ملخص: أصبحت قدرات الذكاء الاصطناعي في متناول الشركات كافة، وذلك من شأنه أن يفتتح عهداً جديداً من الابتكار الاستراتيجي ويتيح للشركات التحرر من قيود تصميم الاستراتيجيات القديمة إلى الأبد. ثمة 3 استراتيجيات جديدة ومناسبة وتتمتع بإمكانات كبيرة، وهي استراتيجية التجربة الدائمة (Forever Beta)، واستراتيجية الفكرة القابلة للتنفيذ بالحد الأدنى (MVI)، واستراتيجية المختبر التعاوني (Co-lab). تشرح هذه المقالة كلاً من هذه الاستراتيجيات بالتفصيل، وتعطي أمثلة عن الشركات التي تستخدمها حالياً. وعلى الرغم من اختلاف استراتيجيات هذه الشركات، فهي تشترك في 3 خصائص مهمة: أولاً، تتشابك التكنولوجيا واستراتيجية الأعمال والتنفيذ على نحو وثيق لدرجة تجعل التمييز بينها صعباً. ثانياً، القيادة للبشر وليس للآلة. ثالثاً، تدرك هذه الشركات أن الشركات جميعها أصبحت شركات تكنولوجيا بغض النظر عن مجال عملها، لكن استراتيجيات الأعمال التي تعتمد على التكنولوجيا تتطلب قادة ذوي رؤية بعيدة المدى، فالقادة القادرون على رؤية الفرص المتاحة في الرابطة القوية التحويلية التي تجمع بين العنصر البشري والتكنولوجيا سوف يسبقون الزعزعة ويستولون على المستقبل.
يقلب الأسلوب المتمحور حول الإنسان للتفاعل بين الإنسان والآلة الافتراضات حول اللبنات الأساسية للابتكار رأساً على عقب. وعلى وجه التحديد، فإن الفوائد الجديدة للبيانات الصغيرة -مثل القدرة على إنشاء بيانات "اصطناعية" لمحاكاة مجموعة من الظروف- تجعل قوة الذكاء الاصطناعي في متناول الكيانات التي لم تكن قادرة على تحمل تكاليفه في السابق. فبدلاً من أن "تتعلم" الآلة من خلال معالجة جبال من البيانات، يمكن للبشر الآن تعليم الآلة بناءً على الخبرة البشرية والإدراك والحدس. وهذا يعني أن بإمكان الكثير من الأشخاص في المؤسسات استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق جديدة بناءً على خبراتهم الفردية.
ما الصورة الكبرى الناتجة عن ذلك؟ ستتنازل البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات المرهقة والتقليدية عن مكانتها لمصلحة أنظمة حية قادرة على تنسيق التكنولوجيات والبيانات والمواهب في عالم رقمي فائق التطور يتميز بالحوسبة المتنقلة والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء (IoT) ومليارات الأجهزة. أتاحت هذه التطورات إمكانات هائلة للابتكار الاستراتيجي، ومع ذلك لم يتمكن سوى عدد قليل من الشركات من تحقيق قفزة تحويلية في الاستراتيجيات الجديدة التي أتاحتها هذه التكنولوجيات المتمحورة حول البشر.
إليكم 3 من هذه الاستراتيجيات الجديدة ذات الإمكانات الكبيرة: استراتيجية التجربة الدائمة (Forever Beta)، واستراتيجية الفكرة القابلة للتنفيذ بالحد الأدنى (MVI)، واستراتيجية المختبر التعاوني (Co-lab). سنشرح كلاً منها بالتفصيل مع أمثلة عن الشركات التي تستخدمها حالياً، وعلى الرغم من اختلاف استراتيجيات هذه الشركات، فهي تشترك في 3 خصائص مهمة: أولاً، تتشابك التكنولوجيا واستراتيجية الأعمال والتنفيذ على نحو وثيق لدرجة تجعل التمييز بينها صعباً. ثانياً، القيادة للبشر وليس للآلة. ثالثاً، تدرك هذه الشركات أن الشركات جميعها أصبحت شركات تكنولوجيا بغض النظر عن مجال عملها.
استراتيجية التجربة الدائمة (Forever Beta)
تقدم استراتيجيات التجربة الدائمة منتجات وخدمات مدعومة بالبرمجيات تتطور وتتحسن باستمرار بعد شرائها، فيرى العملاء أنها تنمو من حيث القيمة والفائدة بمرور الوقت ولا تتضاءل. على سبيل المثال، لا تقدم شركة تيسلا تحديثات سنوية لسياراتها على عكس شركات السيارات الأخرى لأن تيسلا تطرح طرازاً ثم تحسّنه باستمرار. يلاحظ مالكو سيارات تيسلا أن سياراتهم تتغير باستمرار من خلال التحديثات التي تعمل على تطوير قدرات القيادة الذاتية للسيارة وتحسين الأداء وتعزيز ميزات السلامة.
تراقب شركة تيسلا أداء سياراتها وتقدم التشخيص والإصلاح عن بُعد عبر الاتصال بين السحابة الإلكترونية والأجهزة الإلكترونية في السيارات. على سبيل المثال، عندما شخّصت مشكلة تتعلق بارتفاع درجة حرارة المحرك أُصلحت عبر تعديل برمجي. يتواصل سائقو تيسلا مع الشركة بصورة دائمة فينقلون خبراتهم البشرية إلى شبكة تيسلا العصبية ويحسّنونها بمجرد قيادتهم للسيارة.
والنتيجة هي تجربة امتلاك سيارة تنمو قيمتها وفائدتها باستمرار. صُممت هذه التجربة لتكون جزءاً لا يتجزأ من فائدة المنتج وتميّزه للعملاء الذين يعتبرون فعلياً مستخدمين تجريبيين متميزين لكل تحسين جديد.
تُحافظ شركة سيغنيفاي (Signify)، التي كانت تُعرف سابقاً باسم فيليبس لايتينغ (Philips Lighting)، على أحدث التقنيات وأفضلها بين أيدي عملائها من خلال نظام سيغنيفاي للإضاءة الدائرية، وهو نظام إضاءة مؤسسي تقدم فيه سيغنيفاي الإضاءة بناءً على أوقات العمل واحتياجات الطاقة التي يطلبها عملاؤها؛ تولت الشركة مسؤولية الإضاءة في جميع محطات الطاقة التي تزود دبي بالكهرباء، ما أدى إلى توفير 68% من استهلاك الطاقة المرتبط بالإضاءة في المدينة.
ومن خلال الربط الوثيق بين التكنولوجيا واستراتيجية الأعمال، تعمل هذه الشركات على تكوين علاقات أقوى مع العملاء مبنية على إدراك أن تجارب الخدمة التي يشترونها اليوم ستزداد قيمتها في المستقبل.
الفكرة القابلة للتنفيذ بالحد الأدنى
تستخدم استراتيجيات الفكرة القابلة للتنفيذ بالحد الأدنى تكنولوجيات ذكية لاستهداف الحلقات الضعيفة في القطاعات التقليدية بدقة وتوفير تجربة عملاء متفوقة يمكن توسيع نطاقها بسرعة لتحقيق تقدم سريع في السوق. خذ مثلاً شركة التأمين ليمونيد (Lemonade)، التي تتخذ من نيويورك مقراً لها والتي شارك دانيال شرايبر وشاي وينينغر في تأسيسها، إذ تقدم خدمات التأمين للمستأجرين ومالكي الشقق ومالكي المنازل وأصحاب الحيوانات الأليفة. يبسّط تطبيقها المدعوم بالذكاء الاصطناعي عمليات الحصول على عروض الأسعار وتسوية المطالبات، وينجزها أحياناً في ثوانٍ معدودة. يقول وينينغر: "ليمونيد هي شركة تكنولوجيا تقدم خدمات التأمين، وليست شركة تأمين تقدم تطبيقاً".
مزجت شركة ليمونيد بوتات الدردشة الآلية والذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة والسحابة الإلكترونية للتركيز بدقة متناهية على خصائص قطاع التأمين التقليدي التي تجعله مكروهاً على نطاق واسع بين المستهلكين. وبالنسبة لعنصر الخبرة، فقد ابتكروا طريقة في غاية الإبداع لوضع العنصر البشري في صلب العملية:
لنفكر قليلاً في عملية المطالبة بالتعويض في الشركة، فليس على المستخدم سوى النقر على زر "مطالبة" (claim) في تطبيق ليمونيد وسرد حالته إلى بوت الدردشة "مايا" (Maya)، ولا حاجة إلى تعبئة أي استمارات أو الانتظار على الهاتف، ولا حاجة إلى تحويل العميل من قسم إلى آخر. يشغّل الذكاء الاصطناعي للشركة خوارزميات لمكافحة الاحتيال، وإذا حصلت المطالبة على الموافقة على الفور، وهو ما يحدث في نحو 30% من الحالات، فإن الذكاء الاصطناعي يدفعها على الفور. بخلاف ذلك، تنتقل المطالبة إلى شخص يتصل بالمُؤمَّن له في أقرب وقت ممكن.
تتميز هذه العملية بسهولتها وسلاستها، وأحد أسباب ذلك هو النموذج المالي الذي عالج ما اعتبره مؤسسو الشركة تضارباً في المصالح بالنسبة لشركات التأمين: كل دولار يطلبه العميل وترفضه الشركة يذهب إلى أرباح الشركة، وهذا يدفع شركات التأمين إلى بذل كل ما في وسعها لرفض مبلغ مطالبة التعويض أو تقليله ويحفز العميل على تضخيم مطالباته.
ببساطة، تأخذ شركة ليمونيد نسبة مئوية ثابتة من كل قسط من أقساط التأمين وتتبرع بالأموال المتبقية التي لم يُطالب بها في "يوم رد الجميل" السنوي، إذ تمنحها لقضايا تهم حاملي وثائق التأمين. تجمع الشركة حاملي وثائق التأمين الذين اختاروا القضية نفسها في مجموعة افتراضية، وتُستخدم أموال الأقساط المحصلة من كل مجموعة افتراضية لسداد مطالبات أفراد المجموعة، ويذهب ما يتبقى من المال لدعم قضية تلك المجموعة. في يوم رد الجميل عام 2020، تبرعت الشركة بأكثر من 1.1 مليون دولار إلى 34 مؤسسة غير ربحية، مثل اليونيسف ومؤسسة دايركت كوفيد ريليف ريسبونس (Direct Covid Relief Response) وصندوق ملالا (Malala Fund) ومؤسسة بورن ذِس واي (Born This Way) وغيرها.
العملاء أنفسهم هم العنصر البشري في عملية المطالبات، فعندما يقدمون مطالبة يدركون أن شركة ليمونيد ليس لديها أي حافز لرفضها أو تقليل قيمتها دون وجه حق. والأهم من ذلك أنهم يدركون أن أي محاولة لتضخيم المطالبة ستؤدي إلى تقليل الأموال التي ستتبرع بها الشركة لقضية يهتمون بها بشدة. لا تقتصر هذه العملية على التمحور حول العنصر البشري، بل تضع ما هو إنساني بامتياز في مركزها، وهو الضمير الأخلاقي.
التعاون المشترك
تؤدي استراتيجيات التعاون المشترك إلى نتائج متقدمة في العلوم وغيرها من بيئات العمل التي تنتج المعرفة بكثافة من خلال الاكتشافات التي يقودها الإنسان اعتماداً على الآلة، فقد حرر كل من تعلم الآلة والأتمتة المتخصصين والعاملين في مجال المعرفة الذين يقودون المنصات التكنولوجية القوية ومكّنهم من الاستفادة من المعرفة البشرية على أعلى المستويات، ما أدى إلى زيادة هائلة في الإنتاجية وتضاعف القيمة وجعل الدخول إلى السوق شديد الصعوبة على منافسيهم.
أنشأت شركة إكسينتيا (Exscientia) البريطانية الناشئة منصة لاكتشاف الأدوية تعتمد على الذكاء الاصطناعي أطلقت عليها اسم سنتور كيميست (Centaur Chemist)، ولتحديد المرض المراد استهدافه، تطبق شركة إكسينتيا في البداية خوارزميات التعلّم العميق لتضييق نطاق العدد غير المحدود تقريباً من الأمراض المحتملة المرشحة للاستهداف. ثم يبتكر خبراء الشركة استراتيجية ينفذها نظام "التعلم النشط" الخاص بمنصة سنتور كيميست الذي "يتعلم" كيف يصل إلى مجموعة بيانات اكتشاف الأدوية ذات نقاط البيانات المحدودة، معتمداً على خوارزميات ذات كفاءة عالية في استخدام البيانات. في مجال اكتشاف الأدوية، لا يُعرف عادةً الكثير عن الأهداف الجديدة للعلاجات ولا يتوافر سوى القليل من البيانات التي يمكن استخدامها في طرق تعلم الآلة بالبيانات الضخمة. في عام 2020، أصبحت شركة إكسينتيا أول شركة أدوية تبتكر جزيئاً مصمماً بالذكاء الاصطناعي يدخل التجارب السريرية على البشر، ثم تلتها شركة أخرى في عام 2021. ثمة أمثلة مماثلة مثيرة للإعجاب على قوة استراتيجية التعاون المشترك في تطوير لقاحات كوفيد في شركات موديرنا (Moderna) وفايزر/بايونتك (Pfizer/BioNTech) في وقت قياسي.
خطوات صغيرة أم قفزة عملاقة؟
لا تقتصر استراتيجيات الأعمال الجريئة الناشئة عن التحول الجذري نحو التركيز على الإنسان في التقنيات الذكية على استراتيجيات التجربة الدائمة، والفكرة القابلة للتنفيذ بالحد الأدنى، والتعاون المشترك. لكن استراتيجيات الأعمال القائمة على التكنولوجيا ليست ذاتية التوليد، بل تتطلب قادة ذوي رؤية بعيدة المدى. فالقادة القادرون على رؤية الفرص المتاحة في الرابطة القوية التحويلية التي تجمع بين العنصر البشري والتكنولوجيا سوف يسبقون الزعزعة ويستولون على المستقبل. أما الذين يستمرون في مسار الأتمتة التدريجية فسوف يتعثرون، وكذلك الأمر بالنسبة للعاملين. في بحث رائد حول إحلال الآلات محل العاملين، خلص الاقتصاديان دارون أسيموغلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وباسكوال ريستريبو من جامعة بوسطن إلى أن تكنولوجيا الأتمتة "الرائعة" ليست التي تهدد العمالة والأجور، بل "التكنولوجيا ذات الأثر المحدود" التي تولد تحسينات صغيرة في الإنتاجية. ويمكن قول الشيء نفسه عن الاستراتيجيات ذات الأثر المحدود.