كثيراً ما تنشأ مواقف سوء الفهم غير المتوقعة عن التباين الثقافي في أنماط القيادة، فماذا عن نمط الإدارة في بروكسل وبوسطن تحديداً؟
لقد اعتاد الأميركيون، على سبيل المثال، الاعتقاد بأن اليابانيين يعتمدون التراتبية الهرمية في القيادة، بينما يرون أنفسهم دعاة للمساواة. ومع ذلك، يجد اليابانيون أن التعامل مع الأميركيين أمر مربك، فرغم أن المدراء الأميركيين يدعون إلى المساواة ظاهرياً- حيث يشجعون مرؤوسيهم على مخاطبتهم بأسمائهم الأولى والتعبير عن آرائهم في الاجتماعات- يرى اليابانيون أنهم استبداديون للغاية في طريقة اتخاذهم القرارات. وهو ما عبر عنه مدير ياباني يعيش في الولايات المتحدة، ويعمل لدى شركة ميتسوبيشي بقوله: "لم أتمكن من التكيف مع التقلبات اليومية في ثقافة تحفل بأوجه التناقض وتبعث على الحيرة".
يشيع انتشار مثل هذه المشاكل التي يواجهها هذا المدير، فخلال سنوات عديدة من الأبحاث والاستشارات وتعليم المسؤولين التنفيذيين والمدراء في مئات الشركات العالمية، لاحظت شيوع سوء التفاهم بين الأشخاص الذين ينتمون إلى بلدان مختلفة، وعادةً ما يكون السبب في ذلك إخفاق المدراء في التمييز بين بعدين مهمين لثقافة القيادة. فماذا عن اختلاف الإدارة في بروكسل وبوسطن مثلاً؟
يتمثل أول هذين البعدين في شيء نعرفه ونألفه جيداً حول الإدارة في بروكسل وبوسطن تحديداً، ألا وهو: السلطة، فما مقدار الاهتمام الذي نوليه لمركز الشخص أو مكانته، وما مقدار الاحترام والتوقير اللذين نبديهما لمن يحتل هذه المكانة؟ فيما يخص هذا البعد، من الواضح أن اليابانيين أكثر تمسكاً بالتراتبية مقارنة بالأميركيين، إلّا أنّ المواقف تتبدل بعد ذلك عند النظر إلى البعد الثاني وهو صناعة القرار. فمَن هو صاحب الكلمة الأخيرة، وكيف؟ هل يقرر المدير وحده أم أن الفريق يشارك في عملية صنع القرار؟ فيما يخص هذا البعد الذي يتم غالباً غض الطرف عنه، يبدو اليابانيون أكثر حرصاً على إجماع الآراء وتوافقها من الأميركيين.
النهج الإداري الناجح في لاغوس لا ينجح بالقدر نفسه في ستوكهولم.
لا يمكن اعتبار مقاربات السلطة وصناعة القرار الصورتين الوحيدتين لاختلاف الثقافات، ولكن يمكن القول إنهما أكثر الصور أهمية في سياق القيادة، وإذا اختلط هذان الأمران على مدراء الشركات الدولية، فسوف يرتكبون أخطاء في تكييف أساليبهم القيادية بما يتناسب مع الثقافات والمواقف والأوضاع التي يواجهونها، (للمزيد من الأفكار العامة عن الاختلافات الثقافية، يرجى التفضل بقراءة مقالي "السير في حقل الثقافة المزروع بالألغام" (Navigating the Cultural Minefield) المنشور في عدد مايو/أيار 2014 بمجلة "هارفارد بزنس ريفيو").
والذي أستعرض فيه هذين البعدين وأثرهما على فاعلية القيادة في مختلف أرجاء العالم، مع التركيز بصورة خاصة على اتجاهات عملية صناعة القرار وأثرها في الفريق العالمي، وصولاً إلى رسم خريطة بالثقافات المختارة في ضوء كل من البعدين، ومقارنة التوقعات المطلوبة ممن يشغلون دور القائد.
اتجاهات السلطة
كان أكبر اتجاه للقيادة في الولايات المتحدة وأجزاء من أوروبا الغربية على امتداد القرن الماضي هو التخلي عن الإدارة التراتبية واتباع نهج يدعو إلى المساواة والتعاون، وحلت منهجية التمكين محل منهجية التحكم والسيطرة، وتم تدريب المدراء على التوقف عن إصدار الأوامر لموظفيهم واستبداله بمبدأ "الإدارة بالأهداف"، وسياسة الباب المفتوح، وتقويم الأداء بطريقة 360 درجة. وفي وقت مبكر من القرن ذاته أصبحت القاعدة المعمول بها هي مخاطبة المدير باسمه الأول بدلاً من لقبه الوظيفي، ثم ذابت التراتبية في الشركات وكادت تتلاشى أكثر وأكثر، عندما بدأ الرئيس التنفيذي اعتماد مبدأ "الإدارة بالتجوال"، وذلك من خلال إجراء مناقشات مرتجلة مع الموظفين من كافة المستويات دون إبلاغ مشرفيهم، ثم تحولت غرف المكاتب إلى مساحات عمل مفتوحة، ونظراً لأن معظم كتب الإدارة وأبحاثها لا تزال تصدر في الولايات المتحدة، فقد عززت الدراسة في كليات إدارة الأعمال هذا الاتجاه إلى حد كبير.
تظل اتجاهات استخدام السلطة هي الأكثر إثارة بين مظاهر اختلاف الثقافات، ففي نيجيريا يتعلم الأطفال الركوع على رُكبهم أو حتى الاستلقاء كعلامة على الاحترام عند دخول من هو أكبر منهم سناً إلى الغرفة، أما في السويد فينادي الطلاب معلميهم بأسمائهم الأولى، بل لا يترددون في إبداء الاختلاف معهم أمام زملائهم في الفصل دون أن يكون في ذلك أدنى إشارة إلى عدم الاحترام، لذا لا عجب أن نجد أن النهج الإداري الناجح في لاغوس لا ينجح بالقدر نفسه في ستوكهولم.
لا بد من استيعاب هذا الفارق، لأن أعظم الفرص التجارية بوجه عام تكمن في الاقتصاديات الناشئة الكبيرة، ومن أهمها بنغلاديش والصين والهند وإندونيسيا وروسيا وتركيا، وجميعها تقريباً يعتمد ثقافة ترسخ مبدأ التراتبية واحترام السلطة في نفس المواطن. أما الإدارة التقليدية المتمثلة في نقل السلطة إلى صغار الموظفين في المؤسسة، فلا تلائم الأسواق الناشئة بسهولة، وغالباً ما تؤدي إلى عرقلة عمل الشركات الغربية في أول مشاريعها في الخارج.
لنضرب مثلاً على ذلك بشركة أميركية عملت معها قبل عامين، ولنسمّها "تشيل فاكتور" (Chill Factor) المتخصصة في تقديم حلول تبريد مبتكرة للمستهلكين والشركات الصغيرة، واصلت "تشيل فاكتور"- خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية- تدريب موظفيها على أحدث أساليب القيادة القائمة على المساواة، وتشجيع الموظفين في المستويات الوظيفية المنخفضة على تبني روح المبادرة، فيما حرصت على تعليم المدراء ترك أبوابهم مفتوحة، وقبول تقويم الأداء بطريقة 360 درجة، وتحديد الأهداف النهائية بدلاً من سياسة إصدار المراسيم. وعلاوة على ذلك، أقدمت الشركة على إعداد أكثر الهياكل التنظيمية تبسيطاً وأقلها تراتبيةً. وقد ساعدت هذه الثقافة التقدمية الشركة على جذب المواهب والحفاظ على حماسة الموظفين واندماجهم، فكانت قوة العمل بأكملها تموج بالإبداع والابتكار.
وبعد عقود من النجاح في الولايات المتحدة، قفزت "تشيل فاكتور" قفزة كبيرة، وتفاوضت على مشروع استثماري مشترك مع إحدى الشركات في مدينة هانغتشو بالصين، ولكن لم تكد تمضي بضعة أسابيع، حتى أعلن مدراء "تشيل فاكتور" عن شكواهم من غياب روح المبادرة لدى موظفيهم الصينيين، وهو ما أعرب عنه أحد المدراء بقوله:
يرى الموظفون الصينيون أن مهام وظائفهم لا تملي عليهم اقتراح أفكار أو تقديم مقترحات لقادتهم. فهم يتبعون التعليمات فحسب، ولا يتطوع المرؤوسون بتقديم الحلول، بل يكتفون بعرض المشاكل فقط، ومقياس النجاح عندهم هو تنفيذ ما يؤمرون به بإتقان، عندما يُطلَب منهم. ولكنني أنتظر منهم اقتراح أفكار جديدة وتقديم المعلومات لمدرائهم حتى نتمكن من اتخاذ أحسن القرارات لصالح الشركة.
وفي إحدى الجلسات مع مجموعة من المسؤولين التنفيذيين الأميركيين وعشرات من زملائهم الصينيين، طلبت من المدراء الصينيين العمل كمجموعة صغيرة وتقديم نصائحهم لنظرائهم الأميركيين حول كيفية التعامل مع موظفيهم الصينيين بصورة أكثر فاعلية، وقد اجتمعوا معاً، ثم قدموا توصياتهم التي ورد فيها:
إذا أرادت "تشيل فاكتور" تحقيق النجاح في الصين، فنأمل من زملائنا الأميركيين أن يتفضلوا بإجراء بعض التغييرات:
- قبل حضور اجتماع مع موظفيك، عليك إعداد المزيد من الأفكار لنفسك.
- يجب أن تكون أكثر تحديداً في توجيهاتك المقدمة لموظفيك.
- ضع خطتك قبل إسناد العمل لمرؤوسيك.
صعق المدراء الأميركيون وطلبوا المزيد من التفاصيل، حيث أوضح أحد المسؤولين التنفيذيين بشركة "تشيل فاكتور" في وقت لاحق قائلاً: "كان أكثر التعليقات إثارة للدهشة من زملائنا الصينيين هو أننا لم نكن غير أكفاء فحسب في عيون موظفينا بل ومتعجرفين أيضاً، لأننا لم نخصص وقتاً كافياً لنشرح لهم بدقة وتفصيل ما أردنا منهم تنفيذه وكيفية تنفيذه". لقد كانت لحظة تعلّم ثمينة لهذه الشركة التي بدأت تتراجع عن بعض ممارسات المساواة التي كانت تعتبرها منذ زمن طويل أفضل منهجية في التعامل مع الموظفين.
لا شك أن من يملكون بعض الخبرة الدولية لن يفاجؤوا من إذعان المدراء الصينيين لرؤسائهم، وأن الموقف الأميركي تجاه السلطة لا يصلح دائماً للتطبيق خارج الولايات المتحدة، لكن فهم الاختلافات في المواقف تجاه التراتبية والمكانة، كما لاحظنا، ليس هو القصة كلها.
اتجاهات صناعة القرار
يفترض الكثير من المسؤولين التنفيذيين والمدراء أن المجتمعات الأكثر هرمية تعتمد آلية صنع القرارات في القمة بواسطة الرئيس، أما في الثقافات الأكثر مناصرة للمساواة، فيتم التوصل إلى القرارات بإجماع آراء المجموعة. ومع ذلك لا نجد تلك العلاقة الترابطية دوماً بين التسلسلات الهرمية ومنهجيات صناعة القرار على المستوى العالمي.
وتعتبر الولايات المتحدة خير مثال على ذلك، فقد أصبحت ثقافة الشركات الأميركية أكثر مناصرة للمساواة خلال العقود الأخيرة، ولكن من الواضح أن صناعة القرار بإجماع الآراء ليس هو القاعدة المتبعة، إذ تفضل الشركات الأميركية اتخاذ قرارات سريعة ومرنة، وبالتالي تظل سلطة صناعة القرار ممنوحة لفرد واحد (عادة ما يكون المدير). وفي ظل استنكار مبدأ "الشلل التحليلي" والإيمان بأن "أي قرار أفضل من لا قرار"، يمكن للمدير الأميركي التماس المدخلات من فريقه، ولكنه في النهاية يظل هو المنوط به اتخاذ القرار النهائي. وفي معظم الأحوال لا يجد أعضاء الفريق بأساً في هذا، بل يتوقعونه أيضاً. وهكذا يمكن وصف ثقافة العمل في الولايات المتحدة بأنها ثقافة تدعو إلى المساواة، ولكنّ القرارات تُصنع فيها من القمة إلى القاعدة.
في ثقافات صناعة القرار من القمة إلى القاعدة (كما في الهند وإيطاليا والمكسيك والمغرب وروسيا أيضاً)، تُتخَذ القرارات بسرعة، ولكنها تبقى عرضة للتغيير بمجرد ظهور مدخلات أو معطيات جديدة. وعندما يصرح أصحاب هذه الثقافات بأنهم توصلوا إلى قرار، فهذا لا يعني أنه التزام ثابت بل رمز عام للقرار يمكن تعديله لاحقاً.
قارن ذلك مع ما يحدث في ألمانيا واليابان وهولندا والسويد، إذا كان قد سبق لك التعامل مع شركات في تلك الدول، فربّما لاحظت أن الكثير من الأشخاص يشاركون في عملية صناعة القرار، وأن التفاوض للوصول إلى حل توافقي يرضي المجموعة كلها يستغرق وقتاً طويلاً، ولكن ما إن يُتخذ القرار حتى ينفَّذ بسرعة مذهلة، لأن كل التفاصيل قد روعيت، وكان أصحاب المصلحة على علم بما يجري في أثناء السعي إلى الحصول على إجماع الآراء، وفي هذه الثقافات التوافقية يبدو أن كلمة (Decision) "قرار" تبدأ بحرف "D" كبير، في إشارة إلى التزام لا يمكن (ولا يجب) تغييره بسهولة.
إذا توصلت المجموعات إلى قرارات بطرق مختلفة، فكن صريحاً بشأن الإجراءات المتبعة.
تتوافر مقومات النجاح لكلا النظامين، ولكلٍّ منهما مزاياه، فنظام حرف "d" الصغير لصناعة القرار من القمة إلى القاعدة، يلائم القطاعات التي تتميز بسرعة وتيرة التغيير، وتعتبر فيه سرعة الطرح في السوق بمثابة إعلان عن كمال المنتج. أما نظام حرف "D" الكبير الخاص بالثقافات التوافقية، فهو رائع للقطاعات التي تطول فيها مدة الجداول الزمنية للتطوير ويعتبر فيها الكمال مقوِّماً أساسياً للمنتج، وقد لا يكون مفاجئاً أن دولتين كبيرتين في دعم ثقافة "D" هما ألمانيا واليابان تصنفان من بين أعظم دول العالم في صناعة السيارات.
تنشأ المشكلات عندما يكون لدى أعضاء الفريق الواحد قواعد سلوكية مختلفة، فما الذي قد يحدث، على سبيل المثال، عندما تستحوذ شركة يابانية كبيرة تعتمد نظام "D" التوافقي على شركة أميركية صغيرة تعتمد نظام "d" لصنع القرارات من القمة إلى القاعدة؟ هذا ما حدث بالفعل عندما أصبحت شركة "سنتوري" (Suntory) المساهم الأكبر في شركة "بييم"، حيث يكشف نجاح هذا الاستحواذ عن بعض الاستراتيجيات المفيدة للتحول بأمان من نظام "D" إلى نظام "d" التعاوني.
فقد استخدم مدراء "سنتوري" نظام "D" التوافقي لصناعة القرار وفقاً للتقليد المتبع في اليابان. وهو ما أوضحه أحدهم بقوله:
في شركة "سنتوري"، نعتمد الهيكل التراتبي في الإدارة، ولكن غالباً ما تصنع القرارات بالإجماع، فيناقش مدراء الإدارة الوسطى المقترح فيما بينهم، ويتوصلون إلى إجماع الآراء قبل عرضه على مدراء المستوى الأعلى، ثم يناقش مدراء المستوى الأعلى المقترح بأنفسهم ويتوصلون أيضاً إلى اتفاق، فإذا أجمعوا على المقترح فإنهم يحيلونه إلى المستوى التالي للموافقة عليه، وهكذا وصولاً إلى القمة.
هناك كلمتان شائعتان في الشركات اليابانية يمكنهما توصيف هذا النظام التوافقي، الأولى "نيماواشي" (nemawashi)- أي التحدث مع كل صاحب مصلحة منفرداً قبل الاجتماع من أجل صياغة قرار المجموعة وبناء الاتفاق مسبقاً، والثانية "رينغي" (ringi)، وهي كلمة تنطوي على معنى تمرير مقترح من مستوى إلى المستوى الأعلى، بدءاً من القاعدة، ثم الانتقال عبر المستويات الإدارية الوسطى، ثم العليا حتى الوصول إلى القمة.
يعمل هذا النظام على نحو جيد، شرط أن يفهمه الجميع ويتبعوه، والسبب وراء نشأة المشكلات في "سنتوري" و"بييم" أن المدراء في أحد الجانبين لم يفهموا آلية صناعة القرار من قبل المدراء في الجانب الآخر، وتمثل تجربة مدير أميركي من "بييم" توضيحاً رائعاً، يقول:
واجهتنا مشكلة تمثلت في ضرورة اتخاذنا لأحد القرارات، وهو ما استلزم السفر إلى اليابان، وكان حضور المدير الياباني المسؤول أمراً أساسياً، لذلك ظننت أن هذه ستكون اللحظة المثالية للتأثير في توجهاته، فأعددت بعض شرائح الباوربوينت لعرضها في الاجتماع إلى جانب مقترحي، وخلال الاجتماع صار من الواضح أن القرار اتخذ بالفعل بواسطة المجموعة، وكان مختلفاً عن المقترح الذي أعددته، وباءت محاولات النقاش والإقناع خلال الاجتماع بالفشل، ولم يكن لها أي تأثير على الإطلاق.
من الواضح أن تعلم منهجيات الثقافات الأخرى والتواؤم معها أمر مهم، فمن خلال التجربة والخطأ وطرح الأسئلة، اكتشف المدير القادم من "بييم" أن افتراضاته حول آلية صناعة القرارات وتوقيتها كانت نتيجة لتجربته في العمل في الولايات المتحدة، وبمرور الوقت تعلم أن يقدم مُدخَلاته إلى "سنتوري" في وقت مبكر. أما إذا كنت تدير مشروعاً مقاماً بالتعاون بين مجموعتين تعتمدان أنظمة مختلفة في صنع القرارات، فإن المرونة ومواءمة أسلوبك الفردي غير كافيين، بل يجب أن تكون صريحاً أيضاً بشأن عملية صناعة القرار، وتحديد ما إذا كانت القرارات تُصنع بالإجماع أو يقررها المدير المسؤول، وتأكيد ما إذا كانت هناك حاجة إلى إجماع بنسبة 100%. كما يتعين عليك توضيح ما إذا كان الموعد النهائي لاتخاذ القرار ضرورياً، وإذا تم تحديده فما حجم المرونة المتاحة لتغييره.
لنأخذ المشروع الألماني الأميركي الذي عملت عليه كمثال. في بدايات المشروع ناقش أعضاء الفريق من كلا البلدين قراراً محورياً قبل الاجتماع مع مدير الشركة في الولايات المتحدة، وتوصل الفريق إلى تصور محدد، وبدا الجميع متوافقين عليه بإجماع الآراء، ولكن في أثناء انعقاد الاجتماع، وبعد مناقشة قصيرة للغاية، أعلنت المديرة قرارها الذي جاء متعارضاً مع توصيات الفريق، فاتفق الأميركيون جميعاً معها دون أدنى رد فعل، أما أعضاء الفريق الألماني فأبدوا استياءهم البالغ من هذا التحول في مجريات الأمور، حيث خلصوا- ليس فقط إلى أن المديرة الأميركية متعجرفة- بل اعتبروا أيضاً أن زملاءهم الأميركيين منافقون.
وبالطبع لم تكن هذا الانطباعات في صالح العلاقات بين أعضاء الفريق، حتى بات الموقف مشحوناً للغاية فيما يتعلق بمعنى كلمة "قرار"، وصرح أحد أعضاء الفريق الألماني قائلاً:
في نهاية اجتماع قصير، تعلن المديرة المسؤولة: "عظيم! لقد توصلنا إلى قرار". بالنسبة لشخص ألماني، فإن قولك: "سنفعل شيئاً" وعد مُلزم، ولا يمكنك تغيير رأيك في اليوم التالي ببساطة. هذا يعني أننا- نحن الألمان- كنا سنقضي أياماً في العمل على التنفيذ، ثم يتصل بنا أحد الأميركيين، ليقول دون مقدمات: إننا سنتخذ اتجاهاً آخر، أو يبلغنا أن المديرة سوف تعرض لنا المزيد من البيانات التي تشير إلى مسار مختلف.
لم يستطع الألمان خلال الأشهر القليلة الأولى من المشروع، تغيير شعورهم بأن زملاءهم الأميركيين في الفريق كانوا مراوغين، حتى تحدث أحد المدراء إلى رئيسه الأميركي عن الموقف، وكانت المحادثة مفيدة لكل منهما، حيث علق الألماني قائلاً: "فهمت حينها أن القرار بالنسبة للأميركيين هو مجرد اتفاق لمواصلة المناقشات، ولو كنت أميركياً لفهمت ذلك، ولكن بالنسبة للألماني الذي يعتبر القرار التزاماً نهائياً بالمضي قدماً في الخطة، يمكن لهذا أن يسبب الكثير من الالتباس".
ففي الشركات التي تعتمد ثقافة توافقية تدعو إلى المساواة لن يتخذ المدير قراره فجأة.
ولإعادة التعاون إلى مساره السليم نظم المديران اجتماعاً خارج مقر العمل، ناقش أعضاء الفريق افتراضاتهم حول الآلية التي ينبغي اتباعها لاتخاذ القرارات، وما تعنيه كلمة "قرار" في ثقافة كلّ منهم. ووضعوا نظاماً يحقق الوصول الجماعي إلى القرارات، وحددوا مدى المرونة التي يمكنهم ممارستها. وفي سبيل تحقيق تلك الغاية استخدموا التفريق بين نظام "D" ونظام "d". وفي الاجتماعات اللاحقة صار من الممكن أن يُسمع صوت أميركي يقول: "عظيم! تمّ اتخاذ القرار"، ويجب التوقف والتوضيح بأنّ القرار اتُخِذ وفق النظام "d"، أي أننا ما زلنا بحاجة إلى عرض هذا الأمر على زملائنا في الشركة الأم، ولذلك لم نبدأ العمل على تنفيذه بعد". وما إن برز الفارق الثقافي على السطح وصار معروفاً للجميع، حتى انطلقت مسيرة التعاون.
ثقافات القيادة الأربع
إنّ التمييز الواضح بين اتجاهات السلطة (من التراتبية إلى المساواة) واتجاهات صناعة القرار (من نهج صنع القرار من القمة إلى القاعدة، إلى النهج التوافقي) قطع شوطاً طويلاً وساهم إلى حدّ كبير في مساعدة القادة على أن يصبحوا أكثر فاعلية في السياق العالمي. وقد تبين أن الدول تختلف تمام الاختلاف في اتجاهاتها ما بين البعدين، كما ترى في الشكل التوضيحي "حصر ثقافات القيادة" الذي يعرض اتجاهات 19 دولة بتقسيمها في أربعة مربعات. والآن لنلقِ نظرة على توقعات الموظفين الرئيسية من القادة في كل مربع.
توافقي يدعو إلى المساواة: الدنمارك، هولندا، النرويج، السويد.
في بدايات حياتي المهنية، انضممت إلى فريق مكوّن من ثمانية أشخاص، كنت الوحيد غير الدنماركي بينهم، وبوصفي أميركياً مناصراً لمنهج المساواة سررتُ عندما أخبرني مديري بأن القرارات تتخذ بإجماع الآراء، ولكن عندما بدأت أتلقى رسائل البريد الإلكتروني، كانت أول رسالة منه هو شخصياً، ويقول فيها: "مرحباً زملاء الفريق، سيعقد الاجتماع السنوي في ديسمبر، وأعتقد أننا سوف نركز على الاتجاه نحو أن تصبح الشركة أكثر تركيزاً على العميل، فما رأيكم؟" ثم رسالة من أحد أفراد الفريق: "مرحباً بيير، فكرة عظيمة، ولكن أليس من الأفضل تركيز الاجتماع على كيفية تحقيق نجاح أكبر في تسويق خدماتنا؟" ثم من عضو آخر: "أعتقد أنه يجدر بنا إلقاء عروض تقديمية من جميع أعضاء الفريق حول استراتيجيات العميل الفردية". ثم بدأ الجميع يتبادلون الردود فيما بينهم وجميعها تنتهي بـ: "لم نسمع رأيك إرين، فما رأيكم؟" يبدو اتخاذ القرارات بإجماع الآراء فكرة عظيمة من حيث المبدأ، ولكن يمكن لمن ينتمون إلى ثقافات بعيدة عن ثقافة إجماع الآراء أن يجدوا في هذا الواقع مضيعة للوقت إلى درجة محبطة.
فإذا كنت تريد أن تحقق ازدهاراً في هذا الجانب، فإنك بحاجة إلى اتباع نهج القيادة التالي:
- توقع أن تستغرق صناعة القرار وقتاً أطول وأن يتطلب المزيد من الاجتماعات والمراسلات.
- ابذل قصارى جهدك لإظهار الصبر والالتزام طوال العملية، حتى وإن أدت الآراء المتباينة إلى خوض مناقشات طويلة ومتواصلة.
- لا تتوقع أن يتدخل المدير ليتخذ القرار نيابة عن المجموعة، فالمدير هو طرف ميسّر ومنسق، وليس صاحب قرار.
- قاوم إغراءات دفع أفراد المجموعة إلى سرعة اتخاذ القرار، تمهل للتأكد من أن القرار الذي تتخذونه هو أفضل قرار ممكن، لأنه سيكون من الصعب تغييره لاحقاً.
تراتبي وهرمي: بلجيكا، ألمانيا، اليابان.
قال لي مدير فرنسي من "دويتشه بنك" ذات مرة: "عندما انتقلت إلى ألمانيا، كنت أدرك أن ثقافتينا كلتيهما تراتبيتان، لذلك واصلت اتخاذ القرارات بنفس الآلية التي اتبعتها في فرنسا، وكانت تتمثل أساساً في إبلاغ المجموعة بقراراتي بعد نقاش جيد، حتى وإن علمت أن الكثير منهم لديهم آراء معارضة بشأن القرار الواجب اتخاذه". عندما تلقى هذا المدير التقييمات من أول مراجعة له للأداء بطريقة 360 درجة، شعر بالضيق من شكاوى موظفيه الألمان لأنه لم يشاركهم الرأي، ومن هنا أدرك أن الألمان توقعوا منه أن يستثمر وقتاً أكبر في كسب دعمهم قبل حسم قراراته، وهو أكثر مما كان ضرورياً في مؤسسة فرنسية.
إذا لم تكن معتاداً على ثقافة هرمية توافقية، فانتبه في هذا الجانب إلى ما يلي:
- إذا كنت مديراً فسوف يحترم فريقك قراراتك، ولكنّ أعضاء الفريق يرغبون في أن يكونوا جزءاً من عملية صناعة القرار ويتوقعون ذلك. وضّح الهدف من التماس الآراء والمُدخَلات من موظفيك.
- تحلَّ بالصبر وأشرك الجميع. خذ من الوقت ما يكفي لإشراك كل أصحاب المصلحة.
- بمجرد أن يبدأ قرار المجموعة في التبلور، احرص على الاستماع بعناية إلى من لديهم آراء معارضة.
- ركز على جودة المعلومات التي تمّ جمعها واكتمالها وسلامة عملية الاستدلال. تذكر أن القرارات في هذا الجانب هي التزامات لا يمكن تغييرها بسهولة.
من القمة إلى القاعدة وتراتبي: البرازيل، الصين، فرنسا، الهند، إندونيسيا، المكسيك، روسيا، المملكة العربية السعودية.
سبق أن تطرقنا إلى هذا المربع بالفعل في شركة "تشيل فاكتور" التي انتقل مدراؤها الأميركيون إلى العمل في الصين، واعتبروا أن موظفيهم الصينيين يفتقرون إلى روح المبادرة، في حين اعتبر الصينيون أن المدراء الأميركيين الجدد غير أكفاء.
إذا كنت تعمل في شركة تنتمي إلى هذا المربع:
- تذكر أن المدير هو الرئيس وليس الميسّر.
- إذا كنت المدير، فسينصاعون لك في العلن وربما في الجلسات الخاصة أيضاً، فلا تخجل من إخبار فريقك بالطريقة الأفضل لإظهار الاحترام.
- كن واضحا بشأن توقعاتك. إذا كنت تريد من موظفيك طرح ثلاث أفكار عليك قبل طلب رأيك أو تقديم المدخلات لك قبل اتخاذ القرار، فأخبرهم بذلك، فالعادات القديمة لا تتغير بسهولة، وهذا ينطبق علينا جميعاً، لذا عزز السلوك الذي تبحث عنه بوضوح ودقة.
- كن حذراً فيما تقول. قد تجد أن التعليق غير المباشر يتم تفسيره كقرار، فيبدأ الجميع فجأة ببناء هذا المصنع أو إعادة هيكلة ذلك القسم، بينما كنت تعتقد أنك قدمت فكرة للنقاش.
من القمة إلى القاعدة ويدعو للمساواة: أستراليا، كندا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة.
وصفت مديرة أميركية في البنك الدولي، سأسميها كارين، تحدياً واجهته مع موظف كوري انضم إلى فريقها مؤخراً قائلة: "عندما عينتُ غاي- صن للعمل معي في واشنطن، كان يحمل سيرة ذاتية مبهرة"، فقد ترقى عدة مرات حتى وصل إلى مراكز خولته لإدارة فرق كاملة في مختلف أنحاء آسيا، وبدا بمظهر الموظف الخبير بكيفية إنجاز ما يسند إليه من أعمال، إلا أن كارين سرعان ما لاحظت أن غاي- صن يرفض التعبير عن آرائه عند حضور الاجتماعات معها أو مع غيرها من كبار المدراء، ويكتفي بدلاً من ذلك بتأييدهم. تقول كارين: "كنت آمل إعداده للاضطلاع بدور أكبر في الإدارة، ولكن مع هذا الافتقار إلى الثقة بالنفس أيقنت استحالة تحقق هذه الأمنية".
يتطلب النجاح في بيئة تُصنَع فيها القرارات من القمة إلى القاعدة وتدعو إلى المساواة التصرف على النحو التالي:
- تحدث قبل اتخاذ القرار، بغض النظر عن موقفك. قد لا يُطلب منك المساهمة صراحة، ولكن أظهر المبادرة والثقة بالنفس واجعل صوتك مسموعاً، وفي الوقت نفسه اطرح وجهة نظرك بأدب ولكن بوضوح، حتى وإن بدت مغايرة لما يبدو أن رئيسك يفكر فيه.
- بمجرد البت في الأمر، خذ جانب رئيسك بسرعة وادعم القرار حتى ولو كان يتعارض مع الرأي الذي عبرت عنه سابقاً، لأنك إذا أظهرت اختلافاً في هذه المرحلة- وخصوصاً أمام الآخرين- فقد يُنظر إليك باعتبارك شخصاً يصعب العمل معه.
- تحلّ بالمرونة بعد اتخاذ القرار، فالقرارات في هذا المربع نادراً ما تكون عصية على التغيير، بل غالباً ما يمكن تعديلها أو إعادة النظر فيها في وقت لاحق إذا لزم الأمر.
خاتمة
بمجرد أن تدرك الفروق الدقيقة بين الإدارة في بروكسل وبوسطن ومختلف المنهجيات وتعقيداتها ستتخذ خيارات أكثر ذكاءً في جميع تعاملاتك في مختلف الثقافات كرئيس ومرؤوس. وقد تختار خلال مراجعات الأداء مع موظفيك المكسيكيين، على سبيل المثال، شرح النهج الخاص بك وتطلب من الفريق أن يتواءم معه. في الأسبوع التالي، في أثناء رئاسة اجتماع مع هؤلاء الموظفين أنفسهم، ربما تقرر أن التواؤم مع معاييرهم الثقافية بدلاً من أن تتوقع منهم التواؤم مع معاييرك سيحقق نتيجة أفضل.
خلاصة القول حول الإدارة في بروكسل وبوسطن تحديداً: قد تكون قائداً ناجحاً للغاية في ثقافتك، ولكنك إذا أردت تحفيز مرؤوسيك وإدماجهم في أي من دول العالم الأخرى فستحتاج إلى تبني نهج متعدد الأوجه، لأن معرفة كيفية القيادة بالطريقة الهولندية أو الطريقة المكسيكية أو الطريقة الأميركية أو الطريقة الصينية لم تعد كافية في الوقت الحالي، بل يجب أن تتحلى بالقدر اللازم من الدراية والمرونة لاختيار أفضل نمط في أي سياق ثقافي، ومن ثم تقرر كيفية التواؤم (أو عدم التواؤم) لإحراز النتائج التي تستهدفها.
اقرأ أيضاً: