تحتاج الشركات إلى اكتشاف الإنهاك الوظيفي الذي يصيب فريق العمل وسببه إن أرادت العمل على علاجه. ولأجل ذلك تجري مؤسسات عديدة استطلاعات رأي (استقصاءات) في محاولة للحصول على أي معلومات مفيدة في هذا الصدد. لكن العيوب الخطيرة المتأصلة في تصميم تلك الاستقصاءات غالباً ما تتسبب في نتائج سيئة، لينتهي المطاف بالقادة ذوي النوايا الحسنة بإضاعة الوقت والطاقة والموارد على أمور خاطئة، وذلك لامتلاكهم خارطة طريق غير دقيقة لمكمن المشكلة. فعلى سبيل المثال، قد يسألون الأشخاص عما إذا كان العمل الزائد يمثل مشكلة، ثم يحاولون تقليل العبء عنهم، في الوقت الذي تكون فيه المشكلة الحقيقية نفسية.
والورقة العلمية في مجلة "السلوك المهني" تُعرِّف الإنهاك الشديد على أنه "رد فعل تجاه إجهاد مهني مزمن"، ويتميز بالإرهاق النفسي والتشاؤم و"الافتقار إلى الفاعلية المهنية (أي ميل المرء إلى تقييم عمله سلبياً)". ومن ثم، يتألف الإجهاد من عدد من الأمور مجتمعة. لكن الباحثين وجدوا أنه عندما تحاول إزالة جميع تلك الأمور سينتفي الإنهاك الشديد لدى الموظف من ناحية، ومن ناحية أخرى تزداد أيضاً احتمالية مشاركته.
اقرأ أيضاً: ساعد فريقك على إنجاز المزيد دون أن يصاب بالإنهاك
ويتفق هذا بالتأكيد مع تجربتي الاستشارية. فمن خلال عملي مع مئات الشركات، لاحظت أن في إمكان المدراء التغلّب على الإنهاك الشديد لموظفيهم من خلال تعزيز مشاركتهم. بمعنى آخر، مساعدة الموظفين على الشعور بأنهم أكثر ارتباطاً والتزاماً تجاه المؤسسة، وأكثر حماساً تجاه العمل الذي يقومون به. ويتضمن هذا معالجة التحديات التي تُصعّب على الأشخاص أداءهم لوظائفهم، مثل قلة الدعم من المدراء، وانعدام الثقة في الزملاء، والعمل اليومي الذي لا يتماشى مع قيم الموظف وأهدافه الخاصة.
أسباب فشل اكتشاف الإنهاك الوظيفي
غير أن المشكلة هنا تكمن في أنه حتى في الشركات التي تحاول الرجوع خطوة للوراء وتقييم الاندماج الوظيفي كعامل أساسي، غالباً ما تواجه الاستقصاءات عقبات نفسية تؤدي إلى انحراف النتائج عن مسارها نتيجةً لأمرين رئيسين هما:
التحيّز الناتج عن الرغبة الاجتماعية:
عندما يُطلب من الموظفين إكمال دراسة استقصائية، يمكن للتحيّز الناتج عن الرغبة الاجتماعية التأثير على إجابتهم إلى حد بعيد. بعبارة أخرى، يرغبون في إظهار صورة إيجابية عن أنفسهم ليستمروا في إثارة انطباع جيد لدى رؤسائهم. ومن ثم، يصبح الاستطلاع تمريناً في "تشكيل انطباع الآخرين عنهم" بدلاً من أن يكون أداةً للتغيير. ويفعل المشاركون هذا لرغبتهم في عدم ذكر أن لديهم مشكلة شخصية، أو أنهم غير قادرين على مواجهة متطلبات عملهم. بل إنه عندما تجري جهات خارجية تلك الدراسات الاستقصائية في مكان العمل، وهذا يحدث في غالب الأحيان، وجدت دراسات عديدة أن إخفاء الهوية لا يمحو تماماً التحيّز الناتج عن الرغبة الاجتماعية. ويرجع هذا جزئياً إلى عدم رغبة الناس في رؤية أنفسهم بمنظور سلبي.
ومن الأرجح أن يجيب الموظف بكلمة "لا" في معرض استجابته لعبارة على غرار "أشعر بالإرهاق"، أو "أشعر بإنهاك شديد"، بدلاً من قول "نعم". ويرجع السبب في ذلك إلى تركيز تلك العبارة عليه وعلى مشاعره بدل تركيزها على كيفية تنظيم المؤسسة أو العمل. ومن الأفضل هنا طلب تعليقه على عبارة مثل: "بشكل عام، أعتقد أن عبء عملي معقول فيما يخصني". وبهذه الطريقة، يقوم الموظف بتقييم الشركة أو الدور، وليس تقييم نفسه.
اقرأ أيضاً: كيف يتفادى المدراء إنهاك موظفيهم؟
وبطريقة مشابهة، وجدت بدوري أن العبارات التي تبدأ بـ "نحن" ذات قابلية لأن تكون أكثر فاعلية من تلك البادئة بـ "أنا". فعلى سبيل المثال، قد تطلب من موظف تقييم دقة هذه العبارة: "يتم تشجيعنا على أن نكون مبتكرين على الرغم من احتمالية عدم نجاح بعض مبادراتنا". فمن خلال الإشارة إلى "مبادراتنا" بدلاً من "مبادراتي"، يمكنك إزالة الحكم على الفرد من المعادلة، واستخلاص صراحة أكبر.
تحيُّز الرضوخ:
أما العقبة النفسية الأخرى، تحيز الرضوخ، فهي الميل إلى الموافقة على ما تطرحه بيانات الاستطلاعات كرد فعل افتراضي في الحالات التي تكون فيها معرفتنا محدودة أو الإجابة التي نريدها غير موجودة ضمن الخيارات المتوفرة.
لِننظر إلى هذا المثال: تسأل بعض المؤسسات الأشخاص عما إذا كان المسؤولون التنفيذيون يمثلون قدوة رائعة للموظفين. لكن العديد من الموظفين ليس لديهم وصول كافٍ إلى الفريق التنفيذي لتشكيل حكم دقيق. وإذا لم يُدرَج خيار مثل هذا في الاستطلاع، فقد يختار الأشخاص الذين يشعرون بهذه الطريقة ببساطة "موافق" أو "لا موافق ولا معارض". ولن يقدّم لك ذلك أي فكرة حول نماذج القدوة في المؤسسة.
وبالإضافة إلى ما سبق، ثمّة أمران آخران يجب تقصيهما خلال عملية تصميم استطلاع بيئة العمل:
الأسئلة التي تتضمن عبارات غير مترابطة:
والتي ألاحظها في أغلب الأحيان. وهي عبارات تضم عنصرين لا رابط وثيق بينهما، على غرار: "أنا متحمس لأقدّم أفضل ما لدي في العمل، ونحن جيدون في مساءلة الأشخاص". إنهما أمران منفصلان تماماً ولا يعتمد أحدهما على الآخر. ومن ثم، يجب أن نطلب من الناس الرد على عبارتين مستقلتين من قبيل: "أنا متحمس لأقدّم أفضل ما لدي في هذه المؤسسة"، و"نحن نُحمِّل أنفسنا وأعضاء فريقنا المسؤولية عن النتائج".
الغموض:
تكون الأسئلة في بعض الأحيان مربكة للغاية بسبب أنها غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، قد يسأل الاستبيان "هل لديك صديق مقرّب في العمل؟" في محاولة لمعرفة ما إذا كان الموظف سعيداً في عمله. لكن هذا السؤال يمكن أن يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين، فمن الممكن أن يعني أننا نسأل الموظف عما إذا كان قد اختار شخصاً ما ليكون "صديقاً مقرّباً له في العمل"، أو ما إذا كان صديقه المقرب له هو أيضاً زميل في العمل. كما يمكن أن يكون لبعض الأشخاص أيضاً صديق أو اثنان "مُقرَّبان"، في حين أن لدى البعض الآخر العشرات أو أكثر. ولن تعطي الإجابة المدراء أي معلومات واضحة أو مفيدة. ففي نهاية المطاف، يمكن أن يكون لديك صديق مقرّب في العمل وتبقى غير مشارك في العمل، وتشعر بالإنهاك الشديد فيه.
اقرأ أيضاً: كيف تكون عطوفاً مع الآخرين من أجل تجنب الإنهاك؟
وتشمل مصادر الغموض الأخرى النفي المزدوج الذي يجعل الناس غير متأكدين من ماهية السؤال، على غرار ("لا أشعر أن شركتي لا تنجح في توفير الموارد الكافية التي تُمكنني من القيام بعملي")، كما تشمل أيضاً أنظمة التصنيف ذات الاتجاهين المتعارضين (وفيها "5" مثلاً تعني شيئاً إيجابياً، ثم شيئاً سلبياً).
ويمكن للمؤسسات الحصول على نتائج أكثر دقة، وتحديد المشكلات المناسبة لإصلاحها، من خلال معالجة هذه العيوب في تصميم الاستطلاعات، وطرح الأسئلة التي تمنح الموظفين الحرية والوضوح والأمان النفسي اللازم لهم ليكونوا صادقين تماماً. ولكن حتى بعد القيام بكل ما سبق، ثمة أمر مهم آخر يجب الانتباه له: فعلى أمل جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات، تجعل بعض الشركات المشاركة في الاستطلاعات حول الاندماج الوظيفي إلزامية، أو تقدم حوافز للمشاركة، وهو أمرٌ أعارضهُ بدوري.
اشرح للموظفين أهمية إجاباتهم عند محاولة اكتشاف الإنهاك الوظيفي، ثم راقب ما سيحدث. فإذا كانت المشاركة منخفضة في أحد الأقسام ومرتفعة في قسم آخر، فربما يكون ذلك علامة على أن بعض أقسام الشركة تندمج بفاعلية، في حين تفتقد أقسام أخرى ذلك الاندماج. ويعتبر اختيار الموظف أن يشارك، أو يمتنع عن المشاركة، في حد ذاته جزءاً مهماً من عملية تلقي الملاحظات.
اقرأ أيضاً: عندما تتعاون الفرق لمحاربة الإنهاك