في حين استخدم أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ الأدوات الحجرية لإشعال النار والبحث عن الفرائس، جعلتنا التكنولوجيا أكثر كفاءة وفعالية فيما نفعله. لقد وفرت لنا الراحة وحسنت التواصل، ومنحتنا حياة مريحة وطويلة نسبياً.
ومع ذلك، ما زاد شيء عن حده إلا انقلب ضده. لقد عرف أرسطو هذا واقترح أنه يجب على الأفراد غرس الفضائل في المستوى الوسط بين الإفراط والتقتير بهدف تحقيق السعادة والنجاح. النوم جيد لك، لكن النوم لمدة 16 ساعة ليس كذلك. وكان بوذا أيضاً من دعاة "المذهب الوسطي". وبالمثل، يمكن أن يكون لاستخدام التكنولوجيا الذي لم يتم التحقق منه تأثير مدمر على إنتاجيتنا ورفاهيتنا.
صاغ عالم النفس الهنغاري الأميركي ميهاي تشيكسنتميهاي، الحالة الفسيولوجية "للتدفق" في عام 1975، كحالة من الانغماس العميق في مهمة واحدة، حيث يبدو أن بقية العالم قد تلاشى.
ووجدت شركة ماكنزي أنه عندما يكون المسؤولون التنفيذيون في حالة تدفق، يكونون أكثر إنتاجية بمقدار خمسة أضعاف.
ومع ذلك، يتميز مكان العمل المعتاد اليوم بمشهد وصوت إشعارات سطح المكتب والهاتف الذكي، ما يبقي المسؤولين التنفيذيين في حالة من الاستجابة المفرطة التي من شأنها أن تجعل إيفان بافلوف فخوراً، حيث قام في تجربة شهيرة بقرع جرس بشكل مباشر قبل تقديم الطعام للكلاب، وكان هدفه من ذلك تكييف الكلاب على إفراز اللعاب كلما قُرع هذا الجرس. وفي الواقع، تقرع الإشعارات الموجودة في تطبيق فيسبوك جرساً لا يختلف كثيراً عن الجرس الذي جعل كلاب بافلوف يسيل لعابها. تُضعف الإشعارات اللحظية قدرتنا على التدفق والقيام بعملنا بشكل أفضل، وتجعلنا نغادر المكتب مثقلين بشعور عدم الإنجاز الكافي. أو قد تجعلنا نغادر المكتب بشعور أننا كنا نعمل طوال اليوم ولم يكن لدينا سوى القليل من الوقت للاطلاع على هذه الإشعارات.
إن ما نطلق عليه تعدد المهام هو في الواقع تبديل المهام، لأن فكرة إيلائنا اهتماماً لأمرين في وقت واحد غير صحيحة. فقد يستغرق الأمر منا حوالي 23 دقيقة للعودة إلى المهمة الحالية بعد أن يجبرنا إشعار ما على التبديل بين المهام، وذلك وفقاً لدراسة من جامعة كاليفورنيا في إيرفين. وعندما ترى أن المسؤولين التنفيذيين العاديين يلمسون هواتفهم 2،617 مرة في اليوم، ويتحققون من رسائل البريد الإلكتروني 74 مرة في اليوم ويتلقون 46 إشعاراً على هواتفهم الذكية يومياً، فمن المحتمل ألا يمضي معظم المسؤولين التنفيذيين أي وقت في التدفق على الإطلاق.
قد يجادل البعض بقولهم: "لكن الإشعارات تمكنني من البقاء على اطلاع بالأشياء، ولا أقوم بالنقر عليها في كل مرة تظهر على أي حال". لكن حبل أفكارك سينقطع حتماً سواء كنت تتبع إشعاراً أم لا مجرد ملاحظة الإشعار ومعالجته وتحديد ما إذا كان يجب التفاعل معه أم تجاهله. وتجد التقديرات الحديثة أنه على الرغم من أن كل تبديل مهمة قد يضيع 1/10 جزء من الثانية فقط، إلا أنه قد يؤدي إلى خسارة في الإنتاجية تصل إلى 40% إذا قمت بالكثير من التبديل في اليوم الواحد. وقد يكون هذا الرقم أعلى إذا قيس على مسؤول تنفيذي يقضي عدة ساعات في اليوم في التدفق.
وماذا سيحصل إن قمت باتباع إشعار البريد الإلكتروني؟ ستقوم بفتح بريدك الوارد، والرد على هذا البريد الإلكتروني، وستلاحظ بينما تقوم بالرد وجود العديد من الرسائل الأخرى وتقوم بالرد عليها. وتكون حينئذ استمتعت بجرعة دوبامين قائمة على الإنجاز، وبعد 30 دقيقة، تتذكر أنك كنت تعمل على مهمة أكثر أهمية وصعوبة، وأن عليك إنجازها قبل نهاية اليوم.
ووجد باحثون من جامعة كوليدج لندن (يو سي إل) أنّ من طبيعة البشر اتباع المسار الأقل مقاومة، وأنّ أدمغتنا تخدعنا للاعتقاد بأن الثمار الدانية هي الأكثر نضجاً. ويصف تيم أيربان، القيّم على مدونة "انتظر، لكن لماذا" (Wait But Why) الرائجة للغاية، هذه السمة بأنها "قرد المتعة الفورية"، "إذ لا يفكر القرد سوى في الحاضر ويشغل نفسه تماماً بتعظيم سهولة ومتعة اللحظة الحالية. لماذا نعمل على جهاز الكمبيوتر في حين أن الإنترنت متاحة وفي انتظارنا لتصفّح محتواها؟".
يعرض هذا التحيز أهدافنا للخطر، على الرغم من أنه يجعل حياتنا مريحة، ويساعدنا في الحفاظ على الطاقة، والتي قد تكون ذات نفع عندما كان البشر يفرون من الحيوانات المفترسة؛ وهو شيء يعرفه مصممو المنتجات في منصات التكنولوجيا جيداً.
جهاز بيع آلي في جيوبنا
أشار نير إيال في كتابه المعنون " كيفية بناء منتجات تشكيل العادة" (Hooked: How to build the Habit-Products Products)، إلى استفادة شركات التكنولوجيا بشكل أساسي من نقاط الضعف النفسية لدينا لتجعلنا نعود لنطالب بالمزيد. كتب إيال أنّ ما يستهل دورة الإدمان لدينا هو المحفز الداخلي المتمثّل في حاجتنا إلى التواصل الاجتماعي أو المحفز الخارجي الذي ينطوي على إشعار.
ونتفاعل مع المحفز من خلال اتخاذ إجراء، مثل فتح الفيسبوك والاستمتاع بمكافأة متغيرة ودوبامينية، "أوه، لقد تلقيت سبعة إشعارات!"، ونستثمر بعد ذلك أكثر في المنصة من خلال نشر تعليق. وتستمر الدورة، وقد يكون المحفز الداخلي التالي هو فقط "أتساءل عما إذا قام أحد ما بالرد على تعليقي". وتعاد الكرة مراراً وتكراراً.
ولهذا السبب قام مسؤول العلاقات الإنسانية السابق في جوجل ومؤسس مركز سنتر فور هيومان تكنولوجيز (Center for Humane Technology)، تريستان هاريس، بتشبيه حمل هاتف ذكي بالتجول مع جهاز توزيع آلي في جيوبنا، إذ لا يمكننا مقاومة عدم استخدامه كل بضع دقائق.
ولا يمثل هذا تكلفة اقتصادية كبيرة على المؤسسات فحسب، بل يمكن القول أن تأثيره على السلامة العقلية للأفراد أسوأ. يقول أستاذ علم الأعصاب السلوكي في جامعة ماكجيل (McGill University) دانيال ليفيتين أن تبديل المهام مرهق لأنه يستهلك الجلوكوز المؤكسج في الدماغ، ما يؤدي إلى نفاد احتياطيات الطاقة نفسها اللازمة للتركيز على إكمال المهمة. وكل هذا يضعف العلاقة بين ساعات العمل والقيمة التي خلقت، ويضعف دافعنا في وقت لاحق، ونصبح أكثر قلقاً مع زيادة عبء العمل وأكثر استنفاداً مع اقتراب نهاية اليوم.
كن سيد التكنولوجيا التي تملكها
تعود فائدة أي أداة إلى كيفية استخدامها. لذلك، نحن قادرون على تحقيق الكثير مع التكنولوجيا إذا اعتبرناها عبداً لنا وليس سيداً علينا.
ووجدت دراسة من كلية لندن للأعمال أن الأفراد يقومون باختيار الخيار الافتراضي الذي عُين لهم في معظم الحالات. ويقول مؤلف كتاب "العادات الذرية" (Atomic Habits) جيمس كلير أن "البيئة التي تحيط نفسك بها تحدد الإجراءات الافتراضية التي تتخذها على أساس يومي، وهي أخبار جيدة لأن تصميم بيئتك بشكل يضمن لك النجاح يكمن بين يديك".
إذا كنت تفضل عدم تناول كيس "دوريتوس" في الساعة 9 مساء، فإن عدم إحضار "دوريتوس" إلى منزلك يقطع شوطاً طويلاً في سبيل تحقيق النتيجة المرجوة. وبالمثل، يمكنك أن تتعمد تصميم بيئتك التكنولوجية بالشكل الذي يناسبك. وما يلي بعض الخطوات للمبتدئين:
- عطّل جميع الإشعارات على كل من سطح المكتب والهاتف الذكي.
- أوقف تشغيل هاتفك أو اضبطه على وضع الطائرة لفترات زمنية محددة.
- استخدم تطبيق فريدوم (Freedom) لحظر التطبيقات غير المهمة لفترات محددة من اليوم، مثل الوسائط الاجتماعية.
- استخدم المكون الإضافي "إنشاء بريد إلكتروني" في جوجل كروم لرؤية نافذة الإنشاء فقط عند كتابة بريد إلكتروني، ما يسمح لك بالتحايل على الإغراءات التي تنتظرك في صندوق الوارد.
- خصص أوقات محددة للتحقق من البريد الإلكتروني والرد على كل الرسائل في وقت واحد.
- استخدم تقنية بومودورو (Pomodoro) لفصل وقت العمل المهم.
- استخدم تطبيق "الرفاهية الرقمية" (Digital Wellbeing) الخاص بأجهزة آندرويد أو تطبيق "وقت الشاشة" (Screen Time) الخاص بأجهزة آبل لتتبع وقت شاشتك وألزم نفسك على اتباعها ("كم ساعة قضيت على تويتر في الأمس؟!"). ويتّبع برنامج "وقت الإنقاذ" (Rescue Time) نفس الشيء بالنسبة لأنماط استخدام سطح المكتب.
وبالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، كلما أدركت ومنعت نفسك من الوصول إلى هاتفك الذكي، أصبحت هذه العادة جزءاً من طبيعتك.
ويمكن للقادة مساعدة فرقهم عن طريق القيام بما يلي:
- إعلامهم بتأثير تبديل المهام على الإنتاجية والسلامة العقلية.
- ممارسة أسلوب التواصل غير المتزامن في شركتك، من خلال توضيح أنه من المقبول عدم الرد على الأشياء على الفور، والرد بدلاً من ذلك في الوقت الذي يناسبك.
- شجع أو ألزم الأفراد بإيقاف جميع الإشعارات.
- اسمح للأفراد بجدولة وقت من ساعتين إلى أربع ساعات للعمل العميق.
- حدد الأمور العاجلة وغير العاجلة بوضوح.
- أنشئ مساحات لا يمكن فيها مقاطعة الأشخاص فعلياً أو شجع العمل عن بعد.
- كافئ أعضاء الفريق على قضائهم أوقات أقل على الشاشة.
- اعقد عدداً أقل من الاجتماعات وحدد مدة الاجتماعات.
- خصص فترات زمنية لوقت انعقاد الاجتماعات الداخلية، وفترات زمنية أخرى لا يجب أن تعقد فيها اجتماعات.
يمكننا من خلال التعمق أكثر في علاقتنا بالتكنولوجيا أن نهيئ بيئة عمل لا نكتفي فيها بمزيد من الإنتاجية فحسب، بل نكون أكثر رضاً وفعالية فيها.