عندما ينجح متسلقو الجبال في الصعود بسرعة إلى القمم الشاهقة، يعانون أحياناً من حالة تسمى الدوار الجبلي الحاد. إذا تركت حالة الغثيان والصداع الشديدين هذه دون معالجة فإنها تسبب الإنهاك ويمكن أن تفضي إلى الموت. فما علاقة هذا المثال بالأمور التي تُسقط المسؤولين التنفيذيين الجدد؟
"دوار المرتفعات" لدى الرؤساء التنفيذيين
خلال عملي على مدار أكثر من 30 عاماً كمستشار لكبار المسؤولين التنفيذيين، شهدتُ حالات من "دوار المرتفعات" بين صفوف هؤلاء المسؤولين الذين نجحوا في الصعود السريع في المستويات التنظيمية للمؤسسات. ولكن عند وصولهم إلى المستويات التنفيذية، يبدو هؤلاء المسؤولون وكأنهم مشوشون، وغير قادرين على التكيف، أو التقاط أنفاسهم، أو التأقلم مع هذه البيئة الجديدة.
ومن المعروف منذ عقود أن ما بين 50% إلى 70% من المسؤولين التنفيذيين يفشلون في غضون 18 شهراً من تعيينهم، حيث يهدف بحثنا إلى الكشف عن المشاكل التي قوضت جهود المسؤولين التنفيذيين الواعدين فور وصولهم إلى أعلى المستويات التنظيمية. وعبر أكثر من 2,700 مقابلة شاملة تمت في 148 مؤسسة يتراوح حجمها من 50 مليون دولار أميركي إلى 120 مليار دولار، وذلك حسب تصنيفات مجلة "فورتشن 10" (Fortune 10)، تمكنا من تحديد الأنماط الواضحة التي مكنت المسؤولين التنفيذيين المؤثرين من تجنب المخاطر الشائعة التي تحيط بالمسؤولين التنفيذيين الجدد.
كيفية تجنب الأمور التي تُسقط المسؤولين التنفيذيين الجدد
صرح 44% من المشاركين في الدراسة أنه لم يكن لديهم أي توقعات واقعية بشأن الأمور التي ينطوي عليها المنصب التنفيذي. ومن خلال الدراسة اكتشفنا مجموعة من العوامل المزعزعة للاستقرار، إلا أنه وعلى وجه الخصوص كان هناك أربعة "عوامل انزلاق" اتضحت فور استلام هؤلاء المسؤولين لمناصبهم تقريباً، وشوهت هذه العوامل الحقيقة أمام أعين المسؤولين التنفيذيين الجدد. إلا أن المسؤولين التنفيذيين الذين تمكنوا من اجتياز هذه الفترة الانتقالية الصعبة واستطاعوا تحقيق النجاح في نهاية المطاف، فقد كانوا على استعداد تام للمواجهة، إضافة إلى ابتكارهم أساليب مكنتهم من الالتفاف حول هذه العوامل. وفيما يلي سنعرض كيف نجحوا في تحقيق ذلك:
1- تجنب الظهور بشخصية تفوق حجمك وذلك من خلال بلورة صورتك الخاصة
فمع صعود القادة، تتغير نظرة الناس إليهم، وبسبب الطريقة العلنية التي يؤدون بها أدوارهم القيادية التي تقتضي التعامل مع الآلاف من الناس، فإنهم يصلون إلى مكانة المشاهير، حيث يُفتن الناس بكل ما يفعلوه. وهكذا سيبجل بعض الناس المسؤولين التنفيذيين الجدد، بينما سيخشاهم البعض الآخر. ونظراً لأن متطلبات المناصب التنفيذية تحد من إمكانية الوصول إليهم، يملأ الناس الفراغات الناتجة عن غيابهم بقصص مُختلقة. لقد فوجئ العديد من كبار المسؤولين التنفيذيين عندما علموا أن الناس يختلقون القصص عنهم. وبحكم دورهم الموسّع، أصبح حضور القادة أمراً ملموساً مهما بدا بعيد المنال، ويرجع ذلك جزئياً إلى ظاهرة التجسيد. فنظراً لتربع القادة على قمة هرم المهمات والأعمال التجارية، يجسد هؤلاء مؤسساتهم، فإذا تولوا قيادة عملية التسويق، سينظر إليهم سائر الموظفين في المؤسسة، على أنهم روح التسويق.
يتعين على القادة أن يتجنبوا تماماً تعريف الآخرين لهم، وبذلك لا يفسحون المجال لتلك الشخصيات الافتراضية أن تكون الصورة التي يعرفهم بها الآخرون. فكلما علا شأن القائد، اكتسبت سمعته المزيد من الأهمية، وخرجت عن حدود سيطرته المباشرة لدرجة أنها ستسبقه أينما ذهب. كما سيتم تداول اسمه في جميع أنحاء الشركة وعلى ألسنة أشخاص لم يتحدث معهم قط. فقد أشار 42% من المشاركين في الدراسة أنهم شعروا بأن البعض قد عزا أسباباً مختلفة وراء خياراتهم لا تمت لأسبابهم الفعلية بصلة. فعندما يتبين للقادة أن الآخرين يسيئون فهمهم، يجب أن يتحلوا بالشجاعة لمواجهة هذه التلفيقات الصريحة. كما يتعين عليهم وبكل تواضع أن يتحملوا مسؤولية الانطباعات التي أثارتها أفعالهم بطريقة ما، قبل أن تتاح الفرصة للآخرين لإذاعتها بطرق مشوهة لجمهور أوسع.
2- تحييد تأثير الأبواق عبر صياغة الرسائل الهادفة
ينطبق التشويش على كلمات القادة أيضاً، ولا يقتصر على صورتهم فقط، فيتم تضخيم أهمية كل ما يقولونه. ولذلك أصبح على المسؤولين التنفيذيين الآن تقبل فكرة أن تصريحاتهم تعلن في مكبرات الصوت على مدار الساعة طيلة أيام الأسبوع، حيث يتم تضخيم رسائلهم اللفظية والسلوكية منذ لحظة دخولهم إلى عالم المناصب الرفيعة. وجد أحد المسؤولين التنفيذيين الجدد الذي عملت معه مؤخراً أن الناس يحاولون التنبؤ بالمستقبل من خلال تعليقاته الجانبية، ويقول: "بينما أحاول تبادل دردشة بسيطة في المصعد يُنظر إليَّ على أني أحد الواعظين. ففي كل مرة أتفوه فيها بعبارة يتم ربطها بمعانٍ أخرى. لا أسمع سوى عبارة "لقد قال فلان" (يقصدونني)، حيث ينسب إليَّ البعض الأشياء التي لم أتفوه بها حتى تلك الأمور التي لم أفكر فيها قط".
لا يوجد مكان للدردشة في المستويات المؤسسية العليا، وفي المقابل لا ينبغي على القادة أن يصبحوا صارمين ورسميين، بل يجب أن يبقوا متيقظين لما يتوقعه الناس منهم، حيث يجب أن يكونوا واضحي النوايا ومحددين عند التواصل مع الآخرين. فقد صرح أحد المشاركين بحصافة: "لا تأخذ أبداً تأثير مركزك الوظيفي كتحصيل حاصل، حيث تحمل التعليقات والاقتراحات وحتى لحظات الصمت، وزناً أكبر بكثير الآن". كما تزداد أهمية الإجراءات والكلمات المحسوبة عندما تنتشر على نطاق واسع. لذلك يتعين على المسؤولين التنفيذيين الجدد أن يقاوموا إغراء إثبات أنفسهم بكلمات وإجراءات مندفعة سرعان ما ترتد عليهم، وبدلاً من ذلك، يمكنك تقليص المجازفة قدر الإمكان من خلال إمضاء الوقت الكافي لتكوين وجهة نظرك والتعبير عن أفكارك بدقة وصدق.
3- لا تستاء من البيانات المنتقاة، بل تعلم كيفية التعامل معها
من الشائع أن يجد المسؤولون التنفيذيون الجدد أن وصولهم إلى المعلومات غير المنقحة بات صعباً لحظة وصولهم للمناصب العليا. فقد انزعج مسؤول البحث والتطوير المعين حديثاً حين لاحظ كيف أن المعلومات التي كان له حرية الوصول إليها تضاءلت فجأة، وأصبح الأشخاص الذين اعتمد عليهم سابقاً لنزاهتهم يتصرفون بطريقة مختلفة الآن، وبذلك أصبحت المعلومات المنمقة أحد سبل تجنب الصراعات أو كسب الود.
تعد المعلومات الوسيلة الأساسية لبسط النفوذ داخل المؤسسات. وسواء كان تقديم المعلومات الصادقة للمسؤولين التنفيذيين آمناً أم لا، فإن هذا يعتمد على الكيفية التي يتفاعل بها القادة مع المعلومات الصادقة، فمن شأن ردود الفعل القاسية أن تؤدي إلى انتقاء البيانات بعناية. ولكن وبمجرد إثبات القائد لجدارته في تقبل الحقيقة، سيحصل تدريجياً على البيانات كاملةً، بالرغم من أنه لا ينبغي عليه أن يتوقع أبداً الوصول إلى جميع البيانات التي كانت متاحة أمامه سابقاً. لذلك يتعين على القادة أن يكونوا صريحين حول المعلومات التي يحتاجونها، وأن يدركوا مخاوف الناس، علاوةً على تبني الأسلوب المتناسق لتجنب الإشارات المختلطة غير المقصودة. حيث يُعد عدم التناسق السبب في خلق المخاوف التي تدفع الموظفين لانتقاء البيانات. إن استقبالك للحقائق القاسية والتعامل معها بكياسة وإخلاص من شأنه أن يزيد من إمكانية وصولك إلى "المعلومات السرية" التي تحتاجها لممارسة دورك القيادي بشكل جيد.
4- استوعب الغرباء المجاورين. فربما تصدر أخطر المغالطات من أقرب الناس إليك
قد تبدو العلاقات التي كانت ذات يوم تتسم بالألفة المريحة غريبة الآن، كما قد تصبح ردود فعل الآخرين مربكة، فقد بات الزملاء السابقون مرؤوسين مباشرين، أو على الأقل ما زالوا في المستويات الإدارية الأدنى، في حين أصبح الرؤساء السابقون مجموعة من الزملاء الجدد، حيث أشار 51% من المشاركين في الدراسة أن السياسات المتبعة في المستويات العليا جعلت من الصعب الوثوق بهؤلاء الزملاء الجدد. لذلك يتعين على المسؤولين التنفيذيين تولي منصبهم الجديد مع افتراض أن الأمور لن تبقى على حالها، على الرغم من أن شعورهم الداخلي هو "أنا لم أتغير".
يبذل المسؤولون التنفيذيون الناجحون الجهود الواعية لإعادة تحديد العلاقات ورسم حدود جديدة لها، حيث يناقشون بهدوء أموراً كالأولويات الجديدة، وإمكانية الوصول إلى المعلومات، وتدفق المعلومات، والتوقعات المشتركة حول النفوذ والخصوصية. قد يكون الأمر مربكاً بعض الشي، ولكن من خلال إعادة تعيين هذه الحدود، سيرسل القادة إشارات واضحة حول رغبتهم في إقامة علاقة مبنية على الثقة، وتجنب إحباط أمل الآخرين في توقعاتهم الخاصة.
وعلى الرغم من أن مواجهة المغالطات الترتيبية لا مفر منها كلما ارتفعنا في المستويات الإدارية، فإن كيفية استجابة المسؤول التنفيذي لها تقع ضمن نطاق سيطرته، وإذا كان أداؤك جيداً، ستتمكن من الاحتفال بانتصاراتك المبكرة بأسرع وقت بسبب النجاح في تجنب الأمور التي تُسقط المسؤولين التنفيذيين الجدد. لذا توقع مواجهة هذه المغالطات الأربعة، وستتمكن من تحويل تبعات التعطيل المحتملة إلى نجاح.