ثمة شك محق في أنّ ادعاء الصدق والأصالة في عالم الأعمال يُعد نوعاً من الكلام الرخيص على الأغلب من قبل أي منافس. ما السبب الذي يكمن وراء استخدام مثل هذه الافتتاحيات إذاً؟ يعود ذلك إلى أن الكلفة ليست منخفضة فحسب، بل معدومة، فيما الفائدة المرجوة محدودة؛ جرب حظك ولتأمل أن تجد من يُصدق زعمك. إن التحدي الذي يواجه باعة بعض المنتجات الأصلية على موقع إيباي (eBay) - والمشترين الساعين لها - هو إثبات أنهم لا يتفوهون بكلمات جوفاء.
هنا تأتي إعلانات المباريات. إذ إنّ ثمن فترات البث خلال المباراة مرتفع بشكل هائل. فلِمَ تهتم الشركات بشرائها؟
تأتي الصياغة التقليدية لهذه الفكرة من أطروحة مايكل سبينس للدكتوراه، المنشورة عام 1973، والتي ساعدته في الحصول على جائزة نوبل عام 2001. لم تركّز الأطروحة على الإعلانات، بل على مدى براعة الطريقة التي يُعبّر بها العاملون عن ذكائهم وموثوقيتهم.
حسب تعبير سبينس، يلعب الحظ دورا في توظيف العاملين، فقد تحصل على عامل منتج يعمل بجد، أو على عامل غير كفؤ يتهرّب من واجبه. ثمة عدد من الخطوات التي يمكن لأرباب العمل وينبغي لهم اتخاذها للتقليل من عامل الحظ في اتخاذ خيار التوظيف. قد يأخذون بعين الاعتبار، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، ما إذا كان المتقدم طويلاً أم قصيراً، ذكراً أم أنثى. وقد يقوم مسؤولو التوظيف، بالاستناد إلى خبرات سابقة أو نماذج نمطية قد شكلوها، بالحكم على ما سيكون العامل عليه عندما يأتي إلى العمل. وبصرف النظر عما إذا كان ذلك قانونياً أو أخلاقياً (أو حتى صحيحاً)، فنحن نحكم على الأشخاص بالاستناد إلى كل أنواع الصفات الشخصية التي تولد معهم.
ثم هناك الخيارات التي نقوم بها أثناء تقديم أنفسنا إلى رب عمل محتمل: طويلاً كنت أم قصيراً، ذكراً أم أنثى، سيتوجب عليك أن تقرر ما إذا كنت ستقوم بارتداء بدلة رسمية أم بنطال جينز، أو أن تأتي إلى المقابلة حليق الذقن أم مهلهل المظهر. يمكنك أن تختار أن تضع في سيرتك الذاتية درجاتك الجامعية، وتلمح إلى أنك خريج إحدى أعرق الجامعات، أو أن تتجنب ذكر أي معلومة عن تعليمك.
يمكنك أن تعكس الكثير من الحالات التي ليست في الواقع بخيارات: جامعة هارفارد هي التي تقوم باختيارك لا أنت الذي تختارها. ذلك صحيح نوعاً ما. ولكن فكر في الأمر على الشكل التالي: بالنسبة لبعض المتقدمين فإن كلفة إضافة اعتماد أو تصديق إلى سيرتهم الذاتية أو طريقة تقديم أنفسهم بطريقة معينة في مقابلة العمل أعلى مما هي عليه بالنسبة لغيرهم. وتُعد "كلفة" القبول في جامعة هارفارد بالنسبة لكثيرين والصمود فيها حتى التخرج أعلى من نطاق الممكن إلى حد ما. أما بالنسبة للمرشحين الذين يمتلكون الصفات الشخصية الصحيحة كالدافع والاجتهاد والذكاء، قد لا يكون من الصعب عليهم التقدم إلى هارفارد ودخولها والإبحار من دون صعوبة تُذكر عبر مختلف التحديات التي قد يُلقيها المنهاج الأكاديمي في وجههم.
بحسب نموذج سبينس، فإن الميزات التي تجعل الحصول على شهادة من هارفارد أمراً سهلاً نسبياً هي الصفات الشخصية ذاتها التي تجعل من المرء موظفاً منتجاً. وفي تلك الحالة، قد يعني ذلك أن الشركات ستبلي حسناً إن قامت بتوظيف خريجي قسم الرياضيات في هارفارد، حتى وإن لم يتعلّم أي منهم أي شيء ذو قيمة عملية فيها، أو حتى الرياضيات. إذ على العكس من ادعاء الذكاء أمام مسؤول التوظيف، فإنّ شهادة الرياضيات من هارفارد ليست بالشيء الذي يمكن للمتقدمين الأقل قدرة أن يُقلّدوه أو يرغبوه، لأن الكلفة مرتفعة للغاية. إنها "إشارة" في لغة الاقتصاد.
بتجريده لمكوناته الأساسية، فإن نموذج سبينس للإشارة يتطلب وجود رابط بين الصفات المرغوبة ولكن الخفيّة، وكلفة القيام بالأمر. يمكن لذلك الأمر أن يكون أي شيء، طالما عرف الجميع أنه رخيص الثمن للذكي والفاضل، ومرتفع الثمن بالنسبة للآخرين.
أما بالنسبة للشركات، تتمثل إحدى طرق إرسال إشارة الالتزام طويل الأمد في تحويل مدخرات الشركة إلى عملة صعبة، احملها إلى الشارع، وأنفقها. وحدها الشركات التي تنوي القيام بتداول مكرر للأعمال مع الكثير من الزبائن ستكون مستعدة للدفع مقدماً بهذه الكلفة المرتفعة "لإحراق المال".
لئن كنا لا نرى العديد من الشركات التي تقوم بهدر المال، يُعزى ذلك بحسب عدد من الخبراء الاقتصاديين إلى قيامهم بذلك بطريقة أخرى - أكثر مصداقية وعلانية - من خلال الإعلانات. في مقال كلاسيكي عن دور الإعلانات في هدر المال بعنوان، "السعر وإشارات الإعلان لجودة المنتج" (“Price and Advertising Signals of Product Quality,) يصف الخبيران الاقتصاديان بول ميلغروم وجون روبرتس إعلاناً لعام 1983 يطلق مشروب صودا الحمية بالقول: "صالة حفلات موسيقية ملأى بالحضور، صف طويل من المغنين، وعدد ملفت للنظر من المشاهير مرتفعي الكلفة تحوم الكاميرا حولهم، وإعلان بسيط أن صودا الحمية هي السبب في هذا التجمع".
كما أنهم يعطون مثالاً آخر أكثر حرفية حول طريقة استخدام الإعلان كطريقة تدمير عبثية وذلك في إعلان يعود لعام 1984 لسيارة فورد رانجر (Ford Ranger) "يظهر إلقاء تلك السيارات من الطيارات (متبوعة بنصف دزينة من المظليين)، أو تُدفع من حافة الهاوية". في كلتا الحالتين، لا يُمثل الإعلان إلا مبالغة عبثية وهدراً متعمّداً للمال.
يلاحظ ميلغروم وروبرتس، من خلال تأكيد تحليلهما لإعلانات إطلاق المنتجات كفعل لإهدار المال أن "هذه الإعلانات تحمل القليل من المعلومات أو لا معلومات على الإطلاق عدا عن أن المنتج المعني موجود. ولكن إن كانت هذه هي الرسالة المقصودة، فإن هذه الإعلانات تبدو وسيلة مكلفة بشكل مفرط لإيصال هذه المعلومة. وتتمثل الرسالة الأكثر وضوحاً التي تحملها هذه الإعلانات في الواقع في "إنفاقنا لمبالغ فلكية على هذه الإعلانات". إن التدمير المسرف للقيمة هو الإشارة الوحيدة التي لا يمكن تقليدها من قبل من لا يملك ما يكفي من المال لإهداره.
يمكن للإشارة أن تُنتج حوافز عكسية تدفع أولئك الذين لا يملكون الصفات الخفية لتزويرها. وقد يُفسر ذلك السبب الذي دفع 19 شركة إنترنت ناشئة عام 2000 إلى إنفاق الملايين على شراء أوقات إعلانية في المباريات. إنه لمن الدال أيضاً أن نعلم أن ثمان من هذه الشركات الـ 19- بما فيها شركة بتس دوت كوم (pets.com) الشهيرة - قد اختفت تماماً. ومن المفارقات أن محاولتهم الإشارة إلى أنهم يمتلكون مصادر مالية وافرة وعروض جودة تُمكّنهم من النجاة في اقتصاد الإنترنت، حيث يحظى الفائز بكل شيء، لربما تكون قد أدّت إلى إفلاسهم. قد يظن المرء لوهلة أن معدل إخفاق مرتفع كهذا سيمنع تكرار الأمر، إلا أن الظاهرة ما زالت مستمرة: خلال إحدى المباريات في عام 2015، أنفقت شركات ناشئة مثل ويكس.كوم (Wix.com): وهي الشركة التي تساعد المستخدمين في إنشاء مواقع الإنترنت الخاصة بهم، وشركة لوكتيت (Loctite) المصنعة للغراء مبلغ 4.5 مليون دولار أميركي لكل منهما لشراء مساحة إعلانية مدتها 30 ثانية. أما في العام 2017 فقد ارتفع السعر ليبلغ 5 ملايين دولار أميركي.
تفيد نظرية الإشارة في فهم ما تريد أن تُظهِره للجميع - بما فيهم الخصوم وأرباب العمل المختلفين - بأنك قد ألقيت كل ما في جعبتك وباق للأبد. لكن من الأصعب أن تقوم بابتكار إشارتك الخاصة لتُظهِر بعضاً من صفاتك الخفية والقيمة في آن واحد. ولكن حتى لو امتلكت من الإبداع ما يُمكّنك من ابتكار إشارة قوية، كإشارة شركة فورد في إهدار المال على شراء إعلان، لا بدّ لك من امتلاك زبائن أذكياء بما يكفي ليفهموا ما تحاول قوله من خلال إلقائك بحفنة من السيارات إلى الهاوية.