كتب الروائي نورمان ميلر ذات مرة أن الحياة تفرض علينا قانوناً قاسياً ولكنه عادل. يقول ميلر: "إما أن نتغير أو ندفع ثمناً باهظاً لقاء البقاء على ما نحن عليه".
وبصفتي باحثاً في مجال القيادة وأدرّس في إحدى كليات إدارة الأعمال، فإنني أقابل يومياً قادة ينطبق عليهم هذا "القانون" بطريقة ملموسة ومقلقة. هم يعرفون تماماً ماذا سيحصل إذا لم يجروا تغييرات على شركاتهم، لكنهم لا يعرفون ما الذي يتعين عليهم فعله لدعم هذه التغييرات. هل يتعلق الأمر بكيفية إدارة اجتماعات الفرق بطريقة أكثر فعالية؟ أم كيف يحسنون الإصغاء للآخرين؟ أم يجب عليهم تبني أسلوب قيادة مختلف لإحداث تحول في ثقافة الشركة؟ على الرغم من عدم وجود إجابة جاهزة لهذه الأسئلة، إلا أن هناك بعض الأسس التي لا يمكن من دونها أن يُجدي نفعاً أي جهد مهما بلغ في تنمية المهارات. يتمثل أحد مصادر المعرفة حول ما يجب أن تبدو عليه هذه الأسس في أعمال مؤلف ما زالت تعاد طباعتها منذ أكثر من 400 عام: إنه وليام شكسبير.
في الفصل الافتتاحي لكتابه "شكسبير: اختراع الإنسان" (Shakespeare: The Invention of the Human)، يُشير هارولد بلوم، الذي درّس مؤلفات شكسبير في جامعة "ييل" طيلة 30 عاماً، إلى أنه قبل شكسبير كانت الشخصيات في المسرحيات تتكشف تدريجياً إلا أنها لم تكن تتطور بالضرورة. وفي حال تكشفت الشخصية فحسب، سنشعر عن حق بأننا نعرف بالفعل كل ما يجب معرفته عنها خلال أول ظهور لها على خشبة المسرح. لقد سلبها مؤلفها الميزة الوحيدة التي تجعلها مثيرة للاهتمام: القدرة على فهم الذات الذي يكشف أموراً غير متوقعة ليس لنا فقط، بل لها هي بالمثل. وكانت هذه الشخصيات تعلمنا القليل فقط لأنها عاجزة عن إدهاشنا، لاسيما وأنها عاجزة عن مفاجأة نفسها.
يعادل هذا في العالم الحقيقي المدير الذي يخرج من جلسة التقييم وهو يفكر: "لا جديد - التقييم نفسه الذي سمعته من قبل"، ثم يقول لنفسه: "أنا ما أنا عليه على ما أعتقد"، أو "لدي طريقتي للقيام بالأمور، بعض الأشخاص يعجبهم ذلك، والبعض لا يعجبهم".
لا يجعلنا شكسبير نفلت من المحاسبة بسهولة. إذ يوضح لنا أننا لسنا ببساطة ما نظنه عن أنفسنا، بل نتألف عوضاً عن ذلك من أجزاء متناقضة ومجهولة. وكما يقول بلوم، تتطور شخصيات شكسبير لأن لديها القدرة على سماع أنفسها عندما تتكلم، سواء كلمت نفسها أو الآخرين، وهي بالتالي قادرة على إعادة تعريف نفسها. ومن خلال منح شخصياته مجموعة عوالم داخلية معقدة، يقدم لنا شكسبير قبل 400 سنة من مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد عرضاً ساحراً لما يمكن أن يمثل في نظر العين المعاصرة اكتشافاً للذات. لا يوجد على المسرح هاملت واحد، بل هناك الكثير. بعد علم شكسبير بمقتل والده، يكتشف في مناجاة كثيفة ومذهلة للنفس أنه لا يحتمل بقائه كما هو. وبالتالي، وفي خضم صراعاته الداخلية، فيما يُعدّ ربما أشهر مناجاة للنفس في الأدب، يوازن بين إيجابيات وسلبيات الانتحار (أكون أو لا أكون).
يفتننا، ليس جمال اللغة فحسب، وإنما إدراكنا أنه يسمع هذه الأمور لأول مرة. ومهما بلغ عدد المرات التي نشاهد فيها المسرحية، لا نمل منها، لأنه وبكل ما تمثله لحظات اكتشاف الذات من مخاطر عليه، يبدو هاملت في الوقت نفسه رائعاً في ضعفه وبالتالي إنساناً بكل معنى الكلمة.
لا يُبين لنا شكسبير من خلال شخصية هاملت وغيرها من الشخصيات شرطاً لا غنى عنه فحسب لتنمية الشخصية البشرية (وهو أنه لتغيير أنفسنا علينا أولاً أن نكتشف أنفسنا) ولكن كيف تبدو عليه تلك التنمية، وما هو شكلها، وكيف نشعر بها. ويُظهر لنا أنه في اللحظة التي يقترب فيها هاملت من حافة الانهيار يصبح قادراً على التماسك. وينطبق الأمر بالمثل على شخصية الأمير الشاب هال، في الجزء الثاني من مسرحية هنري الرابع، والذي عندما يصبح ملكاً، يتجنب صحبه السابقين (لا تظنوا أنني ما كنت عليه) ويبدأ تحوله الاستثنائي من أمير مستهتر إلى الملك هنري الخامس، بطل معركة أجينكورت.
بالنسبة لنا، وبعيداً عن الكثافة الدرامية للشخصيات الخيالية، ليس المغزى هنا أننا نستطيع أن نتغير فقط إذا ما راودتنا فكرة قتل أنفسنا أو بالتخلي عن أصدقائنا، إنما يتمثل التغيير بالمضي قدماً، بدلاً من الابتعاد عن المخاوف التي تثيرها تحديات خارجية قوية في عوالمنا الداخلية. كان هاملت قادراً على مواجهة قصوره الذاتي وجبنه، بينما كان هال قادراً على المواجهة، وبالتالي تجاوز، نمط حياته المستهتر وتبنى هوية جديدة تناسب دوره كملك. إلا أن هذا كان ممكناً فقط لكليهما بعد أن أصبحت الشخصيات على استعداد لاكتشاف دواخلها.
يُعلمنا شكسبير، أنه في مواجهة عالم غامض، فإن الوعي بالذات (تلك الميزة القيادية التي يكثر الكلام عنها) يستحق اسمه فقط عندما يساعدنا في الكشف عن دواخلنا. ويمكن أن يُنبئ عن أعماقنا عندما نكون على استعداد للاعتراف بأننا لا نعرف سوى بعض الجوانب عن أنفسنا.
وبالتالي، تتعلق التنمية إلى حد أقل بتغيير أنفسنا من خلال تعلم مهارات جديدة أكثر من اكتشاف أنفسنا عبر التخلي عن شيء ما (بما في ذلك بعض أكثر المفاهيم العزيزة علينا فيما يتعلق بنظرتنا لأنفسنا) من أجل اكتشاف الشخص الذي يمكن أن نتحول إليه.