النزاهة! إنها واحدة من تلك الصفات التي تربطنا بها نحن البشر علاقة تجمع بين الحب والكراهية في آن واحد على ما يبدو. إذ لا يمكننا التعايش معها، ولكن لا نستطيع العيش من دونها أيضاً. فما أهمية النزاهة في حياتنا؟ كيف نضمن غرس القيم السليمة في أبناء جيل المستقبل حتى لا نفاجأ في قادم الأيام بظهور أفكار أو مؤسسات على غرار كامبريدج أناليتيكا أو بوينغ أو شركة بلو ويل أو ليمان براذرز (Lehman Brothers) التي هزت فضائحها العالم من أقصاه إلى أقصاه؟
في عصر السرعة الفائقة وانتشار تقنية إنترنت الأشياء والبيانات الضخمة والشخصيات التي كنا نحسبها قدوة يحتذى بها فإذا بها نماذج شائنة - مثل مارك زوكربيرغ الذي يرى أنه لا بأس بأن تكون منعدم الأخلاق ما دمت تلتزم بالقانون، فالنزاهة ليست مهمة فحسب بل ربما كانت حيوية لبقاء الجنس البشري.
ومع ذلك، فهي واحدة من تلك الأشياء التي نغفلها في معظم الأحيان، لأنها تضيع في خضم المتاهة الكبرى لسباق الفئران المسمى الحياة.
يبدأ الأمر في الصغر. تخيل طفلاً يستعد للذهاب إلى المدرسة، فيمسك والده الهاتف ويدعي المرض كمبرر للبقاء في المنزل ومشاهدة مباراة فريقه المفضل على التلفزيون، كما يختلق الكثيرون أعذاراً واهية في الغالب لمغادرة العمل. فما الخطأ في ذلك السلوك، إذن؟ بصرف النظر عن حقيقة أن الأب قد كذب للتو على صاحب العمل، فقد أثبت لطفله أنه لا بأس بالكذب.
إن تعليم الطفل في الصغر هو سبيلنا إلى غرس القيم السليمة من أجل مستقبل واعد. وهنا تلعب النزاهة الأكاديمية دورها الحاسم، حيث يجري التعريف بقيم النزاهة الأكاديمية وتمثيلها وغرسها في الطلاب في المنازل والفصول الدراسية والصالات الرياضية وغرف الخزانات والممرات والملاعب والمكتبات والمختبرات. لكن المسألة ليست بهذه السهولة. إذ لا تزال فضيحة قبول الطلاب في الولايات المتحدة في وقت سابق من هذا العام، أو فضيحة "مايماستر" التي تسببت في فوضى عارمة في 16 جامعة أسترالية عام 2015 أو حتى تلك التي هزت جامعة هارفارد في عام 2012 حيث اتهم 125 طالباً بالمشاركة في الغش، وكلها حالات تقدم شواهد على مدى سهولة انحراف الطلاب وأولياء الأمور والمعلمين والإداريين، وحتى الإدارة عن الطريق القويم لاكتساب المعرفة من أجل تحسين مهارات الفرد والنهوض بالأمة، والغرق في وحل الثقافة التعليمية السطحية للرأسمالية المادية من أجل نيل درجة تعليمية أو قطعة من الورق قد تجلب أو لا تجلب مكانة مزيفة. أثبتت الأبحاث التي أُجريت بواسطة الأستاذ دونالد ماكابي، مؤسس المركز الدولي للنزاهة الأكاديمية في الولايات المتحدة، أن الطلاب يغشون سواء في الامتحانات من خلال انتحال تقييماتهم أو شرائها والإبلاغ الذاتي عند سؤالهم عن الغش بمعدل يتراوح ما بين 40 إلى 60%. ولا تختلف الأرقام من قارة لأخرى إلا بنسب ضئيلة لأنها مشكلة عالمية.
وُجّه قدر كبير من الاهتمام في السنوات الأخيرة إلى نوع واحد من الغش، يسمى الغش الأكاديمي التعاقدي (Contract Cheating) والذي يعرف بحصول الطلاب على تقييمات أصلية من طرف ثالث، غالباً مقابل ثمن. قد يكون هذا الطرف الثالث شركة أو صديقاً أو طالباً سابقاً أو حتى أحد أفراد الأسرة. وقد نُحت المصطلح بواسطة الدكتور توماس لانكستر في عام 2006، لكنه لم يُوضع تحت المجهر إلا بعد فضيحة مايماستر 2015 في أستراليا. مع انتشار المواقع الإلكترونية وسهولة التجارة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت مهمة التحقق من مصادر الأعمال المشتراة تنطوي على قدر من الصعوبة. وقد أسفرت جهود الأكاديميين والمتخصصين وعدد من الشخصيات الرفيعة التي تدعو إلى حظر الغش الأكاديمي عن حظر طاحونة المقالات هذه أو اعتزام حظرها في كلّ من أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأميركية (17 ولاية) وإيرلندا.
الإمارات العربية المتحدة والتعليم
تعتبر دولة الإمارات إحدى الوجهات المفضلة لطلاب التعليم العالي. فوفقاً لـ "بوسطن كونسلتينغ جروب"، من المتوقع أن ينمو سوق التعليم في الإمارات ليصل إلى 7.1 مليار دولار بحلول عام 2023، مسجلاً ارتفاعاً ملحوظاً مقارنة بحجم السوق التي لم تكن تتجاوز 4.4 مليار دولار في عام 2017. ومع وجود أكثر من 70 مؤسسة معتمدة تضم مئات الطلاب من مختلف الثقافات وأنظمة التعليم، حدثت تغيّرات استراتيجية تشمل كثافة استخدام التكنولوجية وتدريب المعلمين وشهاداتهم ووضع معايير جديدة للاعتماد، وما إلى ذلك؛ بحيث سارت الدولة في سبيلها إلى الوفاء بالأجندة الوطنية وفقاً لرؤية 2021، وهي "تطوير نظام تعليمي من الدرجة الأولى، الأمر الذي يتطلب إدخال تغيير جذري على نظام التعليم الحالي وأساليب التدريس".
النزاهة الأكاديمية في الإمارات
إذا كان التعليم هو حجر الأساس للنمو الاقتصادي، فإن النزاهة الأكاديمية هي صلب العملية التعليمية، ما يحتم على جميع الهيئات والمؤسسات الحاكمة الاهتمام بها. في سياق متصل يعتبر الغش الطلابي قضية عالمية. فأينما وُجد طلاب، ظهرت حالات مسجلة للغش الطلابي. وقد توصلت من خلال دراساتي في الماضي إلى وجود حالات غش طلابي مُبلَغ عنها ذاتياً بنسب تتراوح ما بين 60 إلى 70% في مختلف المؤسسات التعليمية في دولة الإمارات. وفي العامين الماضيين تركز الانتباه أيضاً إلى تدقيق حالات الغش الأكاديمي في الدولة، حيث تطارد الإعلانات طلابنا قادمة من أقصى أطراف العالم من دول مثل أفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأقصى بعروض أبحاث ومشاريع تخرج "مثالي" و"عائد سريع للأعمال المكتملة" و"مهام مضمونة خالية من الانتحال" وغير ذلك الكثير. كل ذلك مقابل أقل من 30 درهماً إماراتياً – وما يتراوح بين 5,000 إلى 20,000 درهم، اعتماداً على جودة الخدمة والوقت المحدد، وما إلى ذلك. أجريت مؤخراً دراسة تجريبية لمجموعة تمثيلية لطلاب التعليم العالي، سلطت الضوء على 38% من الطلاب يعرفون طلاباً آخرين لجأوا إلى البحث عن طرف ثالث لكتابة أبحاث واختبارات نيابة عنهم، وإن كان هذا الرقم لا يتجاوز 7-15% من الحالات المبلغ عنها ذاتياً على الصعيد العالمي.
إذا كان طلابنا يقدمون أعمالاً استعانوا فيها بمصادر "خارجية" وحصلوا من خلالها على شهادات التخرج، فهل لشهاداتهم تلك قيمة تذكر؟ ومن ثم هل يتخرجون في مؤسسات تمنحهم "مهارات" تلائم قطاعات العمل؟
لكن الطلاب لا يكتفون بالاستعانة بمصادر خارجية للاختبارات والأبحاث الفردية. ففي العام الماضي تم اكتشاف أكثر من 140 درجة علمية مزيفة ضُبطت من قبل السلطات الإماراتية. على الرغم من الدرجات الأجنبية، يبقى السؤال الملح، ما مدى موثوقية الدرجة العلمية وما المؤهلات التي تعد بها؟
في حين تقوم السلطات باتخاذ إجراءات صارمة ضد حاملي الشهادات المزيفة والشركات التي تبيعها، لم يُبذل سوى القليل من الجهود أو لم يبذل أي جهد يذكر على نحو ما جرى مع الإعلانات التي تروج لهذا الغش. حتى لو كانت هناك جهود مبذولة، فكلها إجراءات وتدابير تفاعلية في لعبة القط والفأر، بحيث إذا نشب صراع بين توم وجيري، فقلما يكسب الفأر المعركة!
ثمة سؤال محوري يطرحه نفسه في هذا الصدد، وهو - ما الذي يدفع طلابنا إلى شراء هذه التقييمات والأبحاث في الأساس؟
تعد دولة الإمارات مركز جذب للشركات الناشئة، خاصة الشركات الرقمية، ما يجعلها "وجهة لريادة الأعمال في المنطقة"، وفقاً لما ذكره الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي. لقد حافظت الإمارات على مكانتها الرائدة في تشجيع الشركات الناشئة الرقمية، وجذبت بما يعادل 32% تقريباً من المستثمرين في المنطقة، وما يقرب من 300 شركة ناشئة في عام 2017. كما سلط تقرير صدر في عام 2018 الضوء على التجارة الإلكترونية كقطاع سريع النمو لاستثمارات الشركات الناشئة، والذي يُتوقع أن يحقق مبيعات إلكترونية بقيمة 10 مليارات دولار في الإمارات بحلول عام 2021، وهو رقم يعادل أربعة أمثال الرقم الذي حققته البلاد في عام 2015. قد تكون سهولة إنشاء منصات للتجارة الإلكترونية ومزاياها بمثابة دعوة لاستقطاب ما أطلق عليهم "طواحين الأبحاث" إلى المنطقة، مستهدفة طلاب التعليم العالي كعملاء لها.
ومع ذلك، فإن الصدمة الحقيقية هي أن عمل مجموعات طواحين الأبحاث (ونجاحها كعمل تجاري) يعني حصولها على رخصة اجتماعية من عملائها بمزاولة أنشطتها، وهو ما يعني بدوره أن العمل الذي تؤديه قد حظي بالقبول من عملائها المستهدفين، وإلا تكبدت أعمالها خسائر جسيمة. قد يفسر تطبيق الرخصة الاجتماعية لمزاولة الأنشطة على قضية الغش الأكاديمي كيف أدت الضغوط التي مارستها الأوساط الأكاديمية والأطراف المعنية إلى قيام نيوزيلندا وأيرلندا وسبع عشرة ولاية في الولايات المتحدة بحظر طواحين الأبحاث في السنوات الأخيرة. إذن، لماذا يواصل طلاب التعليم العالي استخدام طواحين الأبحاث في الإمارات؟
اعتبر المشاركون في الدراسة التجريبية أن ضعف الحماس وسوء إدارة الوقت والتسويف، هي الأسباب الأساسية وراء قيام الطلاب بالبحث عن طرق بديلة لإنجاز تقييماتهم، مع الإشارة إلى البريد الإلكتروني والإعلانات ووسائل التواصل الاجتماعي وحتى الفعاليات الطلابية باعتبارها طرقاً للتواصل معهم. كما أوضحت أيضاً في أحد المقالات مؤخراً الدور الهدام للمدارس وأولياء الأمور في غرس رسالة في طلابنا الصغار، بحيث تبيح لهم توسيع نطاق رخصتهم الاجتماعية لطواحين الأبحاث مع تقدمهم في السن. كيف ذلك؟ إذا كُلّف الطفل الصغير بمشروع محدد مع توقع ضمني أن يقوم أحد الوالدين أو ولي أمره أو أحد البالغين بإكمال هذا المشروع نيابة عنهم وسُمح للطفل بعدئذ بتقديم مشروعه كعمل خاص به أمام زملائه، فهذا يعني ضمنياً أن النظام التعليمي يعلّم الطفل أن ينسب الفضل لنفسه في عمل أداه عنه شخص آخر، وأن يطلب من الغير القيام بعمله بالنيابة عنه، وأن يفاخر بالنتيجة ويدعي ملكيته لنتيجة هذا العمل!
اقرأ أيضاً: كيف أتغلب على التسويف؟
هل من وسيلة للنجاة من هذا المستنقع؟
الصورة ليست بهذه القتامة. فقد كشفت دراسة أجريت مؤخراً في الإمارات حول استخدام "حملات التوعية" لرفع مستوى وعي الطلاب بالغش الأكاديمي وفهمهم له بوصفه نوعاً من الاحتيال الأكاديمي وسوء السلوك عن تسليط الضوء على قصة نجاح. فنتيجة لجهود حملات التوعية على مدى ثلاث سنوات، سجلت الدراسة قفزة نوعية بارتفاع نسبة المشاركين الذين يعتبرون أن الغش الأكاديمي نوعاً من سوء السلوك من صفر إلى حوالي 80%.
من جانب آخر أثبتت دراسة مستفيضة أجريت على طلاب الجامعات أن هناك عدداً من الطرق لتشجيع طلابنا على المبادرة بإلغاء رخصتهم الاجتماعية التي تبيح لهذه الشركات مزاولة أنشطتها:
- يلعب المعلمون دوراً مهماً في ردع الطلاب عن ارتكاب سوء السلوك. فمن خلال بناء علاقة تقوم على الثقة المتبادلة مع الطلاب في الفصل والعمل الجاد لإعداد تقييمات تختبر المهارات والمعرفة المناسبة لدى الطلاب بدقة، والالتزام بالشفافية والاتساق في رسالتهم التعليمية، يمكن إقناع الطلاب بقبول رسائلهم حول النزاهة.
- تمثل قواعد المؤسسة وسياساتها وإجراءاتها عنصراً محورياً لغرس قيم النزاهة في نفوس الطلاب. إذ لا يكفي مجرد إرساء سياسة لا يؤمن بها أي شخص في المؤسسة، بل يجب إظهار القيم بوضوح بدايةً من الإدارة العليا وصولاً إلى الموظفين وأعضاء هيئة التدريس، إذا أردنا إقناع الطلاب بقبولها.
- يعتبر أولياء الأمور وجهات العمل (الضغوط الخارجية) عنصراً ضرورياً لضمان عدم التركيز على الدرجات، بل على الكفاءة والمهارات والمعرفة وتجربة التعلم الشاملة التي يجب أن يكتسبها الطلاب في أثناء الحصول على درجة علمية.
خلاصة القول
لا توجد حبوب سحرية لمنع الغش الطلابي، وهو ليس مشكلة جديدة على أي حال؛ فهو موجود منذ أجيال. وعلى الرغم من أن بعض أشكال الغش الطلابي كالغش الأكاديمي التعاقدي قد تكون أكثر شراسة في ظل الجيل الرابع من الثورة الصناعية، فإن هذا لا يعني فقدان كل الأمل وتركه يعيث في العملية التعليمية فساداً. إذ تقع على عاتقنا مسؤولية ضمان غرس ثقافة النزاهة في نفوس طلابنا بحيث نقضي على حاجتهم للغش. ويتعين علينا كلنا بوصفنا أطرافاً معنية بهذه القضية أن نبدأ أولاً بالاعتراف بالمشكلة ثم إظهار قيم النزاهة الأكاديمية – من إنصاف وجدارة بالثقة وصدق وأمانة وشجاعة واحترام وتحمل المسؤولية، بحيث لا نضطر في المستقبل إلى التعامل مع قادة وساسة ومسؤولين وصناع قرار يمارسون الكذب أو الغش أو السرقة أو الاختلاس أو ما هو أسوأ.
أليس كذلك؟