عندما عملت كمستشارة إدارية، كانت لدي عميلة وصفتها بأن شخصيتها "صعبة"، دعونا نطلق عليها اسم "ليلى" لم نكن نتقابل أنا وليلى وجهاً لوجهاً لأشهر، وكنت أعارضها في عدة أمور منها: "الطريق الذي كانت تسلكه بالنسبة لمشاريعنا، والأشخاص الذين كانت تختارهم ليعملوا في تلك المشاريع، والوتيرة التي كانت تنتهجها بخصوص كيفية قيامنا بأعمالنا، على سبيل المثال "لماذا كانت تريد أن نسير ببطء في العمل؟". لكن ولأنها كانت عملية، وكنت قد بدأت للتو حياتي المهنية، اعتقدت بأنني لست في المكان الذي يخولني أن اختلف معها بشكل صريح، وعوضاً عن ذلك كنت أعيد توجيه كل الرسائل الإلكترونية التي كانت ترسلها لي إلى أحد زملائي، أشكو فيها من اتخاذ ليلى لقرارات سيئة، وعدم اكتراثها بالمشاكل التي كنا نعاني منها، وكذلك اقتراحاتها السلبية والعدوانية غالباً التي حاولنا التعامل معها بعدة طرق.
في يوم من الأيام وعوضاً عن الضغط على زر إعادة توجيه الرسالة الإلكترونية، ضغطت على رز "الرد"، معتقدة بأنني أشكو لزميلي، إلا أنني كنت أرسل رسالة مباشرة لها أتحدث فيها عن تسببها في حدوث ألم كبير لي بتصرفاتها تلك.
وبعد 15 ثانية فقط من الضغط على زر إرسال الرسالة، أدركت بأنني قمت بالرد على رسالتها وليس إعادة توجيهها إلى أحد زملائي، واعتقدت على الفور بأنني سأفصل من العمل.
ثم فكرت بوجوب تدارك الأمر، فذهبت إلى مكتب المدير لأشرح له ما حدث، وتفاجئت بأن المدير عوضاً عن تهديدي ومطالبتي بترك العمل، قال وبكل بساطة: "اعتذري لها". لم يكن مكتب ليلى يبعد عن مقر عملنا سوى أمتاراً قليلة في منطقة ميدتاون بمنهاتن في نيويورك، وكان مديري قد اقترح أن أتوقف عند متجر الزهور لأخذ باقة معي، وحتى أكون صادقة، وفي لحظة فكرت ملياً هل الفصل من العمل أفضل من مواجهتها بما فعلت؟ إلا أنني أدركت بأن مديري كان على صواب في طلب الاعتذار لها. وعندما دخلت إلى مكتبها بباقة كبيرة من الورود، فضحكت..! وحتى أنصفها قالت لي: "إن هذا الأمر يحدث، وأنها تفضل أن نختلف معها في المرة المقبلة". ثم قلت لها: "إنني جئت إليها لنتحدث في هذا الأمرً"، ولكنني ما زلت أيقن أن نصيحة ليلى كانت مفيدة جداً لي.
من هذا المنطلق يمكنني القول بأن الطريقة التي تصرفتُ بها مع العميلة ليلى كانت بسبب نقص خبرتي، ولكن بعد ذلك بسنوات، ما لاحظته في الأبحاث والمقابلات التي أجريتها حول الخلافات في العمل، هو أن معظم الناس لا يرغبون في إبداء الاختلاف أو لا يعلمون كيفية إبدائه. كما أننا اعتدنا على أن نساوي بين نقول بأننا: "نرى الأمور من منظور مختلف" أو "لا نوافق على هذا الأمر" والتصريح بذلك بغضب وقسوة وفظاظة، وهذا ما يجعلنا غير مرتاحين بشكل كبير.
وحتى أكون منصفة، فإنّ الاتفاق مع شخص آخر غالباً ما يكون أسهل من مواجهته أو مخالفته في الرأي على المدى القصر، كما أن الإيماءة بالموافقة على أمر ما بالقول: "أرى الأمر بنفس الطريقة بالضبط"، يعطي شعوراً بالرضا لدى الشخص الآخر. لربما كانت هذه الطريقة هي التي كنت أرغب من ليلى أن تنتهجها معي، وعوضاً عن قبول الأمر من منظور آخر مختلف عني، لذلك فقد وصفتها بأنها شخصية "صعبة". كان ذلك خطأً، ليس فقط لأنني أحرجت نفسي، فمن خلال التفكير بهذه الطريقة فقدت علاقة عمل كان يمكن أن تكون مثمرة، وتخيلوا معي مدى نجاح المشروع إن خالفت ليلى باحترام وبشكل صريح!
ربما تحلم بالعمل في بيئة مثالية مسالمة، إلا أن ذلك لا يبدو أمراً جيداً لك أو لعملك أو لشركتك، إذ تعد الخلافات أمراً صحياً وطبيعياً ومحتوماً في تعاملاتنا مع الأشخاص، ولا توجد بيئة عمل تخلو من الخلافات. وعندما تتم إدارةالخلافات بشكل جيد، يمكن أن تكون لها نتائج إيجابية عديدة نذكر بعضها فيما يلي:
نتائج عمل أفضل. عندما تدفع أنت وزملاؤك في العمل بعضكم بعضاً للسؤال بشكل مستمر عن أفضل نهج يمكن اتباعه، فإن هذا الاحتكاك الإبداعي سيؤدي إلى ابتكار حلول جديدة. وفي هذا الصدد، فإن ليان دايفي (Liane Davey) مساعد مؤسس شركة "3 سي أو زد إي" أو(3COze Inc.) ومؤلفة كتاب "أنت أولاً: ألهم فريق عملك حتى ينمو ويستمر وينهي أعماله" (You First: Inspire Your Team to Grow Up, Get Along, and Get Stuff Done) تقول: " يسمح الخلاف لفريق العمل بالتعامل مع المواقف الصعبة، وتوليف وجهات نظر متنوعة، والتأكد من أن الحلول مدروسة بشكل جيد". وتضيف ليان قائلة: "لا يبدو الصراخ لطيفاً، لكنه مصدر للابتكار الحقيقي، ويلعب دوراً حاسماً في تحديد المخاطر وتخفيف حدتها". لذلك لا يمكن تحديد قيمة معينة يمكن الحصول عليها من الاختلاف، فإذا كنت أنت وزميلك تتجادلان حول أفضل طريقة ممكنة لإطلاق مبادرة جديدة، يرغب هو أن يطلقها بسوق واحدة أولاً، بينما ترغب أنت في أن تدخل بها في عدة أسواق بنفس التوقيت". ففي هذا الحالة ستضطران لدراسة إيجابيات وسلبيات كل طريقة للحصول على أفضل الحلول.
فرص للنمو والتعلم. بالرغم من أنك ربما تشعر بأن الأمر يبدو مزعجاً عندما يختلف شخص ما مع أفكارك، إلا أن ذلك يشكل فرصة للتعلم. فمن خلال الاستماع ودمج النتائج تكتسب الخبرة، وتحاول القيام بأشياء جديدة، وتتطور كمدير.
وعندما يؤنبك زميلك لأنك لم تعط فريقه الأفضلية التي كانوا يستحقونها لما قاموا به من عمل أثناء عرض تقديمي مهم، فربما يزعجك كلامه، إلا أن هذا الأمر سيجعلك تفكر ملياً قبل التحضير لأي حديث مقبل، وبالتالي ستهتم بوجهات نظر الجميع.
علاقات متطورة. من خلال العمل معاً في بيئة بها خلافات، ستشعر بأنك أقرب للأشخاص المحيطين بك، وتتفهم اهتماماتهم وما يفضلونه في العمل، وهذا سيمكنك أيضاً من تسجيل ملاحظة هامة وهي: "إنه من الممكن أن تدخل في خلاف "جيد" ثم تتجاوزه. تعرف ابنتي البالغة من العمر 10 أعوام هذا الأمر بشكل فطري. ففي يوم من الأيام بعد عودتها من منزل صديقتها المقربة بعد حضور حفل عيد ميلاد في منزلها، سألتها: كيف كانت ليلتك؟ فأجابت: "كانت ليلة رائعة.. كنا نتشاجر طوال الوقت". قلت لها كيف يمكن لحفلة مليئة بالمشاجرة أن تكون رائعة وممتعة؟ قالت: "لأننا نسينا الأمر وتجاوزناه معاً، والآن نحن أفضل صديقتين".
رضا أكبر عن العمل. عندما لا تقلق من الاختلاف في قضايا العمل بشكل بناء، ستشعر بسعادة أكبر عند الذهاب للمكتب، وتستمتع بالتفاعلات مع زملائك، وتشعر بالرضا بما تحققه. فعوضاً عن الشعور بأنك كمن يمشي على قشر البيض من شدة القلق، يمكنك التركيز على إنجاز مهامك في العمل. وتدعم الأبحاث ما نقوله. ففي دراسة أجريت على الموظفين الصينيين والأميركيين في الصين، أثبتت النتائج أن هناك علاقة بين سعادة هؤلاء في العمل وبين استخدامهم أساليب مختلفة في إدارةالخلافات في العمل، وذلك في الحالات الثلاث التالية: أولاً، عندما يكون الموظفون في حالة تركيز على أمر مربح لكل الأطراف، وثانياً عندما يهتمون بالآخرين، وثالثاً عندما يكون هناك تركيز من الجميع على الاهتمامات المشتركة.
بيئة عمل شمولية. إن رغبت في أن تحصل على تنوع وشمولية أكبر في شركتك، عليك أن تكون مستعداً لمواجهة الخلافات. وفي هذا الصدد كتبت كل من: أنيسا باركر وكارمن ميدينا وإليزابيث شيل مقالة نشرت في مجلة روتمان لإدارة الأعمال (Rotman Management) ما يلي: "بالرغم من أن المجموعات المتجانسة في العمل أكثر ثقة في أدائها، إلا أن المجموعات المتنوعة غالباً ما تكون أكثر نجاحاً في إنجاز المهام". وأردفت الكاتبات في المقالة بالقول بأن المدراء والموظفين عليهم أن يتخلصوا من "الرغبة الغريزية لتجنب الخلافات"، وأن يتخلوا عن "فكرة الإجماع غاية بحد ذاتها". فالفرق المتنوعة لا يجب أن تحول الخلافات الجوهرية فيما بينها إلى أمور شخصية، فالأفكار إما أن تكون ذات فائدة وتساعد على التواصل بين الموظفين أو لا".
أتفق مع هذه الفكرة، لا سيما عند الحديث عن نقطة ذكرتها المؤلفات الثلاث وهي: أنّ المدراء عليهم التزام بخلق خلافات لمساعدة فرق العمل على أن يكونوا أكثر ابتكاراً وإنتاجية. لكن وبكل بساطة علينا أن نتعلم ثقافة الاختلاف، وعلى المدراء أن يأخذوا على عاتقهم مسؤولية جعل الخلافات مريحة، من خلال تشجيع الموظفين على إبداء وجهات نظرهم المختلفة ومناقشة الأمور والتعبير عن آرائهم الحقيقية.
فإن كنت من الأشخاص الذين ينفرون من الخلافات في العمل، يمكنني القول بأنك قد تغير نهجك عند قراءة هذا المقال. وأنا أحمل لك خبراً ساراً وهو أنه يمكنك أن تشعر براحة أكبر من الخلافات في العمل. وهنا أذكر لكم بعضاً من الطرق التي يمكنها أن تساعدك في البدء بهذا النهج:
تخلى عن مفهوم الحاجة إلى أن تكون محبوباً
معظم الأشخاص يرغبون في أن يكونوا محبوبين، وهذا أمر طبيعي. يقول جول غارفينكل مدرب تنفيذي ومؤلف كتاب: "المحادثات الصعبة" (Difficult Conversations) : "بالرغم من الأمر يبدو طبيعياً في أن يرغب الشخص أن يكون محبوباً، إلا أن هذا الأمر لا يبدو الأكثر أهمية". ويضيف: "عوضاً عن التركيز على محاولة زيادة مستوى محبتك أمام الآخرين، ركز على كسب الاحترام ونيله". فحتى إن كان موضوع الاختلاف صعباً يمكن أن تكون المحادثة مفيدة وداعمة، ولذلك عليك باحترام وجهات نظر الآخرين وتوقع أن يحترموا وجهة نظرك. ويقول غارفينكل في هذا الصدد: "إن استطعت تطبيق هذا الأمر ستشعر بالارتياح، لأن الاحترام أهم من الشعور بأن تكون محبوباً". ويضيف أيضاً: "في هذه الحالة عليك أن تبين لفريقك بأنك لا تمانع الاختلاف، كما شجعهم على التصريح بأفكارهم". (وجب التنويه بأنه وبحسب ما كشفته نتائج الدراسة، فإن قيام النساء بتطبيق لهذا النصيحة قد يكون لها نتائج خادعة).
ركز على الصورة الكبيرة
الاختلافات تكون صعبة عندما نفكر بها على إنها صفعات شخصية، وهناك فرق بينها وبين الخلافات في العمل غالباً ما تبدأ كخلافات حول العمليات أو الأهداف. وتقترح إيمي جين سو وهي شريك إداري في شركة "بارفيس بارتنرز" (Paravis Partners)، وشاركت في تأليف كتاب "امتلك الغرفة"(Own the Room) ، أن نركز على أشياء أخرى عوضاً عن الضرر الذي يمكن أن يسببه الاختلاف في العلاقة.
وتشدد سو، على التفكير في احتياجات العمل، ولماذا من المهم أن يكون هناك خلاف في وجهات النظر، وكيف يمكن أن تساعد هذه الاختلافات الشركة أو الفريق أو المشروع الذي تعمل عليه؟ وبحسب سو، إذا رغب الأشخاص في أن يكونوا محبوبين فتلك حاجة شخصية؛ أما يحاول إيجاد أفضل الأمور للعمل أو للفريق فهذا له أبعاد أخرى بعيدة عن الأنانية الذاتية.
لا تساوي بين الاختلاف والقسوة
عندما أتحدث إلى أشخاص يقلقون من اختلافات العمل، اسألهم دوماً: لماذا تترددون في إبداء وجهات نظركم المختلفة؟ وترجع معظم إجاباتهم لسببين هما: "لا أرغب في جرح مشاعر الآخرين"، و"لا أرغب في أن أكون أحمقاً". نعم بالتأكيد هناك أشخاص لا يرغبون بالدخول في خلاف مع (مدراء غير مأمونين، على سبيل المثال)، إلا أن الكثيرين منفتحين لسماح وجهات النظر المختلفة إذا ما تمت مشاركتها بشكل مدروس وباحترام.
ومن المهم أن تسأل نفسك: "هل حقاً هناك خطر بأنك ستجرح مشاعر زميلك أو أنه سيفكر بأنك شخص أحمق أو أنك تسقط انزعاجاك عليه فقط؟
اعثر على قدوة واحتذي به
هناك دائماً احتمال بوجود شخص في حياتك، قريبك أو صديقك أو زميلك مثلاً، يبلي بلاء حسناً في عمله، حيث يكون صادقاً ومباشراً في أفكاره وآرائه من دون إثارة القلاقل. راقب هذا الشخص، وشاهد ما يفعله، واحتذ به. لقد أخبرتني إحدى زميلاتي مؤخراً أنها عندما تكون في حالة متوترة، تدعي إنها ممثلة تتمتع بمهارة التعامل مع اللحظات المزعجة. وقالت إن إتباع هذه الطريقة سمح لها بمراقبة سلوكها من بعيد، بدلاً من تتخبط في مستنقع مشاعرها في تلك اللحظة. وهذا الأمر ينطبق تماماً على الاستراتيجية التي تنصح باستخدامها هيرمينيا إيبارا، من كلية لندن للأعمال، وهي تقول: "إن كنت لا تتقن أمراً فتظاهر بأنك تتقنه حتى تتعلمه فعلاً"، فإن لم تكن جيداً بما فيه الكفاية في التعامل مع المحادثات المتوترة، حاول أن تتقمص شخصية آخر يتقن ذلك. وأياً كان التكتيك الذي قررت تجربته، تمرن عليه شيئاً فشيئاً، وكن مباشراً في المحادثات منخفضة المخاطر، ثم راقب ما يحدث. هناك احتمال أن يسير الأمر بأفضل مما تتوقعه. وإن حدث العكس، يمكنك التعلم من الموقف وتجربة الأمر مرة أخرى.
عن نفسي يمكنني القول بأنني تعلمت ثقافة الاعتراض عن طريق إرسال بريد إلكتروني بالخطأ إلى ليلى، فأحياناً ربما يكون الاختلاف هو بالضبط ما يريده الشخص منك أن تفعله، طالما كان يتم ذلك بتعاطف واحترام.