الإدارة في عصر يموج بالغضب

22 دقيقة
قادة الشركات

بات قادة الشركات في مختلف القطاعات يتعاملون الآن مع مجموعة أصحاب المصالح الحانقين.

في ظل ازدياد موجات الغضب في مجتمعاتنا المعاصرة، يجب على المدراء تكييف أنفسهم حتى يستجيبوا للموقف بطريقة ذكية. 

من المؤكد أن معظمنا شهد الأزمة التي واجهت المسؤولين الحكوميين في العاصمة الكندية، أوتاوا، مطلع عام 2022 عندما تعرّضت المدينة للحصار من قِبَل جموع غفيرة من سائقي شاحنات قافلة الحرية احتجاجاً على فرض التطعيم بلقاح فيروس "كوفيد-19". وكان العملاء ووسائل الإعلام يضغطون في الوقت نفسه على موقع "غو فاند مي" (GoFundMe) للتمويل الجماعي وبنك "تي دي بنك" (TD Bank) وغيرهما من المؤسسات لقطع التبرعات عن المحتجين. حتى المؤسسات الصغيرة نسبياً قد تجد نفسها فجأة تتعامل مع مظاهر الغضب النابعة من الموظفين وغيرهم من أصحاب المصالح الخارجيين.

ولا يمكن اعتبار إدارة أصحاب المصالح الغاضبين أمراً جديداً، لكن أهم ما يميّز الحقبة التي نعيشها حالياً أنها فرضت علينا التعامل مع عاصفة عاتية تتغذّى على 3 قوى رئيسية. أولاً: يشعر الكثيرون بحالة من عدم التفاؤل بشأن المستقبل، لأسباب متباينة، تتراوح ما بين التغير المناخي والتحولات الديموغرافية وركود الأجور. وأياً كان السبب، فإنهم يعتقدون أن المستقبل سيكون أسوأ من الحاضر. ثانياً: غالباً ما يشعرون، سواءً أكانوا محقين أم مخطئين في مشاعرهم تلك، بأنهم يتعرّضون للخداع وبأنهم يلقون معاملة غير عادلة. ولك أن تنظر مثلاً إلى التقارير التي تفيد بأن الأغنياء غالباً ما يدفعون ضرائب بمعدلات أقل من تلك التي يدفعها أفراد الطبقة الوسطى، أو الأدلة التي تشير إلى التحيُّز المنهجي في الفرص المتاحة للأقليات. ثالثاً: ينجذب الكثيرون، ربما نتيجة للقوتين السابقتين، إلى أيديولوجيات "الآخر"، أي أنهم يتخلون عن ليبرالية التنوير وباتوا يتمسكون بالنهج الذي يقوم على فكرة "إمَا نحن أو هم". وقد أطلق المؤرخ صامويل هنتنجتون على هذه الأيديولوجية "صراع الحضارات".

أثبتت الأبحاث أننا نفسر الأحداث من خلال "تصوراتنا" الذهنية التي يتم تطويرها وتعزيزها من خلال التجارب السابقة.

وسأستعرض في هذه المقالة إطار عمل لإدارة غضب أصحاب المصلحة يقوم على رؤى تحليلية مستمدة من تخصصات متنوعة تشمل علم السلوك العدواني والاقتصاد الإداري والسلوك التنظيمي والفلسفة السياسية. ويشكِّل هذا الإطار ركيزة أساسية للمقرر التعليمي الذي أتولى مهمة تدريسه في أوكسفورد تحت عنوان: "الإدارة في عصر الغضب"، وقد توصَّلت إليه من خلال المنهج الاستقرائي استناداً إلى دراسات الحالة التفصيلية حول مؤسسات تعمل في قطاعات متعددة، بما في ذلك شركة "إيكيا" و"شرطة العاصمة لندن" وشركة "نستله" و"مستشفيات جامعة أوكسفورد". ويتألّف إطار العمل من 5 خطوات: خفض درجة الحرارة، تحليل الغضب، السيطرة على ردود فعلك والتحكم بها، فهم حدود قدرتك على حشد الآخرين، تجديد القدرة على التحمل. قد يكون بعض الخطوات معقداً نسبياً، وبعضه الآخر بسيطاً إلى حدٍّ ما، لكن جميعها يقوم على استخدام المنطق العام، كما تكشف هذه الخطوات بصورة لا لبس فيها عن المدراء المتمرسين. وتكمن قيمة إطار العمل في قدرته على توحيد الرؤى الثاقبة.

فكرة المقالة باختصار

المشكلة

بات قادة الشركات في مختلف القطاعات يتعاملون الآن مع مجموعة أصحاب المصالح الحانقين. من المؤكد أن معظمنا شهد الأزمة التي واجهت المسؤولين الحكوميين والمرتبطة بقطاع الأعمال، مطلع عام 2022 عندما تعرّضت العاصمة الكندية، أوتاوا، للحصار من قِبَل جموع غفيرة من سائقي الشاحنات احتجاجاً على فرض التطعيم بلقاح فيروس "كوفيد-19".

لماذا يحدث ذلك؟

نشهد عاصفة عاتية تتغذّى على 3 قوى رئيسية: إذ يعتقد الكثيرون أن المستقبل سيكون أسوأ من الحاضر. ويشعرون أيضاً، سواءً أكانوا محقين أم مخطئين في مشاعرهم تلك، بأنهم يتعرّضون للخداع وبأنهم يلقون معاملة غير عادلة. وينجذبون بشكل متزايد إلى أيديولوجيات "الآخرية" (إما نحن وإما هم).

الحل

بالاعتماد على دراسات الحالة الواقعية والتخصُّصات ذات الصلة، كعلم النفس والاقتصاد والفلسفة، تقدم هذه المقالة إطار عمل لإدارة أصحاب المصالح الغاضبين، ويتضمن هذا الإطار 5 خطوات: خفض درجة الحرارة، تحليل الغضب، السيطرة على ردود أفعالك والتحكم بها، فهم حدود قدرتك على حشد الآخرين، تجديد القدرة على التحمل.

الخطوة الأولى: خفض درجة الحرارة

تتضمن هذه الخطوة إجراءين. ويتمثّل الإجراء الأول في الاعتراف بكل بساطة بالأسس الطبية للغضب. ويتمثّل الإجراء الثاني في مراقبة عمليات التواصل بعد الاتفاق عليها بصورة مسبقة مع أصحاب المصالح في المواقف التي تزداد فيها حدة الخلافات.

الأسس الطبية للغضب. يُعتبَر علم السلوك العدواني مجالاً بحثياً واسع النطاق. وتتمثّل إحدى الأفكار الإدارية الرئيسية في أنّ التفاعل بين الظروف المحيطة والعواطف والتفكير المعرفي يؤثّر في استجابة العقل لمختلف المواقف.

بادئ ذي بدء، يوضح العلم أن البيئة المادية مهمة، وذلك لأن احتمالات فقداننا لأعصابنا ستزداد في الغرفة الحارة والرطبة مقارنة بالغرفة جيدة التهوية. علاوة على أننا نعلم أنه عندما تكون مصادر التفكير المعرفي الاستدلالي لدينا محدودة، فستتحكم العواطف في أفعالنا على الأرجح، إذ نجد أن الدماغ المشغول أو مشتَّت الانتباه يميل إلى الاستجابة للأحداث بطرق عاطفية، وبالتالي يستجيب بطريقة عدوانية (كجزء من استجابة الكر والفر) في الأزمات. ومن هنا تأتي نصيحة "تأجيل" القرارات المشحونة بالانفعالات العاطفية، لإتاحة الوقت للتفكير. صحيحٌ أن الاستجابة العاطفية ليست سيئة دائماً، ولكن يجب إعطاء قدراتنا المعرفية وقتاً لمعالجة الاستجابة الأولية.

وأخيراً، فقد أثبتت الأبحاث أننا نفسر الأحداث من خلال "تصوراتنا" الذهنية، أي التصورات الاستدلالية لكيفية سير الأحداث في العالم من منظورنا الشخصي. وقد تم تطوير هذه التصورات وتعزيزها من خلال التجارب السابقة، وحتى التصورات التي تبدو غير عقلانية قد تصبح جزءاً من استجابتنا المعرفية. على سبيل المثال، قد يؤثر التعرُّض المتكرر للسرديات المتحيزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي على تصوراتنا بمرور الوقت، ما يسهم في تأجُّج الغضب.

العمليات المشتركة. لا بد من توفير الظروف الملائمة للنقاش وإتاحة الوقت المناسب للتفكير في الدوافع العاطفية الأولية، وهذا أمر بسيط نسبياً. لكن ما الذي يمكنك فعله حيال اختلاف التصورات؟ لن تستطيع التحكم في الخبرات التي شكّلت التصورات المترسخة بقوة في ذهن أي شخص، لذا من الأفضل أن تتجنب تحديها بشكل مباشر. قد تعتبرها سيناريوهات غير مبررة، لكنك لن تستطيع تغييرها على الأرجح، أو على الأقل لن تستطيع تغييرها في جلسة واحدة. لكن يمكنك خلق بيئة تخلو من أي تهديد، بحيث تتيح الفرصة أمام أصحاب المصالح لعرض تصوراتهم بشكل صريح. قد يؤدي هذا الإجراء إلى خلق أجواء مريحة للأعصاب وقد يكون خطوة أولى نحو تكوين فهم يمكن الاستناد إليه للتوصُّل إلى حلول مستدامة.

وتتمثل إحدى مسؤولياتي في "كلية بلافاتنيك للإدارة الحكومية" بـ "جامعة أوكسفورد" في دعوة كبار القادة من أكثر من 60 جهة حكومية (بما في ذلك الصين والولايات المتحدة والهند وباكستان وروسيا وأوكرانيا) لبناء تحالفات حول القضايا الخلافية مثل التغير المناخي والهجرة وعدم المساواة. وتتباين التصورات بقوة في بيئة عملنا.

وللحفاظ على مستوى الأداء في منظومة العمل لدينا وازدهاره، طوّرنا قواعد التواصل واتفقنا عليها بصورة مسبقة. وهذا أمر بالغ الأهمية، لأنك لن تستطيع إقرار عملية يجري استخدامها فعلياً لمعالجة قضية خلافية. ويتعيّن عليك من منطلق منصبك كمدير أن تخصّص القدر الكافي من الوقت لتحديد أصحاب المصالح الرئيسيين والسعي للحصول على موافقتهم قبل أن تدخل في وضع مواجهة الأزمات.

وتتميّز قواعد منظومتنا ببساطتها في التالي: لا يجوز لأي شخص أن يدّعي أن تصوراً معيناً مسيء للغاية بحيث لا يمكن سماعه، ولكن يجب أن يتحمل الجميع المسؤولية عن أثر كلماتهم في الآخرين. وتعمل هذه النقطة الثانية على تهيئة أعضاء منظومة العمل للتطلُّع لأن يكونوا قادة بدلاً من الاكتفاء بأداء دور المُفاوِضين. وتدفع جميع أصحاب المصالح إلى تلطيف أسلوبهم في التواصل، ليس من خلال فرض الرقابة الذاتية على عباراتهم ولكن على أمل مساعدة الآخرين تدريجياً على فهم نظرتهم للعالم (حتى لو لم يتفقوا معها). ومن خلال تشجيع أعضاء منظومة العمل على مشاركة تصوراتهم في سياق تحيزاتهم الخاصة، فستزداد فرصنا في التوصُّل إلى قرارات جماعية قادرة على الصمود بمرور الزمن.

فبدلاً من الشكوى بأن الأزمة ستعيقك، تعامل معها على أنها فرصة سانحة وأصرّ على تطلعاتك على الرغم من كل المخاطر أو الصعوبات، واستخدمها لتشكيل استجابتك للأحداث.

الخطوة الثانية: تحليل الغضب

تنقلنا مشاركة التصورات والتفكير فيها عبر منظومة أصحاب المصلحة لدينا إلى الخطوة الثانية التي تتكوّن أيضاً من جزأين:

تحليل الأسباب. في يونيو/حزيران 2020، عندما خرجت لندن من أزمة الإغلاق العام التي دامت 3 أشهر، واجهت مفوضة شرطة العاصمة لندن، كريسيدا ديك، رد فعل عنيفاً من سكان لندن ذوي البشرة السمراء الذين تعرضوا للتوقيف والتفتيش المكثف من قِبَل شرطة العاصمة أكثر من المجموعات الأخرى بأربع مرات. وكانت ديك، والكثير من أفراد قوتها وكذلك ضحايا الجرائم (المتزايدة)، قد رأوا أن التوقيف والتفتيش من عوامل الردع المفيدة، لكن الكثير من السكان ذوي البشرة السمراء في المدينة أرادوا وضع حد لهذه السياسة. وأشار المحتجون إلى أن هذه المجموعة كانت على الأرجح تمارس أعمال الخدمات الأساسية، وبالتالي كان من الطبيعي أن يسير أفرادها في الشوارع في أثناء الإغلاق. ونظراً لأن معدلات الاعتقال الفعلي كانت متشابهة عبر مختلف أفراد التركيبة السكانية، فقد بدا أن "استهداف" ذوي البشرة السمراء لا يستند إلى سبب وجيه، لذلك طالب النشطاء ديك بالاعتراف بأن شرطة العاصمة كانت تمارس "العنصرية المؤسسية".

واستجابة لموقف كهذا، لا بد من تحديد أيٍّ من الدوافع الثلاثة للغضب يؤثر في الموقف: هل هو اليأس من المستقبل أم الشعور بالتعرّض للخداع أم أيديولوجية "الآخر"؟ ثمة مجال أمام المدراء للتفاعل مع الدافعين الأولين: يمكنهم عرض الأسباب التي تجعلهم أكثر تفاؤلاً بشأن المستقبل، ويمكنهم أيضاً معالجة الأسباب التي تجعل أصحاب المصالح يشعرون بالخداع. على سبيل المثال، يمكن النظر إلى الغضب من استخدام شرطة العاصمة لسياسة التوقيف والتفتيش خلال الإغلاق في سياق التاريخ الطويل لسكان لندن الذي عانوا خلاله تحيز الشرطة ضد الأقليات. فقد انتقدت التقارير الرسمية مثل هذه الممارسات أكثر من مرة في الماضي، كما حدث عاميّ 1981 و1999. وقد اتخذت ديك من هذا التاريخ نقطة بداية يمكن الانطلاق منها، إذ إنه لبناء الثقة المتبادلة مع المواطنين المصابين بالإحباط، كان لا بد من تحسين إجراءاتها على مستوى استجابات شرطة العاصمة خلال الأعوام العشرين الماضية على الأقل.

ولكن إذا كان من الممكن إرجاع الغضب إلى أيديولوجيات "الآخر"، فعليك أن تتجنب التفاعل المباشر، وإلا فإنك ستخاطر بصب الزيت على النار، ما يقلل من احتمالية التوصل إلى حل. كان هذا هو الخطأ الذي ارتكبه المسؤولون الحكوميون خلال حصار قافلة الحرية لمدينة أوتاوا. فقد أدركوا أنه على الرغم من أن بعض سائقي الشاحنات لديهم مطالب سياسية يمكن الدفاع عنها، فإن آخرين رأوا في الاحتجاجات وسيلة لتحقيق أهداف اجتماعية إقصائية. ومن خلال مواجهة هذه الأيديولوجيات ووصف سائقي الشاحنات بأنهم "عنصريون"، لم يؤد تدخُّل المسؤولين إلا إلى احتداد غضب المحتجين (بدعوة المزيد من العنصريين إلى الدخول على خط المواجهة) وقللوا من إمكانية التفاوض على إنهاء الحصار (لأنهم لا يقبلون بأن يُنظَر إليهم كأشخاص يتفاوضون مع عنصريين).

ولا أعني بكلامي هذا أنني أنكر على المدراء تمسكهم بأيديولوجياتهم الشخصية (أو حق الآخرين في انتقادها)، ولكنني أريد التحذير من فكرة الإقدام على التفاعل المباشر مع أصحاب المصالح بشأن الاختلافات الأيديولوجية، لأنه لن يكون فعّالاً على الأرجح. ويسهم تجنُّب مثل هذه المعارك في عدم تصاعد حدة الاستقطاب في المواقف المعقدة وقد يؤدي إلى كسب بعض الوقت إلى حين ظهور حل مناسب من القاعدة إلى القمة.

تحليل الدوافع. يهدف هذا النوع من التحليل إلى تحديد القوى التي تسهم في احتداد غضب أصحاب المصلحة. قد تكون هذه القوى عبارة عن أشخاص أو أحداث، وقد توفّر مساراً للتخفيف من حدة الغضب. وكان مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة، وكذلك التعليقات السلبية لبعض ضباط شرطة العاصمة ذوي البشرة السمراء حول عمليات التوقيف والتفتيش، من بين القوى المحفزة في قضية شرطة العاصمة في صيف 2020. وقد وجدت ديك ضالتها في هؤلاء الضباط، لأنها اعتبرتهم طرفاً موثوقاً يمكن العمل معه في البحث عن حلول طويلة الأجل للغضب.

وغالباً ما توفّر وسائل التواصل الاجتماعي قنوات مثالية لتوصيل صوت القوى المحفزة، فهي تتيح إمكانية عدم الكشف عن هوية المستخدمين، ما يتيح للأفراد الحذرين القدرة على التعبير عن وجهات نظرهم المتطرفة. وتسهم رؤية مثل هذه الآراء في تشجيع الآخرين على تبنيها وتعزيزها، بل وشحذها في بعض الأحيان، وهي ظاهرة تُعرف بالعدوى العاطفية. وتعمل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً على جذب المستخدمين إلى تعميق حدة الغضب من خلال حمايتهم من وجهات النظر النقدية. لذا فإن تشجيع الأطراف المقابلة على تخفيف حدة تفاعلهم على وسائل التواصل الاجتماعي في أثناء المناقشات يُعتبَر فكرة جيدة. (وأعيد وأكرر أنه لا بد من وضع قواعد الاشتباك بشكل مثالي قبل تطبيقها).

الخطوة الثالثة: السيطرة على ردود فعلك والتحكم بها

يمكن للمدراء التفكير بتأنٍّ في كيفية الاستجابة من خلال فهمهم لدوافع الغضب. ويجب أن يوازنوا هنا بين عدم اتخاذ ما يكفي من الإجراءات والمبالغة في الإجراءات المُتخذَة. ويمكن الاستفادة هنا من المفهومين التاليين:

القدرات غير المتكافئة. واجهت شركة الأغذية العملاقة "نستله" تهديداً وجودياً خطيراً عام 2015 عرَّض سمعتها في الهند التي تمتد لأكثر من 100 عام للخطر، وذلك عندما أثبت اختبار روتيني في مختبر حكومي لسلامة الأغذية وجود آثار غلوتامات أحادية الصوديوم (MSG) في منتجات المعكرونة سريعة التحضير "ماجي"، على الرغم من تأكيد الملصقات على العبوة خلو المعكرونة من أي إضافات تحتوي على هذه المادة. في البداية تجاهلت شركة "نستله" القضية، مقتنعة بسلامة إجراءاتها. ولم تشعر الشركة بأنها معرضة للمخاطر التنظيمية، لأن ما يقرب من %75 من مورّدي الأغذية المصنعة في الهند هم من صغار المنتجين المحليين الذين يخطئون بشكل روتيني في كتابة المواد المستخدمة على ملصقاتهم ولا يطبقون معايير الأمان المعمول بها في شركة "نستله".

لكن الاختبارات اللاحقة التي أجرتها المعامل الحكومية الأخرى أشارت إلى وجود مستويات عالية من الرصاص في معكرونة "ماجي". وقد خضع المُنتَج الذي يتم تسويقه كغذاء صحي ويستهدف الأطفال لمزيد من التدقيق. ثم أوضحت شركة "نستله" أنه على الرغم من أن عبارة "خالي من أي إضافات تحتوي على مادة غلوتامات أحادية الصوديوم" كانت صحيحة من الناحية الفنية، فإن المُنتَج يحتوي على مادة الغلوتامات الموجودة في الطبيعة. وفيما يتعلق بمحتوى الرصاص، فقد أكدت شركة "نستله" أن اختباراتها الخاصة في الهند وسنغافورة وسويسرا أكدت سلامة المُنتَج، وتوقعت أن النتائج اللاحقة كانت نتيجة لسوء الإجراءات المتبعة في المختبرات الحكومية. لم تلق ردودها صدى طيباً لدى المسؤولين الذين أصدر بعضهم أوامر بسحب معكرونة "ماجي" من بعض الولايات الهندية. وشنّت الصحافة هجوماً لاذعاً على منتجات الشركة، وانخفضت حصة "نستله" البالغة نحو %80 من سوق المعكرونة سريعة التحضير في الهند إلى النصف تقريباً بين عشية وضحاها، ما أسهم في انخفاض سعر السهم بنسبة %15. وفي النهاية، قررت شركة "نستله" سحب المُنتَج من السوق، لكن بعد تكبدها خسائر فادحة، ثم أعادت طرحه دون عبارة "خالي من أي إضافات تحتوي على مادة غلوتامات أحادية الصوديوم". (وقد اتضح أن المخاوف الرئيسية لم يكن لها أساس من الصحة فعلياً).

كان من المتوقع أن تتحمل الشركة السويسرية العملاقة مسؤولية المشكلات التي لم يكن لها دخل فيها، حتى مع تهرُّب الأطراف التي كان من المفترض أن تتحمل الوزر الأكبر، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن قدراتها أفضل من غيرها لمعالجة المشكلة. ومن هنا فإن المدراء مطالبون في المواقف المماثلة بالتفكير في 4 أسئلة: (1) هل نحن مسؤولون بشكل مباشر عن الغضب؟ (2) هل سيؤدي تقاعسنا عن اتخاذ إجراء إلى تفاقم الغضب؟ (3) هل اتخاذ إجراءات ملموسة للتخفيف من حدة الغضب يشكّل جزءاً من عقدنا (الضمني) مع أصحاب المصالح؟ (4) هل نريده أن يكون كذلك؟

لن تكون مطالباً باتخاذ إجراءات ملموسة في حالة واحدة فقط، وهي إذا كانت الإجابة عن جميع الأسئلة الأربعة السابقة هي "لا". وقد كانت إجابة شركة "نستله" بـ "لا" عن السؤال الأول فقط، لأنها اعتبرت أن المشكلة ناتجة عن التناقضات التنظيمية. لكن إجاباتها عن الأسئلة الثلاثة الأخرى كشفت أن الشركة لديها سبب وجيه لاتخاذ إجراءات ملموسة.

ولك أن تنظر مثلاً إلى السؤال الثاني. يتسبب التسمم بالرصاص في إصابة الأطفال بمضاعفات شديدة الخطورة، وقد استجابت شركة "نستله" للأمر دون تقديم حلول ملموسة. لكن تجاهل الأضرار الجسيمة التي تلوح في الأفق أمر يدعو إلى السخط. ويمكن الاستفادة هنا من تطبيق قاعدة "واجب الإنقاذ" المفروضة على العاملين في مجال أخلاقيات الطب. إذ تشجعنا غرائزنا الأخلاقية على مساعدة أولئك الذين يواجهون خطراً وشيكاً (بغض النظر عن جرمه)، حتى لو تم تصنيفنا إلى مستوى أدنى عندما يكون الخطر مستبعداً. ونحرص على تقديم يد العون لشخص يغرق في مستنقع أكثر من حرصنا على مساعدة شخص يفقد مصدر رزقه بسبب تلقيه العلاج النفسي بأسلوب الإغراق التدريجي.

وفيما يتعلق بالسؤال الثالث، فحتى في الحالات التي قد يكون فيها الضرر متوسطاً ومستبعداً (كما هي الحال مع قضية مادة غلوتامات أحادية الصوديوم)، قد تكون البيانات السابقة (التي تصف معكرونة "ماجي" كمُنتَج "صحي") قد أرغمت المؤسسة على معالجة مخاوف أصحاب المصلحة التي لم يكن لها دخل فيها.

وبالنسبة للسؤال الرابع، فاحرص على اتباع النصيحة التي قدمها الأستاذ في "جامعة هارفارد"، فريتز روثليسبيرغر: عندما نواجه أزمة، فإننا غالباً ما نرثى لأنفسنا لأنها ستقلب كل خططنا التي سهرنا على إعدادها لمواجهة المستقبل. ولكن ماذا لو كانت تلك الأزمة فرصة لتحقيق هذه الطموحات؟ وبدلاً من الشكوى بأن الأزمة ستعيقك، تعامل معها على أنها فرصة سانحة وأصرّ على تطلعاتك على الرغم من كل المخاطر أو الصعوبات، واستخدمها لتشكيل استجابتك للأحداث. وبالحديث عن شركة "نستله"، فإن ذلك كان يعني استغلال أزمة معكرونة "ماجي" لتأكيد التزامها الراسخ بسلامة المستهلكين.

وبعد التأكيد على ضرورة اتخاذ إجراء ملموس، فإن التحدي التالي للشركة يتمثّل في التأكد من أنها لا تبالغ في ردة الفعل أكثر من اللازم، وإلا فإنها قد تضع توقعات غير قابلة للتحقيق يمكن أن تتسبّب في انحراف المؤسسة عن رسالتها الأساسية أو حتى إشهار إفلاسها. ويقودنا هذا إلى المفهوم الثاني.

تغيُّر التوقعات. في عام 2012، تعرَّضت شركة "إيكيا" السويدية للأثاث لانتقادات لاذعة في وسائل الإعلام السويدية إثر نشر مقالة كشفت عن إقدامها على تغطية صور النساء في كتالوجات منتجاتها في المملكة العربية السعودية. وقد دافعت الشركة عن نفسها وادعت أنها تمتثل للقوانين السعودية وأن مثل هذه الممارسات معتادة هناك.

وسرعان ما انتشرت ردود الفعل السلبية على هذه الخطوة في السويد وفي غيرها من أسواق "إيكيا" الرئيسية في أوروبا الغربية، التي تمثل %70 من مبيعات الشركة. وقد علَّق أحد الوزراء السويديين على هذا الموقف قائلاً: "إن إقدام "إيكيا" على حجب جزء مهم من الصورة الذهنية للسويد وجزء مهم من قيمها في بلد يحتاج أكثر من غيره إلى التعرُّف على مبادئ "إيكيا" وقيمها كان خطأً فادحاً". لقد أصاب هذا التعليق كبد حقيقة مهمة: فلطالما وصفت الشركة نفسها لسنوات بأنها امتداد للثقافة السويدية. وكانت زيارة أيٍّ من مقرات "إيكيا" المليئة بمنتجات الأثاث المستوحاة من تراث الحضارة الإسكندنافية بمثابة رحلة إلى السويد.

وقد استفادت "إيكيا" بشكل كبير على مر السنين من هذه الاستراتيجية، وعبَّرت عن اعتزازها بالقيم السويدية في الكثير من المناسبات: ففي مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة، قبل انتشار موضة الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات، قطعت الشركة على نفسها عهداً بتوفير ظروف العمل العادل والممارسات البيئية المسؤولة في سلسلة التوريد التابعة لها. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، كانت إعلاناتها التجارية تضم رجالاً ونساءً من ثقافات منفتحة. وبالنسبة لشركة كانت قد اعتبرت نفسها منذ فترة طويلة من الزمن نموذجاً للتقدمية الإسكندنافية، كان حجب صور النساء من كتالوجات منتجاتها في المملكة العربية السعودية أمراً مزعجاً يشكّل تناقضاً صارخاً مع ثقافتها.

وقد دخلت "إيكيا" السوق السعودية في مطلع الثمانينيات، ولكن بعد 30 عاماً غدت السعودية مكاناً مختلفاً. وفي تلك الأثناء، أصبحت الثقافة الإسكندنافية أكثر تقدمية، وتغيَّرت التوقعات.

ولتجنب التبعات السلبية لمثل هذه التحولات، يجب على المؤسسة التي تقطع على نفسها التزاماً أخلاقياً، سواءً كان صريحاً أو ضمنياً، لأصحاب المصالح أن تطرح على نفسها بشكل متكرر 3 أسئلة تمثّل أداة لاختبار الواقع في الكيانات الواقعة تحت الضغط: (1) ما استراتيجيتنا المتبعة لتلبية هذا الالتزام بكل مصداقية؟ (2) ما حدود هذا الالتزام، وكيف يتم إبلاغ أصحاب المصالح بها؟ (3) ما استراتيجيتنا للتعامل مع تغيُّر التوقعات بخصوص هذا الالتزام؟

ومن خلال القرارات المتتالية التي تنطوي على هوية علامتها التجارية، قطعت "إيكيا" على نفسها التزاماً أخلاقياً أمام أصحاب المصالح، في السويد وبقية دول الغرب، بأن تكون نصيراً للقيم السويدية. وكانت الشركة تدرك أن التزامها ذاك سيكون مقيداً بقوانين البلدان التي ستعمل فيها، لكنها لم تبلغ أصحاب المصالح بهذه الحقيقة. ولم تكن "إيكيا" مستعدة لحقيقة أنها ستكون مطالبة بالمزيد في ظل تزايد تحرر القيم السويدية.

وقد ظهرت قضايا مماثلة في شرطة العاصمة لندن. فقد جادل بعض أصحاب المصالح بأن وصف ديك لشرطة العاصمة بأنها تمارس "العنصرية المؤسسية" من شأنه أن يشير بقوة إلى التزامها بأن تكون جزءاً من الحل لقضية التمييز العنصري في المجتمع. ولم تكن شرطة العاصمة تتحمل المسؤولية الكاملة عن الغضب، لكن كانت لديها قدرات غير متكافئة لعلاجه. بيد أن ديك أعلنت اعتراضها. وكان قبول مفوضة شرطة العاصمة لهذا التوصيف بمثابة زلزال سياسي سيغير توقعات بعض أصحاب المصالح إلى ما هو أكبر من قدرتها على تنفيذه. بالإضافة إلى ذلك، فقد اعتبر الكثيرون داخل شرطة العاصمة أن هذا التوصيف محبط ومُسيء، ولم تكن المفوضة قادرة على تحمّل تكاليف الاستقالات الجماعية أو الاحتجاجات الداخلية في وقت تتزايد فيه الجريمة.

وكما يظهر لنا من خلال هذه الحالة، فإن ميول الموظف تُعتبَر طريقة جيدة لتقييم الاستجابات المحتملة لمثل هذه المآزق. فإذا شعر الموظفون الموثوق بهم بأنك لا تبذل الجهد الكافي لمعالجة غضب أصحاب المصالح (الخارجيين)، أو على العكس من ذلك، إذا شعروا بالخوف من أنك تبالغ في رد فعلك، فيُستحسَن أن تعيد التفكير في نهجك. ويؤكد هذا بطبيعة الحال أهمية إعطاء موظفيك الذين يمثلون أصحاب المصالح الآخرين مساحة للتعبير عن وجهات نظرهم.

وعلى الرغم من أن نسبة الضباط غير ذوي البشرة البيضاء في شرطة العاصمة قد ارتفعت 5 أضعاف في الأعوام العشرين التي سبقت عام 2020، فإنها لا تزال ثابتة عند مستوى %15 فقط، وهي نسبة أقل بكثير من إجمالي نسبتهم التي تصل إلى %40 في لندن. وإلى أن تصبح شرطة العاصمة أكثر تمثيلاً للمجتمع الذي تعمل فيه، فلن يكون بمقدورها التخلُّص من وصمة "العنصرية المؤسسية". لذا وضعت ديك على رأس أولوياتها إعادة التفكير في كيفية تعيين المواهب واستبقائهم في شرطة العاصمة من بين أفراد المجتمعات الأقل ثقة في أدائها.

تتأثر قدرة المؤسسة على التحمل بمدى قدرة قادتها على إدارة حالة الشد والجذب بين التعامل مع المشاكل اليومية والتخطيط لإدارة آفاق المستقبل بشكل أفضل.

الخطوة الرابعة: فهم قدرتك على حشد الآخرين

بعد تحديد ما ستفعله بالضبط استجابة للغضب، يجب أن تقرر كيفية اتخاذ هذه الخطوة. وتتألف هذه العملية من مرحلتين. حدِّد أولاً المصادر الداخلية والخارجية للمؤسسة فيما يخص قدرتك على حشد الآخرين، وذلك من خلال تحديد الوضع المكاني لقواك. ثم اسأل كيف ستتطور قواك في أثناء ممارستها، وذلك من خلال تحديد الوضع الزمني.

تحديد الوضع المكاني: مصدر القوة. يساعد على تقسيم القوى إلى 4 فئات.

القوة القسرية، وهي القدرة على التحكم في تصرفات الآخرين من خلال إصدار الأوامر. وقد تكون مستمدة من صلاحياتك القائمة على التراتبية الهرمية وقدرتك على التحكم في الموارد النادرة، مثل تعيين الأفراد وترقيتهم وفصلهم من العمل. وتشكِّل المصدر الأساسي للسلطة الإدارية، لكنها تختلف باختلاف أنواع المؤسسات: حيث يتمتع المدراء في هيئات القطاع العام في المؤسسات غير العسكرية عموماً بسلطة قسرية أقل من تلك التي يتمتع بها المدراء في شركات القطاع الخاص.

القوة التبادلية، وهي مشتقة من التبادلات. وقد تكون عبارة عن معاملات بحتة، كما هي الحال مع السلطة التي يمارسها المدير على متعاقد مستقل مقابل المال، ولكن يجب ألا تكون كذلك. على سبيل المثال، لا يُتوقع بالضرورة الحصول على مقايضة في أي شبكة علاقات اجتماعية، حيث تتراكم القوة المُستمدَّة من المفهوم العام لمبدأ التبادلية. وكلما زاد التزامك ببيئة التبادل، زادت قوتك، لأن الروابط العميقة التي يتم تشكيلها على مدى سنوات مديدة وتفاعلات عديدة ستسهم في حشد الأفراد على الأرجح.

القوة العاطفية، وتنبع من الكاريزما الشخصية. تقوم القوة العاطفية على العلاقات، على غرار القوة التبادلية، ولكن نادراً ما يُتوقَّع حدوث التبادلية هنا. إذ يمتلك كلٌ من الآباء والأطفال قوة عاطفية تجاه بعضهم، كما هي الحال بالنسبة للأشخاص الذين يتشاركون إيماناً راسخاً بشيء ما.

القوة العقلانية، وهي القدرة على تقديم تفسير عقلاني (منطقي ويقوم على دليل ملموس) لأهدافك وأساليبك. وغالباً ما يستخدمها المدراء لإقناع أقرانهم المطلعين على بواطن الأمور بفكرة معينة.

ولتوضيح إلى أي مدى يمكن أن يكون تحديد الوضع المكاني مفيداً، فكّر في التحدي الذي واجهته الرئيسة التنفيذية للخدمات الطبية في "مستشفيات جامعة أوكسفورد"، ميغان بانديت، عام 2020، في وقت مبكر من تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد، عندما كان العلماء غير متأكدين من طبيعة الفيروس وكيفية التعامل معه.

كانت حكومة المملكة المتحدة قد أعلنت عن وجوب استمرار العمليات الجراحية الاختيارية في "مستشفيات جامعة أوكسفورد" وغيرها من المستشفيات العامة. كان هذا القرار يهدف إلى منع تراكم العمليات الجراحية بأعداد هائلة على قائمة الانتظار عند انتهاء الجائحة. لكن بعض الجراحين في "مستشفيات جامعة أوكسفورد" رفضوا الامتثال للقرار، خوفاً من نقص معدات الحماية الشخصية ورأوا أن الأمر قد يعرّض حياتهم للخطر. وكان على بانديت أن تقرر ما إذا كانت ستفرض تطبيق القرار وتخاطر بتفاقم الموقف المشحون بالانفعالات العاطفية فعلياً.

وعلى الرغم من أنها تُعتبَر من بين أفضل المستشفيات في العالم، فقد كان تاريخ "مستشفيات جامعة أوكسفورد" مشوباً ببعض الأحداث المؤسفة في الآونة الأخيرة. فقد أبلغت عام 2018 عن 8 "أخطاء طبية يجب ألا تحدث أبداً"، وهي تلك الأخطاء الفادحة التي تتعلق بسلامة المرضى وينبغي ألا تحدث أبداً، مثل إجراء عملية جراحية في عضو خطأ بالجسم. وقد أظهرت استقصاءات طواقم العمل أنه على الرغم من شعور الكثير من العاملين بالفخر بأدائهم، فإنهم كانوا يفتقدون إلى روح العمل الجماعي، وكان يُنظر إلى الإدارة على أنها لا تدعم العاملين عند ارتكاب الأخطاء، وتميل المؤسسة نحو تجنب المخاطر وتجاهل عمليات إدارة المخاطر معاً. وقد قيّمت "لجنة جودة الرعاية الصحية" في المملكة المتحدة "مستشفيات جامعة أوكسفورد" على أنها "تتطلب التحسين".

وفي مطلع عام 2019، عيّن مجلس إدارة "مستشفيات جامعة أوكسفورد" بانديت رئيسة للخدمات الطبية على خلفية شغلها آنذاك المنصب ذاته في مستشفى آخر في بريطانيا. وقد انصبَّ تركيزها خلال ذلك العام على إصلاح ثقافة "مستشفيات جامعة أوكسفورد" للعمل على ضمان سلامة المرضى ورضاهم والتعلم من الأخطاء والثقة في الإدارة. كانت النتائج الأولية واعدة، لكن هذه المهمة كانت أبعد ما يكون عن التحقُّق عندما تفشّت جائحة فيروس كورونا المستجد وواجهت مقاومة الجرّاحين. كان لدى بانديت في هذه الحالة قوة قسرية كبيرة.

فقد كانت تمتلك سلطة إصدار تراخيص ممارسة العمل في "مستشفيات جامعة أوكسفورد"، لذا يمكنها بالتأكيد تنفيذ أوامر الحكومة بمواصلة إجراء العمليات الجراحية الاختيارية. وكانت تتمتع أيضاً ببعض القوة العقلانية: إذ كان بمقدورها بصفتها زميلة طبية للجرّاحين أن تتحدّث من واقع صلاحياتها حول مزايا الأمر، بالإضافة إلى نموذج أبقراط الذي كان من المتوقع أن يحققه المستشفى.

لكن بانديت كانت تفتقر إلى القوة العاطفية. فبصفتها امرأة تنتمي إلى أقلية عرقية، كانت خارج شبكة أطباء أوكسفورد الذكور. ولن يتأثروا بشخصيتها الكاريزمية على الأرجح. كانت تفتقر أيضاً إلى القوة التبادلية في هذه النوعية من المعاملات: إذ لم يكن بوسع "مستشفيات جامعة أوكسفورد" ككيان حكومي عام تحديد الرواتب والمكافآت التي يتم تحديدها إلى حدٍّ كبير من خلال كشوف الأجور الوطنية. وعلى الرغم من أن بانديت كانت تعمل على تعزيز القوة التبادلية من النوع القائم على العلاقات من خلال مبادرة تغيير الثقافة، فإن جهودها قد بدأت لتوها.

وعلى الرغم من خياراتها المحدودة، فقد اختارت بانديت عدم تنفيذ الأمر، مذعورة من الجرّاحين في لحظة قلقهم. وتشرح المرحلة التالية من الخطوة الرابعة السبب في ذلك.

تحديد الوضع الزمني: كيف تتطور قواك؟ لو أن بانديت كانت قد نفذت الأوامر بالقوة القسرية، لخاطرت بتقويض المكاسب الصغيرة في القوة التبادلية التي استطاعت تحقيقها مؤخراً ولجعلت أي تراكم للقوى الأخرى أقرب إلى المستحيل. وقد اعتمد تحولها الثقافي على بناء حالة من الثقة المتبادلة بين أعضاء فريق العمل والإدارة من جهة أخرى، لأن تضييق الخناق عليهم للقضاء على مخاوفهم في وقت يسود فيه قدر كبير من عدم اليقين الطبي لن يفيد في شيء. في الواقع، كانت بانديت تقايض المخاطر قصيرة المدى (التسبب في غضب مسؤولي الحكومة وتشجيع الموظفين المتمردين) لتحقيق فوز محتمل على المدى البعيد (مستشفى خالٍ من أي "أخطاء طبية يجب ألا تحدث أبداً").

أرادت أيضاً الحفاظ على قوتها القسرية لفترة ريثما تحتاج حقاً إلى استخدامها. وفي مارس/آذار 2020، لم يكن لدى أي شخص أي توقعات حول مدة استمرار جائحة فيروس كورونا المستجد ومدى خطورتها ونوعية القرارات القيادية اللازم اتخاذها خلال تلك الفترة. وقد يكون إهدار هذه القوة بهذه السرعة مكلفاً للغاية.

وفي أثناء تحديد مسار تطور قواك، فكّر في الطرق الثلاث الأساسية التي يمكن ممارستها من خلاله: ضمنياً من خلال الثقافة المؤسسية، وبشكل غير مباشر من خلال التحكم في جدول الأعمال، وبشكل صريح من خلال التفاعل المباشر (من قِبَلك أو من قِبَل الآخرين الذين يعملون نيابة عنك). ويُعتبَر النهج الأول بشكل عام أفضل من النهجين الآخرين، لأن التأثير في النتائج من خلال المعتقدات المشتركة يمكن أن يعزز القوى، في حين أن الخيارات الأخرى يمكن أن تضعفها. لكن التفكير في جدوى كل طريقة يمكن أن يوجهك نحو اتخاذ القرار السليم.

ولو أن بانديت كانت قد مضت في طريقها نحو تنفيذ التحول الثقافي، لما هدّد الجراحون بالتمرد، لأنهم كانوا سيثقون حينها في أن الإدارة ستتعامل معهم بطريقة عادلة. لكن لا يمكننا أن نختار توقيت وقوع الأزمات، وكان على بانديت أن تبحث عن أساليب أخرى. ثمة أمر آخر واضح، وهو التحكم في جدول الأعمال. فقد واجهت بانديت في مارس/آذار 2020 العديد من المشاكل في أثناء مزاولة مهمات منصبها بخلاف مخاوف الجراحين. كان من بينها إنشاء أجنحة لعزل المصابين بفيروس كورونا المستجد، وتدريب الأطباء على تصنيف أولويات المرضى القادمين إلى المستشفي للتعرُّف على مدى احتياجهم لأجهزة التنفس الصناعي وأسرّة وحدة الرعاية المركزة التي شهدت شُحاً متزايداً خلال تلك الفترة، وتحديد أقسام المستشفى التي يمكنها الحصول على معدات الحماية الشحيحة وإجراء اختبارات الكشف عن الإصابة بعدوى "كوفيد-19"، وصياغة السياسات المتعلقة بإجازات طواقم العمل لضمان تجديد أفراد الفريق لطاقتهم وحيويتهم باستمرار في مواقع العمل الميداني للتعامل مع الزيادة المتوقعة في أعداد المرضى، وما إلى ذلك. ومن خلال إعطاء الأولوية لتلك القضايا وتقديمها على مخاوف الجراحين، كان بإمكانها أن تنقل لهم قرارها بصورة ضمنية. لكنها كانت تخشى أن يؤدي التلاعب بجدول الأعمال بهذه الطريقة إلى تقويض ثقتهم فيها.

وبدلاً من ذلك قررت التفاعل معهم بصورة مباشرة. ولكنها أرادت الحفاظ على قوتها القسرية وكانت قوتها التبادلية محدودة، لذا طلبت من الجراحين الحصول على إرشادات حول كيفية التعامل مع هذا الموقف. لقد تخلت في واقع الأمر عن سلطتها القسرية ومنحتها لهم، معتبرة إياهم وكلاء لها. وقد آتت تجربتها ثمارها: فقد تراجع الجراحون بعد أن أدركوا أن مخاوفهم كانت مجرد نقطة في بحر متلاطم، إذا نظروا إليها من منظور القوى. وقد تجسّدت نصيحة روثليسبيرغر في قرار بانديت: فقد توصلت إلى نسخة مستقبلية من "مستشفيات جامعة أوكسفورد"، نسخة ذات ثقافة أكثر اعتماداً على الثقة المتبادلة لإيجاد حل للأزمة الحالية.

الخطوة الخامسة: تجديد القدرة على التحمل

أقر وأعترف بأن اتباع الخطوات المحدَّدة ضمن إطار العمل الذي قدمته يتطلب بذل الكثير من الجهد. وبالتالي، فإن تجديد القدرة على التحمل، على المستويين المؤسسي والفردي، يُعتبَر في حد ذاته جزءاً من إطار العمل. وأعني بعبارة "القدرة على التحمل" القدرة على التعافي من الصدمات السلبية. ولا شك في أنها تشمل القدرة على التعامل بنوع من الذكاء مع المخاطر والإخفاقات ذات الصلة.

القدرة المؤسسية على التحمل. تنبع القدرة المؤسسية على التحمل من توزيع مسؤوليات صناعة القرار بين الممثلين الموثوق بهم والأكفاء الذين يلمسون الحقائق عن قرب على أرض الواقع. وتتطلب توافر ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد "العقود العرفية"، أي التفاهمات الضمنية بين المدراء والموظفين حول القيم التي تنبني عليها قرارات كل جانب وردود فعله على قرارات الآخرين. ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة "تويوتا"، خاصةً نظام "حبل أندون" (Andon Cord) المُستخدَم في الكشف عن الأعطال. حيث يتم تشجيع العمال في خط التجميع على سحب الحبل إذا لاحظوا وجود عيب محتمل في عملية التصنيع، ما قد يؤدي إلى وقف العملية برمتها بتكلفة كبيرة.

وليست هناك قواعد محدَّدة حول التوقيت المناسب لسحب الحبل. فلو كان من الممكن تحديد أي منها، لكان السلك غير ضروري بالمرة، ولكانت الموثوقية منخفضة التكلفة سهلة المنال، بخلاف الوضع القائم الآن. وبدلاً من ذلك، فإن العاملين في خطوط الإنتاج والإدارة لديهم تفاهمات ضمنية بأن الطرف الأول لن يتسرّع بسحب الحبل وأن الطرف الأخير لن يعاقب الطرف الأول إذا تم سحب الحبل (أو لم يتم سحبه) عن طريق الخطأ. وقد حاولت شركات السيارات الأخرى على مدار سنوات محاكاة نظام "تويوتا"، لكنها فشلت بسبب عدم القدرة على ترسيخ فكرة "العقود العرفية" الضرورية في هذا السياق.

وتتأثر قدرة المؤسسة على التحمل أيضاً بمدى قدرة قادتها على إدارة حالة الشد والجذب بين التعامل مع المشاكل اليومية والتخطيط لإدارة آفاق المستقبل بشكل أفضل. وقد اختارت بانديت التغيير الثقافي كأولوية قصوى لها، بدايةً من قائمة المهمات الطويلة التي كان عليها مراعاتها وصولاً إلى تمرد الجراحين المحتمل. لكن لماذا التركيز على ما هو غير ملموس، في حين أن الكثير من الأشياء الملموسة تحتاج إلى الاهتمام؟

يقدم خبير القدرات القيادية، ستيفن كوفي، إجابة عن هذا السؤال: غالباً ما يخلط المدراء بين الأمور العاجلة والمهمة. فهناك دائماً مشكلات "عاجلة" على جدول أعمال المدير، خاصة في الأزمات، وقد تؤدي الاستجابة لها على وجه السرعة إلى استنفاد كل طاقاته. لكن كلما زاد تركيز القادة على مكافحة الحرائق، قل تركيزهم على الوقاية من نشوب الحرائق، وزاد عدد الحرائق التي سيحتاجون إلى إخمادها في المستقبل.

ولو أن بانديت لم تعطِ الأولوية للتغيير الثقافي في مارس/آذار 2020، لما استطاعت معالجة شلال القرارات العاجلة التي انهالت عليها خلال فترة تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد التي استمرت لأمد زمني طويل. لذا قررت الاستمرار في بناء ثقافة سلامة المرضى والثقة في الإدارة وإدارة المخاطر بطريقة ذكية، وليس لاستبعاد التعامل مع حالات الطوارئ ولكن بهدف ضمان التعامل مع المزيد منها بواسطة ممثلين موثوقين وأكفاء.

القدرة الشخصية على التحمل. ربما يكون هذا هو العنصر الأصعب منالاً في إطار العمل. إذ يحجم المدراء عن الحديث عن القدرة الشخصية على التحمل لأنهم يخشون أن يؤدي حديثهم عنها إلى التنبيه إلى عدم وجودها. وقد لخصت فيما يلي الرؤى المستمدة من دراسات سابقة، وصنّفتها إلى 3 دروس مستفادة.

لا تخلط بين التفاؤل والقدرة على التحمل. تشكّل العقلية الإيجابية أحد عناصر القدرة الشخصية على التحمل، ولكن عند ممارسة الإدارة في عصر الغضب، يجب تحقيق التوازن بينها وبين إعادة تقييم الوضع الحالي بصورة مستمرة للسماح بإعادة تقويم الاستراتيجية والأساليب المُستخدَمة. وقد استوعب المؤلف والمستشار جيم كولينز الفارق بين الأمرين عندما نصح القادة بضرورة التحلي بالإيمان الراسخ بقدرتهم على إحراز النصر في النهاية والانضباط اليومي للاعتراف بالحقائق القاسية والتعامل معها.

احذر العجز المكتسب. غالباً ما نخلق سرديات مغلوطة عن المِحَن. ولا شك في أن تسريحنا من العمل تجربة مؤلمة تؤثر سلباً على تقديرنا لذاتنا، لذا فإن الشخص الذي يواجه فيما بعد بيئة عمل صعبة قد يعزو ذلك إلى إخفاقاته الشخصية ويجد صعوبة في مواجهة التحديات. ويستلزم التغلب على هذا العجز المكتسب الاعتراف بالمنطق الخاطئ لتصوراتنا الذهنية الذي يتطلب عادةً الحصول على دعم خارجي من خلال ما يسميه الخبراء العلاقات البنَّاءة النشطة. على سبيل المثال، تعتبر كريسيدا ديك أن وجود مجتمع من الأصدقاء الموثوق بهم أمر لا غنى عنه.

تعزيز الانفصال. وفقاً للفيلسوف الرواقي القديم ابكتيتوس، فإن "المهمة الرئيسية في الحياة هي ببساطة: تحديد الأمور وفصلها حتى أستطيع أن أحدِّد بوضوح الأشياء الخارجية التي لا تخضع لسيطرتي وتلك التي لها علاقة بالخيارات التي أتحكم بها فعلياً". وقد انجذبت إلى هذه الفلسفة من قبل بعض الأبطال في دراسات الحالة التي أجريتها، بعد أن لاحظت أن المدراء الناجحين في عصر الغضب غالباً ما يُظهِرون تحليهم بالفلسفة الرواقية. وكثيراً ما يُساء فهم هذه الطريقة على أنها تدعو إلى انعدام المشاعر في مواجهة كل من اللذة والألم. لكن أنصار الفلسفة الرواقية يرون أن الهدف ليس إنكار المشاعر بل تجنب المشاعر المرضية.

وقد جادل كارل بوبر، أحد أكثر فلاسفة القرن العشرين تأثيراً، بأن العلم يتقدم من خلال دحض نظرياتنا حول العالم، وهي عملية نقدية مستمرة. ومن المفارقات العجيبة أنه كان معروفاً أيضاً بـ "عدم قدرته على قبول النقد من أي نوع"، على حد تعبير آدم غوبنيك. وبعد ملاحظة هذا الانفصال، خلُص غوبنيك إلى أن "الأمر لا يقتصر على أننا لا نرتقي لمُثُلنا العليا ولكننا لا نستطيع ذلك، لأن مُثُلنا العليا هي بالضبط ذلك الجانب الشخصي الذي لا نعتبره مجرد جزء من الحياة على الفور".

أطمح كل يوم إلى إطار العمل الذي تم استعراضه هنا، ولكنني لا ألتزم به دائماً. وآمل أن يريح هذا الاعتراف ويشجّع زملائي المدراء الذين قد يكونون في حالة اضطراب في عالم تتصاعد فيه حدة الاستقطاب وتسوده حالة من عدم اليقين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .