تنافس الاقتصادات الرقمية الضخمة بين الصين والهند

7 دقائق

اجتاز الاقتصاد الرقمي العالمي معلماً مهماً مؤخراً؛ ذلك أن عدد مستخدمي الإنترنت في دولتين - الصين بما يزيد بقليل عن 800 مليون مستخدم، والهند بـ 500 مليون مستخدم - تخطى إجمالي عدد مستخدمي الإنترنت في 37 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مجتمعة. في كلتا الدولتين يقضي المستخدمون وقتاً على الإنترنت أكثر من متوسط الوقت العالمي الذي يبلغ 5.9 ساعات يومياً. كما أن هناك مجالاً للنمو في كلتا الدولتين؛ إذ لا يتجاوز عدد مستخدمي الإنترنت في الصين نسبة 60% من تعداد سكانها، في حين لا يتجاوز عدد مستخدمي الإنترنت في الهند - التي تملك واحداً من أدنى معدلات انتشار الإنترنت في العالم - نسبة 25% من تعداد سكانها.

وفي حين أنه من اللافت للانتباه اجتماع الصين والهند معاً ككتلة واحدة من الأسواق الرقمية الناشئة، ذلك أنهما تتمتعان بالعديد من الاختلافات المهمة، لا سيما بالنسبة للكيانات الدولية والدول التي تتطلع إلى الاستثمار. وفي مؤشر التطور الرقمي الخاص بنا، نضع هاتين الدولتين في تصنيف "الجنوب الرقمي"، وهو ما يعني أن النشر والاستخدام الكاملين للأنظمة عبر الإنترنت ما زال قيد التطوير. تصنف أبحاثنا المتعلقة بمؤشر التطور الرقمي كلاً من الصين والهند بأنهما دول "متقدمة"، وهو ما يعني أنهما يشهدان نمواً رقمياً قوياً. يوجد في الصين 783 مليون مستخدم للهواتف الذكية، وكان لديها - كما ذكرت إدارة الفضاء السيبراني في الصين – 469 مليون مستخدم مسجل على إحدى منصات الدفع عبر الإنترنت في يناير/كانون الثاني 2017، وهي أيضاً أكبر سوق للتجارة الإلكترونية في العالم. أما الهند فتسير في الطريق الصحيح لتصبح أكثر الدول شباباً في العالم بحلول عام 2020، ومن المتوقع أن تقفز قيمة اقتصادها الرقمي من 413 مليار دولار أميركي في الوقت الحالي إلى 1 تريليون دولار بحلول عام 2025.

تشكل طبيعة كل من الصين والهند عوائق أمام دخول المستثمرين الأجانب إليهما. ويعد الفارق الأكثر وضوحاً بين السوقين هو أن الصين مغلقة تماماً في الغالب أمام المستثمرين الدوليين بسبب القيود التي تفرضها الدولة، في حين تعد الهند منفتحة – نظرياً - على الاستثمار. تستثمر الشركات الأميركية الكبرى بكثافة في الهند - وكذلك الشركات الصينية، مثل علي بابا وتينسنت. ومع ذلك، تشكل الهند عوائق أقل وضوحاً. لننظر إلى هذين المثالين:

اللغات: تشكل اللغة عائقاً كبيراً أمام دخول أي شركة أو نموها؛ إذ إن أقل من 100 مليون من سكان الهند المتعلمين - البالغ عددهم 700 مليون نسمة - يمكنهم القراءة أو الكتابة بالإنجليزية. هناك 32 لغة مختلفة مع أكثر من مليون متحدث بكل منها في جميع أنحاء الهند، في حين إنه في الصين أغلبية السكان يفهمون اللهجة الصينية الشمالية. وفي الهند، لا تمتلك 90% من المنشورات المسجلة بالبلاد مواقع إلكترونية بسبب عوائق اللغة، وتكون نسبة 90% من استهلاك مقاطع الفيديو باللغات المحلية. ومن المهم أن يكون هناك إلمام بخمس لغات هندية على الأقل للنجاح حقاً في هذه السوق.

السياسات الحمائية: في حين أن سياسات الصين الحمائية تتسم بالشفافية، يتخذ جدول سياسات الهند الحمائية شكل اللوائح والبيروقراطية. على سبيل المثال: نجد أن كلاً من سياسة الحكومة الهندية المقترحة مؤخراً بشأن التجارة الإلكترونية وأمراً مماثلاً صادراً عن البنك المركزي للبلاد يسعيان إلى حظر تخزين بيانات مستهلكي التجارة الإلكترونية الهنود خارج الهند. يرى العديد من المستثمرين الدوليين هذا أنه تفضيل للشركات الرقمية المحلية وأن الهند تستعين بقواعد اللعبة من الصين، التي تفرض وصايتها على التخزين المحلي لبيانات المستخدمين الصينيين، تلك البيانات التي تتسم بـ "الحساسية".

وقد حرص المستثمرون الدوليون القليلون الذين ينشطون في الصين على زيادة عوائق دخول السوق من خلال استراتيجيات تكيفية (وأحياناً استراتيجيات محفوفة بالمخاطر أو معقدة أو مثيرة للجدل)، في حين يواصل آخرون مُنِعوا من الدخول - مثل جوجل وفيسبوك - تجربة أساليب للامتثال للقيود التي تفرضها الدولة وإثارة خلافات جديدة. في الوقت نفسه، ستحتاج الشركات إلى تكييف مناهجها للسيطرة على الهند بالكامل، ولكن بأساليب مختلفة. بناءً على المثال الوارد أعلاه، واستجابة لعائق اللغة، تستثمر جوجل في تطبيقها للترجمة ومنصتها المدعومة بالذكاء الاصطناعي للنشر بالعديد من اللغات المحلية، في حين تخطط أمازون لتشغيل عملياتها بالعديد من اللغات المحلية في الهند. حتى بالنسبة لهذه الشركات العملاقة، ما زال هناك طريق طويل يجب قطعه.

توجد في كل من الصين والهند حكومات تشارك بشكل كبير في تنظيم الاقتصاد الرقمي وبيانات المواطنين. فمن المعروف أن الحكومة الصينية لديها أهداف طموحة للمستقبل الرقمي للبلاد. ووفقاً لتحليل خبير الأمن السيبراني؛ الأميركي آدم سيغال، يهدف الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى بناء نظام دفاع سيبراني منيع، وإعطاء البلاد صوتاً أعلى في إدارة الإنترنت، وتشجيع المزيد من الشركات العالمية، وقيادة العالم في التقنيات المتقدمة. كما أن إحدى وثائق مجلس الدولة الصادرة في يوليو/تموز 2017، تهدف إلى وضع الصين على زعامة تقنيات الذكاء الاصطناعي في العالم بحلول عام 2025، وذلك ضمن طموحات أخرى.

وفي سياق جدول الأعمال هذا، تجمع الحكومة الصينية قاعدة بيانات شاملة لمواطنيها بمساعدة من شركات التكنولوجيا الصينية التي تتزامن بصورة روتينية مع الحكومة. ستُستخدم هذه البيانات في إنشاء نظام ائتمان اجتماعي من المتوقع أن يصبح إلزامياً بحلول عام 2020. يمكن لكل "درجة ائتمان اجتماعي" لكل مواطن صيني -استناداً إلى مصادر البيانات العامة والخاصة - أن تحدد الخدمات التي يحصل عليها المواطن، بدءاً من استئجار الشقق دون إيداع، مروراً بحجز تذاكر الطيران، وانتهاءً بالخدمات الحكومية. ونجد أنه، بفضل شركات مثل "علي بابا" - على سبيل المثال: نظام الرصيد الاجتماعي (رصيد سيسم) الذي تديره شركة "آنت فاينانشال" (Ant Financial) التابعة لمجموعة علي بابا الصينية – وشركة تينسنت؛ من خلال منصتها الشهيرة للمراسلة "وي شات"، أصبح القطاع الخاص بمثابة مستودعات هائلة لبيانات المستخدمين، والتي يمكن من خلالها تصميم واستهداف خدمات جديدة، وتمييز السمات الرئيسية للمستخدم، مثل الجدارة الائتمانية، وتدريب الخوارزميات. يمكنها أيضاً مساعدة الحكومة بالبيانات والخوارزميات الضرورية. هذا التعاون بين القطاعين العام والخاص لا يساعد في خدمة أهداف الدولة  لمراقبة المواطنين وحفظ النظام الاجتماعي فحسب، بل ينتج أيضاً بيانات المستخدم التي تحسّن قدرات الصين في الذكاء الاصطناعي.

في الوقت نفسه، تملك الحكومة الهندية أيضاً أهدافاً طموحة للاقتصاد الرقمي في الدولة. فبالمقارنة مع نظيرتها الصينية، تركز سلطات الهند على الأساسيات؛ بما فيها كيفية توفير الأدوات الرقمية بتكلفة منخفضة، وإنشاء بنية تحتية منفتحة وقابلة للتشغيل المتبادل. شرعت الدولة على نطاق واسع في مبادرة الهند الرقمية، التي تشمل كل شيء بدءاً من توفير خدمات النطاق العريض، مروراً بالحوكمة الإلكترونية، وانتهاءً بمحو الأمية الرقمية. هناك خطط أيضاً لإنشاء 100 مدينة ذكية في جميع أنحاء الهند بالتعاون مع الوكالات العامة والشركات الخاصة.

تمتلك الهند أيضاً - مثلها مثل الصين - قاعدة بيانات لمواطنيها. وكانت التطلعات إلى قاعدة بيانات مثل هذه بغرض إنشاء شكل مقبول عالمياً من أشكال الهوية لتعزيز الوصول الشامل إلى مجموعة متنوعة من الخدمات في دولة يُقصى فيها الكثيرون بسبب نقص الوثائق الأساسية. وبصفته صاحب الرؤية لهذه المبادرة، كتب رائد التقنية الهندي ومؤسس شركة إنفوسيس لتقنية المعلومات؛ ناندان نيلكاني، قائلاً: إن الفكرة الأساسية كانت هي "تمكين المستخدمين من الأدوات التقنية والقانونية اللازمة لاستعادة السيطرة على بياناتهم".

قاد نيلكاني المبادرة التي أنتجت نظاماً يُدعى "أدهار"، الذي سجل من خلاله 1.2 مليار مواطن هندي. وأصبح هذا النظام أساساً لـ"إندياستاك"، وهي أكبر واجهة برمجة تطبيقات في العالم تسمح لأي مؤسسة، خاصة أو عامة، ببناء الخدمات وربطها بالهوية الفريدة لكل فرد.

وفي حين أن كل بلد قد اختار مساراً مختلفاً، يجري تشكيل السوقين من جانب الحكومات التي تحدد إطار العمل وتعمل مع القطاع الخاص لنشره. بالطبع، تثير قواعد بيانات المواطنين التي تنظمها الدولة الكثير من المخاوف. ويثير نظام الائتمان الاجتماعي في الصين المخاوف بشأن المراقبة الجماعية "الأورويلية". بالإضافة إلى ذلك، الاستخدام المتزايد لتقنيات التعرف على الوجه في جميع أنحاء الصين يزيد المخاوف بشأن الخصوصية وإساءة استغلال الحكومة لهذه البيانات.

في الهند، أصبح نظام "أدهار" إلزامياً على نحو متزايد بالنسبة للخدمات المقدمة من القطاع الخاص، مثل الاتصالات المتنقلة والخدمات المصرفية وحجز شركات الطيران بالإضافة إلى البرامج الحكومية؛ وهو أثار مخاوف المعنيين بخصوصية المستهلك وجماعات التأييد والموالاة والدفاع عن الحقوق. لم تثبت قاعدة بيانات "أدهار" نفسها أنها آمنة، وكانت هناك مخاوف من الاستغلال التجاري للبيانات ومراقبة الحكومة للمواطنين. وكما هو الحال في الصين، قدمت الهند أيضاً مقترحات لإضافة تقنية التعرف على الوجه إلى قاعدة البيانات. أُعيد النظر في الطابع الإلزامي لنظام "أدهار" بعد الطعن عليه قضائياً، وقضت المحكمة العليا في البلاد بأنه في حين أن نظام الهوية الشخصية جائز دستورياً وضروري باعتباره دليلاً على الهوية بالنسبة للبرامج الحكومية، فإنه لا يمكن أن يكون إلزامياً بالنسبة للخدمات المقدمة من القطاع الخاص؛ وهو ما يزيد الصعوبة على الشركات للتحقق من عملائها.

سيتعين على الشركات التي تتطلع إلى الدخول إلى أي من هاتين السوقين أن تتهيأ للتحرك في مشهد رقمي تشكله الحكومة بنشاط. وسيتعين عليها أيضاً أن تتعامل مع بعض مشكلات الخصوصية الصعبة؛ إذ تعد قواعد اللعبة في الصين أوضح، في حين إنه في الهند يمكن أن تتغير القواعد مع دوران السياسة، فضلاً عن نتائج الطعون القضائية ودعوات الدفاع عن المواطنين.

تُعد كل من الصين والهند من المساهمين الأساسيين في الطبقة المتوسطة المتنامية بالعالم. في الوقت الحالي، تتقدم الصين في المقاييس الاقتصادية الأساسية: ولإضافة أكبر قدر إلى ناتجها المحلي الإجمالي مثلما فعلت الصين في عام 2018، ستحتاج الهند إلى النمو بنسبة 40%. لكن هناك إجراءات أخرى توحي بأن الهند قد تكون لديها فرصة لتضييق الفجوة. إذ يُتوقع أن تتجاوز الطبقة المتوسطة في الهند (التي تحدد بمقدار 11-110 دولارات أميركية حسب شروط تعادل القوة الشرائية لعام 2011) نظيرتها في الصين بحلول عام 2030، وذلك وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومؤسسة بروكينغز الأميركية. في الوقت نفسه، ما زال معدل النمو المرتفع في الهند والذي بلغ 7.7% خلال الربع الأول من عام 2018 يحافظ على موقعه باعتباره أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم. وتزعم بعض الآراء المتحمسة للهند أن ميزتها الديموغرافية ونظامها السياسي الديمقراطي سيكونان مفيدين على المدى الطويل في اللحاق بركب الصين التي تسيطر عليها الدولة.

تحتل الصين المرتبة 36، وتحتل الهند المرتبة 53 من بين 60 دولة في تصنيف مؤشر التطور الرقمي الخاص بنا. وفي ضوء التضييق المحتمل للفجوات الاقتصادية الواسعة، من المنطقي أن نسأل ما إذا كانت الفجوة بين الاقتصادين الرقميين للدولتين قد تضيق. وكم ستستغرق الهند من الوقت للوصول إلى مستوى الصين الحالي من التطور الرقمي؟  وما الدوافع الرئيسية التي قد تساعد في تسريع هذه الرحلة؟ وهل تستطيع الصين تضييق الفجوة بشكل معقول. تُعد هذه الأسئلة مهمة للشركات التي تفضل السعي وراء الفرص في الهند بدلاً من التعامل مع الحواجز المرتفعة في الصين، لكنها قلقة بشأن مدى تأخر الهند مقارنةً بالصين.

وباستخدام النموذج الخاص بنا لمؤشر التطور الرقمي، هناك ثلاثة مسارات للحاق الهند بالصين:

أولاً: إذا حققت الهند انطلاقاً ونشاطاً أكبر من الصين، فإنها ستصل إلى مستوى الصين الحالي من التطور الرقمي بحلول عام 2029.

ثانياً: إذا تمكنت الهند من تحقيق نمو بنسبة 3% سنوياً عبر العديد من العوامل، فستتمكن من تحقيق مستوى النشاط الرقمي الحالي في الصين بحلول عام 2022. هذه العوامل هي: البنية التحتية المادية، والتسهيلات التي تقدمها الحكومة لقطاع تقنية المعلومات والاتصالات، والوصول الرقمي، واستخدام الأموال والمدفوعات الرقمية، والاستثمار المحلي في البحث والتطوير، والشمول الرقمي للجنسين، والبصمة الرقمية للشركات، والفجوة في استخدام الإنترنت على الهواتف النقّالة.

ثالثاً: إذا تمكنت الهند من تحقيق المجموعة التالية من معدلات النمو، فستتمكن من الوصول إلى حالة الصين الحالية من التطور الرقمي بحلول عام 2024.

نمو بنسبة 18% سنوياً في الشمول الرقمي للجنسين.

نمو بنسبة 3% سنوياً في البنية التحتية المادية.

نمو بنسبة 3% سنوياً في الاستثمار المحلي في البحث والتطوير.

نمو بنسبة 1% سنوياً في توافر الوصول الرقمي.

يشير هذا التحليل إلى أن تضييق الفجوة الرقمية أمر في متناول الهند. إذا كان المستثمرون التقنيون الدوليون يفكرون في المكان الذي يمكنهم فيه التدخل في الاقتصاد الرقمي للهند والمساهمة في تحقيق أهداف سياسة البلاد، فسيمكنهم المشاركة في اقتصاد الهند الرقمي في أثناء مساعدتها لتسريع تضييق الفجوة مع الصين، التي هي منافستها الاقتصادية الدائمة. وإذا حدث هذا، فبإمكان اقتصاد الهند أن يلحق بنظيره في الصين. من المهم للشركات والمبتكرين وصناع السياسات أن يدركوا هذه القدرة على التقارب بين القوتين الهائلتين في الجنوب الرقمي بقدر ما يرون الاختلافات بينهما؛ من أجل اتخاذ قرارات استراتيجية حكيمة للاقتراب من أهم سوقين رقميتين في العالم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي