ينصح ويليام أوسلر، الذي يُطلق عليه والد الطب الحديث تلاميذه قائلاً: اصغِ إلى مريضك جيّداً، لأنه سوف يُخبرك بالتشخيص. لكن بعد قرن من الزمان، بدأ الأطباء وقادة النظام الصحي في تجاهل صوت المريض والتركيز على السجلات الصحية الإلكترونية وأحدث بروتوكولات الرعاية لإدارة مرضاهم الأكثر تعقيداً والأكثر عوزاً، ونعتقد أن الوقت قد حان لإعادة ضبط نهج الرعاية بشكل عاجل واستراتيجي. إن العوامل التي أسفرت عن جعل الحفاظ على صحة مواطني أمتنا مكلفة بالغة التعقيد، إلا أن هؤلاء المواطنين يطالبون بأبسط نوع من التدخل، ألا وهو الإصغاء.
ووفقاً للأكاديمية الوطنية للطب (NAM) "عادة ما يكون الأفراد الأكثر عوزاً هم كبار السن والإناث وذوي البشرة البيضاء والأقل تعليماً. ومن المرجح أن يكون هؤلاء الأفراد مشمولين ضمن خدمات التأمين، ووضعهم الصحي سيئ إلى حد ما، وعرضة لمواجهة حالات من عدم التنسيق داخل نظام الرعاية الصحية". ويُشكل هؤلاء الأفراد 5% فقط من المرضى بشكل عام، إلا أنهم يتسببون فيما يقرب من نصف الإنفاق على الرعاية الصحية في الولايات المتحدة. ركّزنا، على مدار السنوات القليلة الماضية، على تطوير جيل جديد من الخدمات السريرية للمرضى الأكثر عوزاً في مستشفى "ماونت سيناي" (Mount Sinai) الصحي، وذلك من خلال الاعتماد على الاستراتيجيات التي وضعها روّاد آخرون في جميع أنحاء البلاد، مسترشدين بالتوصيات الواردة في تقرير الأكاديمية الوطنية للطب الذي صدر حديثاً تحت عنوان "الرعاية الفاعلة للمرضى الأكثر عوزاً" (وقدّم أحدنا، وهو الدكتور سينغ، المساعدة في إعداد التقرير).
ونورد فيما يلي الدروس الثلاثة التي تعلمناها:
اصغِ إلى مرضاك. قد تقود الحلول التي تُساعد الأطباء في إنقاذ الأرواح إلى أخطاء جسيمة في بعض الأحيان. وقد قدّم جيروم جروبمان، في كتابه الرائد الذي يحمل عنوان "كيف يفكر الأطباء" How Doctors Think أمثلة مروعة على التشخيص الخاطئ والعواقب السلبية الأخرى للإحجام عن الإصغاء إلى المرضى. وفي إحدى الحالات، أخفق طبيب غرفة الطوارئ في إدراك أن المريض أصيب بنوبة قلبية حادة لأنه بدا بصحة جيدة ولم يُبدِ أي عوامل خطر نموذجية، رغم أن المريض أخبر الأطباء أنه يعاني من آلام حادة في الصدر.
ومن المعترف به على نطاق واسع أن كتاب جروبمان يمثّل دعوة واضحة للأطباء للإصغاء إلى مرضاهم بعمق وجعلهم مشاركين فاعلين في رعاية أنفسهم. ومن الضروري تطبيق هذا المفهوم ذاته على تصميم النظم الصحية ونماذج الرعاية.
وعندما بدأنا بالتخطيط لخدمة سريرية جديدة للمرضى الأكثر عوزاً في مستشفى "ماونت سيناي" تُدعى "ذروة الصحة"، تمثّلت الخطوة الأولى لفريق الرعاية في إنشاء مجموعة استشارية تتكون من المرضى، وذلك بعد أن تكرّرت مطالب المرضى في الحاجة إلى التعامل مع وجوه مألوفة في فريق الرعاية حتى يتسنى لهم بناء علاقات دائمة معهم، بدلاً من التعامل "مع مختلف الأطباء المتخصصين الذين يصفون لهم أدوية مختلفة". وأخذنا هذه الملاحظات على محمل الجد، وغيّرنا نموذج التوظيف الخاص بنا، من نموذج يعتمد على الأطباء والموظفين غير المتفرغين الذين قد يرون المرضى في "أيام محددة فقط"، إلى نموذج يعتمد على أطباء وموظفين متفرغين ومتفانين وملتزمين بمعرفة مرضى العيادة كلهم. وقد قال أحد مرضانا الحاليين مؤخراً "بمجرد أن يتعرّف الطبيب عليك، يحفظ وضعك الصحي عن ظهر قلب ويتأكد دائماً من أنك تسير في الاتجاه الصحيح".
لقد أسفر نهج بناء العلاقات هذا عن صافي نقاط ترويج بلغت أكثر من 85 درجة، وهي نتيجة أعلى بكثير من المعايير الخاصة بالرعاية الصحية، جنباً إلى جنب مع المؤشرات المبكرة لتحسين الالتزام بخطط العلاج وتخفيضات في مدى تواتر توجه المرضى إلى المستشفى. وتمكنّ الفريق، عبر الإصغاء، إلى إعطاء الأولوية لعناصر مهمة في تصميم الخدمة السريرية كانوا قد تجاهلوها. وبناءً على تجربتنا المبكرة، تعاونت رئيسة الأطباء ستيلا سافو، ومصمم الخدمات التفاعلية برونو سيلفا لبناء أداة مشاركة آنية للمريض نعمل على تكرارها في بيئات أخرى.
الإصغاء إلى المؤسسات الأخرى. يُشير تقرير "الأكاديمية الوطنية للطب" إلى أن رعاية المرضى الأكثر عوزاً تتجاوز مداواة أمراضهم البدنية إلى تقديم الخدمات السلوكية والاجتماعية التي يحتاجون إليها في الأحياء التي يعيشون فيها. وقد يبدو هذا النهج منطقياً من الناحية النظرية، لكن كيف يمكننا التعامل مع هذه الاحتياجات الواسعة في الممارسة العملية؟ أوضحنا في تصميم برنامجنا ضرورة زيارة المؤسسات المثالية بما فيها "أوك ستريت هيلث" Oak Street Health و "كير مور هيلث سيستم" CareMore Health System و"أيورا هيلث" Iora Health لمعرفة كيفية تعامل هذه المؤسسات مع هذا التحدي.
فقد طلبتْ هذه المؤسسات من فرق الرعاية الخاصة بها تحويل عقليتها من التركيز على "المريض الماثل أمامهم" إلى "الأشخاص الذين يعتمدون عليهم". وقد نتج عن هذا النهج نماذج تشغيلية مصمّمة لإدارة المرضى على مدار الساعة بدلاً من إجراء زيارات متفرقة لهم. وأعادت الفرق تصميم مهام عملها لدعم هذا النموذج، وطوّرت أدوات بسيطة لتركيز وقت الفريق على المرضى الذين يحتاجون إليهم أكثر من غيرهم.
على سبيل المثال، تستخدم شركة "أيورا هيلث" نظام "درجة القلق" لتحديد المرضى الذين يعتقد أي شخص في الفريق أنهم يحتاجون إلى مزيد من الاهتمام. ويُصنّف النظام المرضى على مقياس من 1 إلى 10 بناءً على بيانات تعديل المخاطر وعوامل الخطر، مثل تواتر أوقات دخول المستشفى وأي تغييرات ذات صلة في حياة المرضى التي يكتشفها أحد أعضاء فريق الرعاية من خلال إجراء محادثات معهم.
وتبنّينا الطرق المتّبعة في هذه المؤسسات بهدف تطوير نماذج جديدة للمرضى الأكثر عوزاً وتنفيذها. ونستخدم اليوم نظاماً مشابهاً لنظام "درجة القلق" في خدمتنا السريرية الخاصة ببرنامج ذروة الصحة، إذ يقضي الفريق بأكمله مزيداً من الوقت في التركيز على المرضى الذين يحتاجون إلى أكبر قدر من الاهتمام في أي يوم معين، بدلاً من التركيز على المرضى الذين حضروا إلى العيادة في ذلك اليوم فقط. ويوجد لدينا بيانات أولية توضح أن تطبيق ما تعلمناه من المؤسسات الأقران الأفضل أداءً أسفر عن رعاية أفضل وتكاليف أقل وتواصل أكبر بين المريض ومقدم الرعاية.
أصغِ إلى الزملاء. للاستفادة من خبرة نظام "ماونت سيناي" (Mount Sinai) الصحي، قامت ناتالي برايفت، وهي زميلة تمتلك خلفية هندسية صناعية بإنشاء شبكة تعليمية تدعى شبكة تحويل الرعاية الإسعافية (ACT) على مدار العام الماضي. فحدّدت الناشطين في النظام الذين يُدركون أن نظام الأجر مقابل الخدمات التقليدي يُعيق قدرتهم على تطوير نماذج رعاية جديدة، وأوضحتْ الحاجة إلى مسار عمل يدعم الرعاية الاستباقية بدلاً من الرعاية التفاعلية، وإلى ضرورة قيام فرق الرعاية بتضمين مزيد من العمال غير المختصين في مجال الرعاية الصحية.
وعندما بدأتْ شبكة تحويل الرعاية الإسعافية عملها، سواء على الإنترنت أو وجهاً لوجه، اكتشف الأعضاء وجود موضوعات مألوفة واندماجها في أثناء تحويل البرامج السريرية، مثل التركيز على الثقافة في عملية التعيين والتدريب، واستخدام أعضاء فريق رعاية غير تقليديين لدمج الصحة السلوكية، ونشر خدمات الرعاية المنزلية بشكل إبداعي. في حين قد يكون اتباع مسار مختلف أكثر صعوبة، بمعنى محاولة تنفيذ نماذج الرعاية القياسية من الأعلى إلى الأسفل، بدلاً من السماح بتطويرها من الأسفل إلى الأعلى عبر شبكة تعليمية.
ومن الواضح أن المرضى سوف يستفيدون من عمل الباحثين وخبراء التكنولوجيا الذين يركزون على التقنيات المستندة إلى البيانات لتحسين الرعاية في نظام الرعاية الصحية سريع التطور. ومع ذلك، تُعتبر الرؤى الثاقبة والاستراتيجيات السريرية التي قد تولّدها هذه التقنيات مفيدة للغاية عندما تُدمج في الرعاية السريرية من قبل مقدمي الرعاية الذين يصغون بعناية لمرضاهم وزملائهم والمؤسسات المثالية من حولهم.