في عام 1968 قام فريق "أوهايو ستيت باكايز" بسنّ أحد أكثر التقاليد شهرة وشعبية في عالم كرة القدم الأميركية. ووفق الحكاية التي يتناقلها الناس عن الفريق، قام أحد أعضاء طاقم التدريب باقتراح فكرة لتحميس اللاعبين، وهي أن يقوم المدربون بعد كل مباراة بمكافأة أفضل اللاعبين من خلال وضع بطاقة لاصقة تمثل أوراق نبتة الباكاي المشهورة في أوهايو على الخوذ التي يعتمرونها. ورأى المدربون أنّ مكافأة الأداء الفردي للنجوم تمثل الحافز الضروري لتحقيق المزيد من التميز. وتمكن الفريق في ذلك العام من الفوز بالبطولة الوطنية لكرة القدم، وبعدها بدأت فرق كرة القدم الأُخرى بتقليد الباكايز فيما يخص مكافأة اللاعبين على تميزهم.
لكن في عام 2001 تراجع أداء فريق الباكايز بعد فترة من السيطرة والإنجازات. وحين عُيّن تيم تريسل مدرباً للفريق قرر إعادة النظر في الطريقة التي يحصل بها اللاعبون على شارة الباكاي اللاصقة. فعوضاً عن مكافأة لاعب لإحرازه هدفاً في المباراة، قرر المدرب أن يحصل كل لاعب في خط الهجوم على شارة إن أحرز الفريق أكثر من 24 نقطة. وكان طاقم التدريب يمنح كل لاعب في الفريق تلك الشارة اللاصقة بعد كل فوز. وكان للاحتفاء بالعمل الجماعي وتثمينه أثر فوري تقريباً على الأداء، فالفريق لم يعد للفوز بالبطولة الوطنية في العام التالي وحسب، بل استمر فريق كواحد من أكثر الفرق نجاحاً منذ ذلك الحين، وليس بعيداً أن يفوزوا بالبطولة مجدداً هذا العام.
صحيح أنّ القادة يهتمون بتحقيق النجاح على المستوى الجماعي، لكن معظم المؤسسات، سواء كانت فرقاً رياضية أو جامعات أو شركات عالمية، ما تزال تركز على مكافأة الأداء الفردي. فغالبية الشركات في قائمة "فورتشن 500" تُكافئ الأفراد الأكثر إنتاجية، ولا تفعل ذلك مع أكثر فرق العمل فعالية مثلاً أو أعضاء الفريق الذين لا يمكن الاستغناء عنهم. ونحن نرى أنّ القادة في هذه المؤسسات يُغفلون أمراً أساسياً في الطبيعة البشريّة، وهو النزعة القبليّة، أو حس الانتماء لجماعة ما.
لقد تطور البشر في جماعات، وما يزال معظم الناس يعملون في مجموعات كل يوم، وانتماؤنا للمجموعة هو أمر غريزي في تشكيلنا البيولوجي الأساسي. ولا شكّ أنّ الإنسان يتميز عن بقية الرئيسيات بكونه مستعداً للتعاون مع الأفراد داخل كل مجموعة، حتى لو كانوا غير معروفين إليه. ولعل هذا هو السبب الذي يدفع الجماهير الرياضية إلى الملاعب، حيث يشعر كل واحد منهم بأنه يشترك برسالة واحدة مع 100 ألف من المشجعين الآخرين الغرباء عنه تماماً. بل والأمر الأكثر عجباً هو أنّ الأبحاث التي أجريناها في مختبراتنا وجدت أنّ وظيفة وسلوك الدماغ تتأثر بشكل كبير بمجرد انضمام الإنسان إلى مجموعة ما. ففي طرفة عين تجد أنّ الشخص قادر على إقامة صداقة مع الآخرين في الفريق والثقة بهم. كما أظهرت أبحاثنا أنّ تشكيل فرق يمتزج فيها أفراد من أعراق مختلفة كفيلة بالتخلص من التحيز العرقي الكامن. وهكذا يكون الانتماء إلى مجموعة من أهم العناصر الكفيلة بتحقيق التضامن بين مجموعة من الأغراب.
ولأنّ الانتماء إلى مجموعة أمر متجذّر في الطبيعة البشرية وضرورة أساسية للنجاح في المؤسسات، فلا بد أن تكون إدارة هويات المجموعة من العناصر الأساسية للقيادة الناجحة. ويمكن القول باختصار: "القادة المتميزين هم "روّاد الهوّيات"، وذلك لأنهم يدركون تلك النزعة القبلية في الآخرين ويسعون لتشكيل هوية أفراد المجموعة. وهذه العلاقة الاجتماعية بين القادة والموظفين هي أمر جوهري في قيادة التحول".
فحين يبدأ الشخص الشعور بانتمائه لمجموعة ما، يتسبب ذلك بنقلة أساسية في أهدافه. فالوقائع والقرارات التي كان يقيمها في الماضي وفق تأثيرها عليه شخصياً (ماذا سأستفيد من الأمر؟) صارت تقيم الآن وفق تأثيرها على المجموعة (ما الذي سيعنيه هذا لنا؟). وتُظهر الأبحاث في واقع الأمر أنّه حتى الأشخاص الأنانيون يُصبحون متعاونين، بل وحتى يُظهرون الإيثار حين يشعرون بالانتماء لمجموعة. فعندما تُصبح الذات منصهرة مع المجموعة، سيمتلك هؤلاء الأشخاص الحافز لتحقيق ما يرونه أهدافاً للمجموعة.
إلى جانب ذلك، تستطيع هوية المجموعة أن تفسر بعض السلوكيات التي تُثير الانتباه، سواء كان ذلك متعلقاً بصرف ساعات عمل طويلة في الشركة وصولاً إلى تضحية الإنسان بنفسه فداء لوطنه. فقد أظهرت العديد من التجارب اليوم أنّ أعضاء المجموعة سيتصرفون بما يُحقق النفع للمجموعات، حتى لو كان فعل ذلك يتضمن تكلفة تترتب عليهم شخصياً. وأحد أسباب ذلك هو شعور الفرد بأنّه جزء من النجاح والمكافآت التي تتحقق على مستوى أعضاء المجموعة، إذ نبتهج بالنجاح الذي حققوه ويسرّنا أن يتلقوا المكافآت والتقدير. وهكذا فإنّ من الأمور الأساسية لقيادة المجموعات هو تعزز بيئة تتيح لأعضاء الفريق امتلاك حس الانتماء العميق لفريقهم. وبوسع القائد من أجل تعزيز هوية قوية في المجموعة أن يتبع الخطوات الآتية:
1- التركيز على الاحتياجات الاجتماعية للموظفين
عادة ما تعتمد المؤسسات على المكافآت المالية لتحفيز الموظفين، لكن القائد المتميز لا ينسى أن يهتم بالاحتياجات الاجتماعية للموظفين. فالمجموعات تحقق واحداً أو أكثر من احتياجات الإنسان النفسية الأساسية، كالحاجة إلى الانتماء، وامتلاك المكانة، والشعور بالتميز، والحفاظ على الثقة أو السيطرة. ومن خلال خلق حالة من التوازن بين حاجة الأفراد للانتماء ورغبتهم في التميز سيكون القائد قادراً على بناء شعور من "التميز المثالي" بين أفراد الفريق. وعلى القادة الذين يسعون لتعزيز انتماء الأفراد للمجموعة أن يهتموا بالاحتياجات الاجتماعية الأساسية للموظفين ومعرفة كيف يمكن للمجموعة أن تحسن أداءها عند تلبية هذه الاحتياجات.
2- وضع أهداف تعاونية
تُشير دراسات حديثة في علم الأعصاب إلى أنّ التعاون بحد ذاته يبعث على الإحساس بالإنجاز والرضا، ولكن العديد من الناس لا يتعاونون إلا مع زملاء داخل مجموعة ينتمون إليها، حيث تجد في العديد من المؤسسات أنّ ولاء الموظفين يكون للقسم الذي يعملون به أو فريق المشروع الذي هم جزء منه وليس للمؤسسة بأكملها. ومع أنّ التقسيمات الداخلية تكون مفيدة في بعض الأحيان (فلا بدّ من وجود نوع من التنافس الصحي بين الأقسام لدفع الموظفين للعمل بشكل أفضل)، إلا أنّ الموظفين مُعرّضون لنسيان أهداف المؤسسة، وربما يحاول بعضهم أن يتسبب بالضرر للأقسام الأُخرى. لكن القائد صاحب الرؤية يوضح الأهداف المشتركة للمؤسسة ككل ويؤكد للموظفين أنّ تعاون جميع الأقسام والدوائر وفرق المشاريع أمر لا غنى عنه لتحقيق هذه الأهداف.
3- مكافأة الجهود الجماعية والفردية
يحتاج القادة إلى مكافأة الأنشطة التي تساعد في تحقيق أهداف المؤسسة، لا أهداف الفرد، حيث يقدم القادة المؤثرون الزيادات والتقدير والمكافآت ويُظهرون المرونة ويمنحون الفرص، وذلك بناء على أداء الفريق ككلّ. ومن أجل تجنب أن يعمل كل موظف على هواه (أي أن يتخلّى أفراد الفريق عن مسؤولياتهم الشخصية)، فإنّه من الضروري كذلك مكافأة الأفراد الذي يحققون إسهامات مهمة لنجاح الفريق. وهذه المكافآت تُمنح لأعضاء الفريق الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، وهم أولئك الجنود المجهولون الذين يعملون حتى وقت متأخر في الشركة، وينوبون عن زملائهم، ويعززون النجاح على مستوى المجموعة. إضافة إلى ذلك، يُعتبر الدمج بين المكافآت الفردية والجماعية كفيل بتعزيز هوية المجموعة وضمان تشجيع وتحفيز أفرادها (ليس مالياً وحسب بل اجتماعياً كذلك) على العمل لتحقيق أهداف الفريق والإسهام في نجاحه.
إلا أنّ تماسك المجموعة ربما يكون في بعض الأحيان عامل ضعف، فقد يتسبب في كبح الخلاف في الرأي والإبداع ويخلق نوعاً من العقلية التي تفضل التماثل وعدم الرغبة في الاختلاف. فكيف يمكن للقائد الاستفادة من إيجابيات تماسك المجموعة مع تجنب الآثار السلبية لذلك؟
4- تجنب سلبيات التوافق المطلق من خلال تقييم الاختلاف
يعتقد العديدون أنّ الذي يعبر عن اختلافه ونقده يسعى بالضرورة للإساءة إلى المجموعة، لكن أبحاثنا ترى أنّ الأفراد الملتزمين في المجموعة هم أولئك الذين يميلون أكثر للتعبير عن رأيهم بوضوح عند وجود شيء سلبي في المجموعة، وذلك لأنّهم يهتمون كثيراً لأمرها. وعليه، يستحق الخلاف البناء أن يكون موضع احتفاء وترحيب علني في المؤسسة، وذلك لتجنب ترسيخ العقلية الجمعية والقرارات السيئة. كما يحتاج القائد أن يخلق بيئة تسهل على أفراد المجموعة التعبير عن رأيهم في انتقاد الأفكار السيئة. فيمكن على سبيل المثال تعيين أفراد بعينهم في المجموعة لطرح الانتقادات والتمحيص في الأمور، وذلك للمساعدة في الوصول إلى أفضل القرارات. ولخلق هذه الثقافة التي يزدهر بها الابتكار والتقييم البناء لابد على القادة كذلك أن يشجعوا موظفيهم للسعي من أجل أهداف المؤسسة بدل الاكتفاء بالالتزام بقواعدها.
وخلاصة القول هي أنّ القادة في حاجة لفهم واستيعاب تلك النفسية القبلية لدى الآخرين، وذلك لأنّها طبيعة راسخة في العقل البشري. فالبشر مبرمجون على تصنيف العالم الاجتماعي إلى فئات، وهذا الأمر يمثل أداة بالغة الفعالية يمكن للقادة الاستفادة منها.
أخيراً، تمثل مقدرة الفرد على الشعور بالانتماء للمجموعة الأساس الذي يعتمد عليه التعاون مع الآخرين، حتى لو كانوا غرباء عنه تماماً. وهكذا فإنّ على القائد العظيم أن يكون خبيراً في التعامل مع هوية الأفراد وكيفية تشكيلها، وذلك ما ندعوه "ريادة الهويّة".