كان القرن العشرون، على حد تعبير بيتر دراكر، الذي عاصر تلك الفترة، "عصر المنظمات والمؤسسات"، إذ كان دراكر يرى أنها تُشكل "العمود الفقري" للمجتمع والاقتصاد بعدما لاحظ تنامي عدد الشركات هائلة الحجم والمعقدة. ونتيجة لذلك، أدرك أهمية دور المدراء باعتبارهم حجر الأساس في إنجاح بنى الأعمال القانونية والاقتصادية والاجتماعية والبشرية الجديدة. كما لاحظ أيضاً أنه عندما تفشل المستشفيات والمؤسسات التعليمية والهيئات الحكومية والشركات في أداء مهامها كما ينبغي، يصاب المجتمع كله بالشلل. وبالتالي، شدد على دور الإدارة وأهميته لكل من الشركات والمجتمع، حيث نظر إلى الإدارة، انطلاقاً مما سبق، على أنها "تقنية اجتماعية"؛ بمعنى آخر، إنها مجموعة قوية من الأدوات التي تزيد من إنتاجية الجهود البشرية.
وكانت الرأسمالية في القرن العشرين تحاول جاهدةً تعظيم الكفاءة واقتصاديات الحجم الكبير في جميع المجالات من خلال توظيف قوة الهياكل التنظيمية وعمليات العمل القابلة للتوسع في القطاعين العام والخاص، والتي كانت واضحة بطرق مثيرة للرعب والإعجاب. وكان الجانب السلبي لذلك متمثلاً في حربين عالميتين استخدمت فيهما أسلحة الدمار الشامل والإبادة الجماعية، لكن ظهر لاحقاً بعد الحرب الجانب الإيجابي بشكل واضح وجلي، من خلال النظام الاقتصادي الاجتماعي الجديد الذي عزز الرخاء البشري بشدة، وإن لم يكن بشكل متساو، حول العالم. لقد كان نموذج إدارة الكفاءة في القرن العشرين ناجحاً للغاية ويحقق تقدماً غير مسبوق.
أما اليوم فنواجه منعطفاً مصيرياً جديداً في مسار التقدم البشري؛ فبينما تطورت قدراتنا الفكرية والاجتماعية والأخلاقية ببطء وتراكمت على مر آلاف السنين، تطورت قدراتنا التقنية بشكل سريع وهائل، حيث باتت قضايا مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات وتعلم الآلة والهندسة الوراثية وغيرها من التطورات المذهلة تتحُفنا الآن بأسئلة غير مسبوقة وتملأنا بمخاوف جديدة. وفي الوقت نفسه، تفرض علينا رؤيتنا لكوكب الأرض ككيان واحد مواجهة التهديدات التي تشمل نطاق الكوكب بأكمله على غرار الاكتظاظ السكاني والتفاوتات الهائلة في فرص الحياة في مختلف القارات، وصولاً إلى تغير المناخ والصدامات الثقافية الناتجة عن العولمة والهجرة الجماعية.
إنه قرن يستخدم فيه مصطلح "العاصفة العارمة" بكثافة. والعاصفة العارمة، لمن لا يعرف، هي دوامة تتألف من عناصر قوية تتصادم فيما بينها لإنتاج آثار لا يمكن التنبؤ بها. وتعاني الإدارة التقليدية حالياً من الشلل والارتباك بسبب التفاعل الناتج من تلك التحديات. ويمثّل التركيز الشديد على تقنيات الإدارة في مثل هذه الأوقات بداية الإخفاق في القيادة، وفقاً لأدريان وولدريدج من مجلة "ذي إيكونومست"، والذي ألقى ذلك التحذير في "منتدى دراكر" (Drucker Forum)، الذي انعقد العام الماضي في فيينا. وذكَر دراكر بدوره أن الإدارة والقيادة "ليستا الأمر نفسه"، حيث لخص في حديثه الشهير الاختلاف في أن الإدارة هي "إنجاز الأمور بشكل صحيح"، أما القيادة فهي "إنجاز الأمور الصحيحة". والخطأ الأسوأ للإدارة، كما يقول، يتمثل في إنجازها المثالي والكفؤ لما لا يجب إنجازه. ويتمثل عمل القيادة في تحديد الاتجاه الواجب على المؤسسة اتباعه، واتخاذ القرارات الصعبة مع النظر للظروف المحيطة. أما القادة، والذين يؤكدون على الهدف والقيم، فعليهم التركيز على الرؤية الشاملة للمؤسسة بدلاً من الخوض في دقائق عملها.
وتزداد تلك النظرة أهمية مع التقدم التقني الكبير الذي حققته البشرية، إذ لا يمكن مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين من منظور فني، تماماً كما لا يمكن مواجهتها بقوائم التحقق من الامتثال وإصدار الشهادات والقوانين المرهقة؛ بل عبر نظرة أعمق وأوسع وأشمل للعالم بأسره، وهذه يستطيع القادة ذوي الرؤية الثاقبة والبصيرة بلورتها. ولا يوجد طرق مختصرة لامتلاك المعرفة المتعددة التخصصات والقدرة على الحكم والحكمة، فضلاً عن أنه يستحيل على أي آلة فعل ذلك.
وفي انتقالنا إلى ذلك العالم الجديد الآخذ في الظهور، يجب علينا بالتأكيد أخذ العبر من كبار المفكرين والمرشدين في الماضي. ونحن، بدورنا، محظوظون في فيينا لوجود عدد كبير من هؤلاء المفكرين العظماء فيها، ممن كانت لديهم صلة بهذا المكان وتقاليده الثقافية والاقتصادية. فلدينا الاقتصادي جوزيف شومبيتر الذي صاغ فهمنا للرأسمالية النابضة بالحياة على أساس روح المبادرة والابتكار، وفريدريك حايك الذي قدم لنا نظرة عميقة حيال الحرية وقوة الأسواق التنافسية، أما كارل بوبر فأعطانا النظرة الثاقبة تجاه ما يعنيه مجتمع مفتوح بالفعل وأين حدوده، بينما أظهر كارل بولاني مخاطر الأسواق الجامحة والحاجة إلى استمرار دور الدولة في خلق مجتمع عادل. ربما يمكننا القول إن دراكر جمع هذه الخيوط معاً وعلّم العالم كيفية ترجمة النية الطيبة إلى أداء فعلي في قوله: "إن النجاح ليس إنجاز الأشياء على نحو صحيح، بل إنجاز الأشياء الصحيحة.
وليس بإمكان هؤلاء المفكرين العظماء تزويدنا بإجابات محددة في عالم يتسم بالتغيير الشديد، حيث يتعين علينا إيجاد الإجابات بأنفسنا إذا أردنا إجابات محددة مفيدة لنا، لكن يمكنهم تزويدنا بالإلهام والنظرة الثاقبة، ويمكننا الارتكاز على ما قدموه لاستشراف المزيد، واكتشاف طرق لتشكيل مجتمع الغد. ويذكرنا ما قالوه بأهمية العودة إلى العقل وتجنب الوقوع مرة أخرى في المعارك القبلية والمواقف الأيديولوجية، والتبسيطات الضحلة للأجندات الشعبوية من أقصى اليمين وأقصى اليسار في الطيف السياسي.
لقد أدى ظهور المؤسسات هائلة الحجم إلى بزوغ الحاجة إلى كل من الإدارة والقيادة واللتين يجب عليهما أن تتطورا بدورهما كماً ونوعاً. وعلينا أيضاً إدراك أن القيادة والإدارة صنوان لا يفترقان حتى مع محاولتنا التمييز بينهما. وبينما يركز القادة العظماء أكثر على ما يجب القيام به، فإنهم يدركون أيضاً بدورهم مقدار الجهد المطلوب "لفعل الأشياء بشكل صحيح" من أجل تهيئة الظروف وحشد الموارد لجعل عمل المؤسسة مثمراً. ومع ذلك، ينبغي لنا أن ندرك أن القيادة، وليس المواهب الإدارية، هي المورد الذي سنعاني كثيراً في محاولة إيجاده في القرن الحادي والعشرين.
ونعود من جديد إلى الحديث عن الخصائص الفريدة للبشر. فإذا كان القرن العشرين هو "قرن الإدارة"، فإن القرن الواحد والعشرين يجب أن يكون هو "قرن القيادة". نحن بحاجة إلى قادة أكثر قدرة على إطلاق العنان للأصالة والإبداع البشري، وتحرير الإمكانات البشرية التي هي "المورد الطبيعي" الأكثر أهمية على هذا الكوكب.