ملخص: يمكن أن تساعد الأطر الاستراتيجية على تحديد إذا ما كانت فرصة معينة جذابة أو إذا ما كان من المرجح أن تنجح استراتيجية معينة، لكن مشكلتها تكمن في أنها لا تساعد بصورة عامة على اكتشاف الفرصة أو صياغة الاستراتيجية نفسها في المقام الأول. تقدم هذه المقالة إطار عمل يعتمد على تحليل معمق لأدبيات الإبداع للمساعدة على سد هذه الفجوة من خلال تقديم أسلوب منهجي لتحديد الاستراتيجيات المحتملة. يصنف إطار العمل الاستراتيجيات جميعها إلى المجموعات الأربع الآتية، من الأقل إبداعاً إلى الأكثر إبداعاً: تكييف استراتيجية حالية من قطاعك، والجمع بين استراتيجيات مختلفة من قطاع آخر، واستلهام استراتيجيات من قطاعات أخرى، وإنشاء استراتيجية جديدة كلياً.
يمكن أن تساعد الأطر الاستراتيجية على تحديد إذا ما كانت فرصة معينة جذابة أو إذا ما كان من المرجح أن تنجح استراتيجية معينة، لكن مشكلتها تكمن في أنها لا تساعد بصورة عامة على اكتشاف الفرصة أو صياغة الاستراتيجية نفسها في المقام الأول. وعلى حد تعبير خبير الاستراتيجية المشهور، غاري هامل: "الحقيقة غير المعلنة في قطاع الاستراتيجية هي أنه يفتقر إلى نظرية لابتكار الاستراتيجيات".
للمساعدة على سد هذه الفجوة، تقدم المقالة تصنيفاً للاستراتيجيات المحتملة، مستندة إلى تحليل عميق لأدبيات الاستراتيجية والإبداع. من حيث الجوهر، تندرج الاستراتيجيات جميعها في 4 مجموعات، مرتبة هنا من الأقل إبداعاً إلى الأكثر إبداعاً.
1. تكييف الاستراتيجيات الناجحة من قطاعك
من الأمثلة البارزة على هذا النهج شركة شي إن (Shein) الصينية التي أخذت مفهوم الموضة السريعة إلى أقصى حدوده. في حين تطرح شركات الموضة السريعة التقليدية مثل زارا (Zara) وآتش آند إم (H&M) نحو 500 قطعة جديدة أسبوعياً، تطرح شركة شي إن ألف قطعة جديدة يومياً. علاوةً على ذلك، أسعار منتجات شي إن أقل بنسبة 30-50% من الأسعار التي تقدمها الشركات المنافسة. وعلى عكس تلك الشركات، ليس لشركة شي إن أي متاجر فعلية، بل تبيع منتجاتها فقط من خلال تطبيقها وموقعها الإلكترونيين. كما تعتمد بصورة أكبر على الذكاء الاصطناعي، سواء في المنبع (لاكتشاف الاتجاهات الجديدة) أو في المصب (لتحسين الإنتاج). وقد أثبتت هذه الصيغة نجاحاً هائلاً، ففي الفترة ما بين 2020 و2022، ارتفعت حصة شي إن في سوق الموضة السريعة الأميركية من 18% إلى 40%.
شركة أخرى تعد مثالاً أقوى على هذا النهج هي روكيت إنترنت (Rocket Internet) الألمانية. تشتهر هذه الشركة بـ "التقليد المبتكر" من تجارب شركات البيع بالتجزئة والأسواق الإلكترونية الناجحة. حتى الآن، أطلقت الشركة أكثر من 100 شركة جديدة يعمل معظمها في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا والهند والصين وإفريقيا والشرق الأوسط. من بين هذه الشركات شركة جوميا (Jumia)، وهي شركة تجارة تجزئة إلكترونية تعمل حالياً في 11 دولة إفريقية. استوحى قادة جوميا استراتيجية "المتجر الشامل" التي تتبعها شركة أمازون، لكنهم عملوا على تصميمها بصورة تتناسب مع الأسواق الإفريقية.
يوضح نائب رئيس خدمة العملاء في جوميا هذا النهج قائلاً: "أمازون هي معيارنا، لذلك نسعى جاهدين لمحاكاة طريقة عملها. لكن بيئة العمل والتحديات التي نواجهها هنا لا تسمح لنا بتطبيق نموذج أعمال أمازون بالكامل، لذلك نضطر إلى تعديل الكثير من جوانب العمل لتتناسب مع هذه البيئة". على سبيل المثال، تواجه جوميا العديد من التحديات المتعلقة بالبنية التحتية في إفريقيا. ونظراً لعدم وجود خدمات لوجستية موثوق بها من طرف ثالث، اضطرت جوميا إلى إنشاء أسطول مركباتها الخاص. وبالنظر إلى محدودية الوصول إلى الإنترنت في المناطق الريفية، اضطرت جوميا إلى تشكيل فريق من مندوبي المبيعات المزودين بأجهزة لوحية لمساعدة العملاء على تقديم طلباتهم.
2. استلهام الاستراتيجيات من قطاعات أخرى
نادراً ما يتطلع المسؤولون التنفيذيون ورواد الأعمال إلى ما هو أبعد من حدود قطاعهم. وهذا أمر مؤسف لأن الاستراتيجية التي ساعدت في استغلال فرصة أو تحييد تهديد في قطاع آخر يمكن أن تكون في كثير من الأحيان مصدر إلهام قيّم. في الواقع، من السهل إجراء المقارنات عندما تكون هناك أوجه تشابه قوية بين قطاعين. فعلى سبيل المثال، عندما عُيّن هيوبرت جولي رئيساً تنفيذياً لشركة بيست باي (Best Buy) في عام 2012، كانت شركة البيع بالتجزئة الأميركية في مأزق. ففي حين كان المستهلكون لا يزالون يعتمدون على متاجر الشركة مصدراً للمعلومات والمشورة حول المنتجات، كانوا يشترون حاجياتهم من أمازون. بعبارة أخرى، تحولت بيست باي إلى صالة عرض لشركة أمازون، ما أدى إلى انخفاض حاد في إيراداتها وأرباحها.
بعد 4 سنوات، قالت صحيفة وول ستريت جورنال: "حققت بيست باي ما كان يعتبره الكثيرون مستحيلاً في السابق. لقد نجحت في التغلب على التهديد التنافسي الذي تمثله شركة أمازون". يُعزى هذا التحول الكبير إلى استراتيجية "متجر داخل متجر" (store-within-a-store) التي بدأ جولي بتطبيقها في عام 2013، واستندت إلى رؤية مفادها أن بيست باي كانت شركة التجزئة الوحيدة والمتبقية للإلكترونيات الاستهلاكية التي لها وجود وطني في الولايات المتحدة. على عكس شركة آبل، لم يكن لدى شركات مثل سامسونج ومايكروسوفت وهيوليت باكارد وإل جي أو سوني متاجرها الخاصة، لكنها كانت بحاجة إلى مكان لعرض منتجاتها والتفاعل مع المستهلكين، فمنحت استراتيجية "متجر داخل متجر" هذه الشركات الفرصة لإنشاء متاجر تحمل علامتها التجارية داخل متاجر بيست باي مقابل رسوم على ذلك.
كانت فكرة تأجير مساحة البيع بالتجزئة ابتكاراً ثورياً في مجال بيع الإلكترونيات الاستهلاكية بالتجزئة، لكنها ممارسة شائعة في متجر التجزئة المتعدّدة الأقسام، وقد كان متجر التجزئة المتعددة الأقسام الفرنسي لو بون مارشيه (Le Bon Marché) رائد هذا النموذج في عام 1852. وبالنسبة لشخص فرنسي مثل هيوبرت جولي، لا بد أن تكون أوجه التشابه بين هذا النموذج وحالة شركته بديهية جداً.
يصبح تحديد أوجه التشابه أصعب عندما يكون القطاعان مختلفين إلى حد كبير. على سبيل المثال، واجهت شركة تصنيع الأدوات الأوروبية، هيلتي (Hilti)، صعوبات في منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة بسبب تشبّع سوق الأدوات بالمنتجات. سرعان ما أدرك قادة الشركة أن خفض سعر الأدوات أو تحسين جودتها لن يكون كافياً لاستعادة الربحية.
كان الحل الذي ابتكروه مستوحى من نموذج الإيجار، وهو نموذج عمل تجاري مألوف في عالم الآلات الثقيلة والمركبات، ولكنه تقليدياً بعيد كل البعد عن سلع التجزئة. بدلاً من شراء الأدوات، يمكن للعملاء دفع رسم اشتراك شهري للحصول عليها عند الطلب. سمح برنامج هيلتي لتوفير الأدوات عند الطلب للعملاء بتجنب دفع استثمارات كبيرة مقدماً وأتاح لهم الوصول إلى أحدث الأدوات.
3. الجمع بين استراتيجيات من قطاعات مختلفة عدة
في كثير من الحالات، يمكن أيضاً إنشاء استراتيجيات جديدة عن طريق إضافة ميزات مستوحاة من استراتيجيات أخرى إلى الاستراتيجية الحالية. مثال جيد على ذلك هو شركة سبوتيفاي (Spotify). منذ إطلاقها في عام 2008، نمت الشركة ليصل عدد مستخدميها في عام 2023 إلى أكثر من 500 مليون مستخدم، متفوقة على آبل ميوزك 5 مرات. بالإضافة إلى توفير الموسيقى عند الطلب، تتيح شركة البث السويدية للمستخدمين التواصل مع المستخدمين الآخرين والفنانين، ما يسمح لهم بمعرفة الموسيقى التي يستمع إليها أصدقاؤهم ومشاركة قوائم التشغيل ومتابعة الفنانين. بعبارة أخرى، دمجت سبوتيفاي ببساطة خدمة بث الموسيقى التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي في خدمة واحدة. في حين أنها خدمة لبث الموسيقى في المقام الأول، يعزز جانب الشبكة الاجتماعية إحساساً بالانتماء إلى المجتمع يحافظ على مشاركة المستخدمين بما يتجاوز مجرد الاستماع إلى الموسيقى.
وفي حالات أخرى، يختار رواد الأعمال ميزات من اثنتين أو أكثر من الاستراتيجيات الحالية مع التخلي عن ميزات أخرى لابتكار شيء جديد. خذ على سبيل المثال صحيفة هافينغتون بوست (Huffington Post) التي أُطلقت في عام 2005. كتبت مؤسستها، أريانا هافينغتون، في ذلك الوقت: "الصحيفة هي مشروع جديد للنشر في الإنترنت يجمع بين قسم للأخبار العاجلة مع مدونة جماعية مبتكرة حيث يشارك بعض أكثر العقول إبداعاً في البلاد في مناقشة مواضيع كبيرة وصغيرة، سياسية وثقافية، مهمة كانت أو ترفيهية".
استفاد موقع هافينغتون بوست إذاً من استراتيجيتين مختلفتين: الصحافة ونموذج المدونات، لإنشاء مؤسسة إعلامية واحدة. وقد حافظت على العديد من السمات الأساسية للصحف (مثل الصحفيين المحترفين والتحقيقات الأصلية وإجراءات التدقيق الصارمة في الحقائق). كما أن اسم الموقع ونمط خطوطه متشابهان مع تلك الموجودة في الصحف الأميركية الرائدة، لكن الصحيفة تخلت أيضاً عن بعض الميزات المرتبطة تقليدياً بالصحف (مثل إصدار نسخة ورقية) واستبدلت بها بعض ميزات المدونات (التحديث المستمر على وجه الخصوص). في أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة، كانت مواقع الصحف الإلكترونية ساكنة إلى حد كبير، فقد كان تحديث محتواها يجري مرة واحدة فقط في اليوم، وظل تفاعلها مع القرّاء محدوداً. بالمقابل، كانت المدونات أكثر حيوية وتفاعلية. نجح موقع هافينغتون بوست في دمج أفضل ميزات العالمين كليهما.
4. استراتيجيات جديدة مبتكرة كلياً
تعتمد أنواع الاستراتيجية الثلاثة التي ناقشناها حتى الآن في الأساس على استلهام عناصر استراتيجية موجودة بالفعل أو دمجها. أما الفئة الرابعة والأخيرة فتتألف من استراتيجيات مبتكرة طُورت من الألف إلى الياء استناداً إلى مبادئ أساسية. وكما قال إيلون ماسك: "بسّط الأشياء إلى حقائقها الأساسية واستنبط من هناك، بدلاً من الاستدلال بالقياس".
تتضمن هذه العملية 3 خطوات: (1) تحدي التفكير التقليدي، (2) تفكيك المشكلات إلى مبادئها الأساسية (أي العناصر أو الحقائق الأساسية)، (3) ابتكار حلول جديدة كلياً. لقد اشتهر ماسك باستخدام هذه العملية لابتكار صواريخ سبيس إكس المنخفضة التكلفة والقابلة لإعادة الاستخدام. كانت خطته الأصلية شراء صواريخ مستعملة من روسيا، لكنها كانت باهظة الثمن. باستخدام التفكير بالمبادئ الأساسية، تساءل عن سبب ارتفاع تكلفة الصواريخ (الخطوة 1). وبعد تحليل تكلفة المواد إلى مكوناتها الأساسية، لاحظ أنها لا تشكل سوى 2% فقط من السعر الإجمالي (الخطوة 2). بناءً على ذلك، قرر شراء مواد (مثل سبائك الألومنيوم والتيتانيوم وألياف الكربون) من سوق السلع الأساسية وصنع صواريخه الخاصة (الخطوة 3).
لا يقتصر التفكير بالمبادئ الأساسية على المنتجات فقط. على سبيل المثال، أحدثت شركة إير بي إن بي (Airbnb) زعزعة في قطاع الضيافة من خلال تمكين الأفراد من تأجير منازلهم لأفراد آخرين. كانت فكرة استعداد المضيفين لتأجير منازلهم للغرباء، وأن يكون الضيوف على استعداد للإقامة في منازل الغرباء، فكرة أدت إلى تطورات جذرية. قوبلت هذه الفكرة في البداية بالتشكيك، فقد رفض 7 مستثمرين كبار على الأقل تمويل المشروع، وردّ أحدهم على مؤسسي إير بي إن بي بالقول: "لا تبدو فرصة السوق المحتملة كبيرة بما يكفي". لفهم استراتيجية إير بي إن بي الجديدة، لجأت وسائل الإعلام في البداية إلى إجراء مقارنات مع استراتيجيات قائمة. على سبيل المثال، شرحت صحيفة فايننشال تايمز أن إير بي إن بي "تعمل وسيطاً على غرار موقع إيباي".
لكن مؤسسي إير بي إن بي لم يعتمدوا على الاستدلال التناظري لصياغة استراتيجيتهم. في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة، كان التفكير التقليدي في قطاع الضيافة هو أن الإقامة مرتبطة بالفنادق (الخطوة 1). تحدى مؤسسو إير بي إن بي هذا الافتراض وحددوا حقيقتين أساسيتين. أولاً، يحتاج المسافرون إلى مكان للإقامة. ثانياً، يمتلك بعض الأشخاص غرفاً أو عقارات إضافية (الخطوة 2). انطلاقاً من هذين المبدأين، ابتكروا منصة أحدثت زعزعة في قطاع الفنادق عن طريق ربط المسافرين الذين يبحثون عن تجربة أكثر أصالة (وغالباً أقل تكلفة) من الفنادق، بالمضيفين الراغبين في تأجير غرفهم أو عقاراتهم الإضافية (الخطوة 3). المفارقة أن استراتيجية إير بي إن بي أصبحت نقطة مرجعية يستخدمها المدراء والرواد في العديد من القطاعات المختلفة (على سبيل المثال، نموذج إير بي إن بي للأزياء).
تختلف متطلبات تطوير استراتيجية باختلاف فئاتها. يتطلب تكييف استراتيجية معروفة المعرفة بقطاع واحد فقط، في حين يتطلب النجاح في استلهام الاستراتيجيات أو دمجها بنجاح معرفة بسياقات أخرى غير سياقاتك الخاصة، وكلما زاد عدد القطاعات التي تلّم بها، زادت قدرتك على تحديد الاستراتيجيات التي يمكن استخدامها مصدراً للإلهام. لكن مستوى الإبداع المطلوب للفئة الرابعة يتطلب بالإضافة إلى ذلك القدرة على التأمل العميق في معرفتك الحالية.