ملخص: يمثل الابتكار في استخدام الموارد الطبيعية مصدر مهم لخلق قيمة اقتصادية مضافة للدول، وفي إطار العمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة تركز السعودية على إدارة مواردها البحرية بفعالية والاستفادة من المقومات التي تعزز قطاع الثروة السمكية، وذلك من خلال:
- التخطيط: العمل على مبادرات وبرامج لتشجيع استزراع الأسماك باستخدام أنظمة مغلقة وذكية.
- التقنيات الحديثة والابتكار: استحداث أنظمة استزراع حديثة مثل أنظمة التهوية الذكية، مراقبة جودة المياه إلكترونياً.
- بناء القدرات والكفاءات الوطنية: دعم المزارعين وتدريبهم على الممارسات الحديثة وتقديم التسهيلات والخدمات التي تجعل قطاع الأسماك بيئة جاذبة.
- البحث والتطوير: التعاون مع الجامعات والمراكز البحثية لدراسة الموارد البحرية وتقديم حلول علمية لمشاكل تربية الأحياء المائية.
في بيئة صحراوية مثل المملكة العربية السعودية، حيث تشكّل ندرة الموارد المائية الطبيعية وتباعد مصادر الغذاء البحري تحدياً مستمراً، يظهر الاستزراع السمكي كحل ابتكاري يربط بين الأمن الغذائي والاستدامة الاقتصادية. بعيداً عن كونه نشاطاً زراعياً بحتاً، يمثّل استزراع السمك نموذجاً لتحويل التحديات البيئية إلى فرص تنموية، عبر تسخير التقنيات الحديثة لتوفير مصدر غذائي غني بالبروتين، وتحفيز سلاسل القيمة المرتبطة به، وخلق فرص عمل جديدة.
وعلى غرار نماذج الابتكار في وادي السيليكون، فإن ما يحدث في مشاريع الاستزراع السمكي السعودية يستحق أن يُنظر إليه بوصفه نموذجاً لريادة الأعمال البيئية، حيث توظف تقنيات الاستزراع المغلق والتدوير المائي لإنتاج الأسماك في بيئات غير تقليدية، منها مزارع صحراوية تبعد مئات الكيلومترات عن الساحل. إن هذا التحوّل لا يعزز الاكتفاء الذاتي فحسب، بل يعيد تعريف العلاقة بين التكنولوجيا والموارد المحلية، ويوفّر دروساً قيّمة للدول التي تسعى لتحويل ندرة الموارد إلى ميزة استراتيجية.
الاستزراع السمكي في السعودية كنموذج لريادة الأعمال البيئية
يقصد بالاستزراع السمكي تربية أنواع من الأسماك ضمن ظروف بيئية محكمة، وإخضاعها للتكاثر في مساحات معينة مثل الأقفاص أو الأحواض الترابية بهدف تطوير الإنتاج السمكي، وتحقيق أهداف اقتصادية وبيئية واجتماعية.
ولا يُعد الاستزراع السمكي مجرد مشروع اقتصادي في السعودية، بل هو أحد أعمدة رؤية المملكة 2030 التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل. ففي بلد تزيد نسبة الأراضي الصحراوية فيه عن 90%، ويمتلك موارد محدودة من المياه العذبة، ظهرت الحاجة لتطوير بدائل زراعية ذكية ومستدامة. وبدلاً من أن يكون شحّ الموارد عقبة، أصبح دافعاً للابتكار وتحقيق ميزة استراتيجية تعزز الأمن الغذائي وتحفّز النمو الاقتصادي الأخضر.
ووفقاً لتقرير البنك الدولي "ثروة الأمم المتغيرة 2018: بناء مستقبل مستدام"، تميل الدول التي تدير مواردها بحكمة، من خلال الاستثمار في البنية التحتية والابتكار ورأس المال البشري، إلى تحقيق مستويات أعلى من التنوع الاقتصادي والمرونة.
ومن هذا المنطلق، تسعى المملكة لتطوير قطاع الثروة السمكية عبر إيجاد حلول مدروسة ومبتكرة، وتحسين الممارسات وبناء القدرات التي تعزز دور القطاع تحقيق الأمن الغذائي ودعم الناتج المحلي.
التخطيط: تعمل وزارة البيئة والمياه والزراعة على تطوير برامج وخطط استراتيجية لدعم الصيد المستدام والاستزراع السمكي، مثل البرنامج الوطني لتطوير قطاع الثروة السمكية بهدف رفع الإنتاج المحلي من الأسماك إلى نحو 600 ألف طن سنوياً بحلول عام 2030، مقارنة بإنتاج لم يتجاوز 70 ألف طن في السنوات الماضية. ولتحقيق ذلك، ضُخّت استثمارات بأكثر من 4 مليارات دولار من القطاعين العام والخاص لتطوير المزارع السمكية البحرية، والأنظمة المغلقة (آر أيه إس)، ومراكز الأبحاث والتفريخ.
بنت المملكة مشاريع متطورة للاستزراع السمكي باعتماد أنظمة الأقفاص العائمة والبرك الترابية، ويقدّر عدد هذه المشروعات بنحو 300 مشروع تتنوع بين مشروعات الأقفاص العائمة أو مشروعات الروبيان على الساحل، ما أسهم في زيادة الإنتاج ليصل بنهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2024 إلى 144.3 ألف طن.
الاستدامة والاقتصاد الدائري: وتشير ريادة الأعمال البيئية إلى المشاريع التي تدمج بين الربح والاستدامة. ويُجسّد قطاع الاستزراع السمكي في السعودية هذا المفهوم من خلال إدارة المياه بطرق مبتكرة عبر استخدام تقنيات إعادة التدوير والفلترة للحد من استهلاك المياه وتقليل الأثر البيئي.
وتعمل مبادرات مثل مشاريع البحر الأحمر على تطوير مزارع سمكية تراعي الشعب المرجانية والتنوع البيولوجي البحري، ما يضمن التوازن البيئي على المدى البعيد.
كما تعمل على تطبيق مبادئ الاقتصاد الدائري من خلال إعادة استخدام النفايات السمكية لصناعة الأسمدة العضوية أو الوقود الحيوي، وتطوير أعلاف محلية تعتمد على بقايا التمور أو البروتين من الحشرات، ما يقلل الاعتماد على الاستيراد.
تمكين المجتمع المحلي: استثمرت المملكة في تدريب وتأهيل الكوادر السعودية للعمل في قطاع الثروة السمكية، وأطلقت مشروع تأهيل الكوادر الوطنية لصيد الأسماك بهدف تدريب الكفاءات الوطنية وتعزيز قدرات نحو 3200 مستفيد في قطاعات أهمها الصيد والتوزيع والنقل والمبيعات والتسويق.
ويركز المشروع على الموائمة بين الموارد والكفاءات لتعزيز تنافسية القطاع، إذ يستهدف تحسين سلسلة الإمداد وتنويع قاعدة الإنتاج من خلال تقديم التسهيلات والخدمات للعاملين.
البحث والتطوير: توظِف السعودية البحث والتطوير لتعزيز قطاع الأسماك وتربية الأحياء المائية، إذ يعمل المركز الوطني لأبحاث الثروة السمكية على تطوير تقنيات الاستزراع السمكي، وتحسين إنتاج الأنواع المحلية مثل الهامور والروبيان، من خلال دراسة الموارد البحرية وتقديم حلول علمية لمشاكل تربية الأحياء المائية.
كما تتعاون المملكة مع شركاء محليين وعالميين ومراكز أبحاث وجامعات لتسريع نقل المعرفة وتعزيز الاستثمار الأخضر، ليصبح الاستزراع السمكي السعودي قطاع مستدام وجاذب لرؤوس الأموال التي تلتزم بمبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية.
على سبيل المثال جرى التعاون مع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) لإجراء أبحاث حول جينات الأسماك، جودة المياه، ونظم التغذية الذكية، منها تحسين تكاثر سمك السيبريم في الظروف المحلية، والتقليل من الأمراض في المزارع.
ونتج عن هذه الأبحاث تطوير أكثر من 30 تركيبة جديدة للأعلاف السمكية، حققت تحسينات ملحوظة تتراوح بين 10-15% في نسبة تحويل الأعلاف وهي مقياس لكفاءة إنتاج الأسماك، وفي حال توسيع نطاق تطبيق هذه النظم المتطورة من الغذاء، يمكن توفير نحو 417 مليون دولار سنوياً في تكاليف الإنتاج.
كما تدعم السعودية الابتكار من خلال برامج تمويل الأبحاث، إذ يقوم صندوق البيئة بتمويل مشاريع بحثية لتطوير لقاحات للأسماك وتقنيات تقليل النفوق.
عززت هذه المبادرات المبتكرة قطاع الاستزراع السمكي لينمو بنسبة 12%، وساعد الموقع الاستراتيجي للمملكة على زيادة التصدير إلى الخليج، آسيا، وإفريقيا، حيث سجلت صادرات الأسماك بنهاية الربع الثالث من 2024 نحو 27567 طناً.
ما يميز تجربة الاستزراع السمكي في السعودية هي قدرتها على تحويل القيود البيئية إلى فرص لتحقيق أهدافاً متعددة في الأمن الغذائي، والابتكار، والتنمية المستدامة.
وتقدم السعودية درساً استراتيجياً مهماً للدول التي تعاني من ندرة الموارد: "الندرة ليست عائقاً بل دافعاً لإعادة الابتكار". وفي ظل التحولات البيئية العالمية، تُثبت المملكة أن حتى الصحراء يمكن أن تكون أرضاً خصبة لمستقبل مستدام.
وحققت المملكة العربية السعودية من خلال مشاريع الاستزراع السمكي مكانة متقدمة بين الدول التي تستخدم التقنيات الحديثة في تحقيق انتاج متنوع ومستدام. حيث يعد هذا المشروع نموذجاً ناجحاً لتحويل التحديات البيئية إلى فرص اقتصادية وتنموية والصعود إلى التنافسية في مجال التنوع والأمن الغذائي.