يحظى بكثير من الاهتمام. فوابل البيانات الواردة دفعنا إلى تبني أساليب عمل مختصرة وغير مهنية، كفرز بريدنا الإلكتروني عن طريق قراءة سطور الموضوع فقط، وتخطي العديد من رسائل البريد الصوتية، وتجاهل إعداد المذكرات والتقارير، وهي عادات تجعلنا أقل فعالية، كما أن الحجم الهائل لكل هذه الرسائل دفعنا إلى تجنّب التركيز على فحواها. ولاحظ المتخصص في الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، هربرت سيمون، ذلك منذ أكثر من 40 عاماً بالفعل، فقد كتب في عام 1971 أن المعلومات “تستحوذ على كامل انتباه متلقيها. لكن ثروة المعلومات تولّد ضعفاً في الانتباه”.

وهدفي في هذا المقال هو تعزيز قدرتنا على التركيز لكي نوظّفه عند الحاجة؛ لذلك، تعلم كيفية التحكّم بانتباهك، لتتحكم بوجهة تركيزك وتركيز مؤسستك.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .