بعد ظهر أحد الأيام، أرسل أحد المدراء - وهي امرأة سوف نطلق عليها اسم "سعاد" - رسالة بريد إلكتروني إلى زميلها "مازن"، توضح له فيها سبب عدم إدراج اسمه ضمن اجتماع لمجموعة من المدراء التنفيذيين للشركة في وقت سابق من ذلك اليوم. ومر الأمر بين سعاد ومازن سريعاً وأصبح كل شيء على ما يرام، وأرادت سعاد أن تتأكد أن مازن لم ينزعج من الأمر. ومر يومان بعد ذلك ولم يكن البريد الإلكتروني قد تم الرد عليه. جعلت هذه الواقعة البسيطة سعاد تتشكك في العلاقة بينهما. ما السبب وراء هذه القسوة المفاجئة - هل انزعج مازن بالفعل وتضايق من الأمر؟ هل كانت العلاقة بينهما حقاً على ما يرام؟ كيف ستتصرف سعاد في المرة التالية التي تتقابل فيها مع مازن؟ وفي الوقت نفسه، سجّل مازن في قائمة مهماته اليومية "إرسال رسالة إلى سعاد"، ولكنه انشغل كثيراً لدرجة أنه لم يتمكن من ذلك. لم تكن لديه أدنى فكرة أن تأخر رده كان مصدر قلق كبير بالنسبة إلى سعاد.
اقرأ أيضاً: هل ما زال عملاؤك يفضلون التواصل البشري؟
التفاعلات مع الزملاء يمكن أن تكون في كثير من الأحيان مثار إرباك وقلق، فضلاً عن أنها قد تكون مصدر توتر. وهذه ظاهرة بدأنا نراها بانتظام في السنوات التسع تقريباً التي أمضاها كل واحد منا في دراسة علاقات العمل. على أي حال، فإن علاقتك مع زملائك في العمل يمكن أن تصنع أو تدمر طريقة شعورك حيال وظيفتك. فعندما تتوافق معهم، على سبيل المثال، فمن المرجح كثيراً أن تكون سعيداً في المؤسسة التي تعمل فيها وتكون مقتنعاً بها.
بَيْد أن بعض الأشخاص يميلون إلى النظر إلى علاقات العمل بطريقة خاطئة. جعل التطور البشر يقيّمون الحالات والظروف إما على أنها "جيدة" أو "سيئة" حتى يتمكنوا من التعامل مع التهديدات والفرص. ونحن نقيِّم - حسب الغريزة الفطرية - علاقاتنا مع الزملاء بطريقة مشابهة إما هذه أو تلك. تكمن المشكلة في أن هناك أنواعاً عديدة من علاقات العمل - جيدة، أو سيئة، وكل ما يمكن أن يندرج بين هاتين الصفتين. كما أن مجموعة كبيرة من الأبحاث لا تؤكد هذا فحسب، بل إنها تُظهر أن العلاقات الفردية غالباً ما تشمل مزيجاً من كلا الجانبين الإيجابي والسلبي.
اقرأ أيضاً: هل عليك التستر على أخطاء صديق في العمل؟
ينظر معظم الناس أيضاً إلى العلاقات بين زملاء العمل على أنها ثابتة: العلاقات الجيدة منها تظل دائماً سعيدة، لن تحرز العلاقات السيئة أي تحسن أبداً. ومن ثَم، فإننا نأخذ علاقاتنا الصحية على أنها أمر مسلم به، بدلاً من منحها ما تحتاج إليه وتقتضيه من اهتمام واستثمار. كما أننا نلغي من حياتنا تلك العلاقات التي أثارت استياءً لدينا، بدلاً من اتخاذ الخطوات لتحسينها. هذا، أيضاً نهج مضلل في التعامل مع العلاقات، لأن العلاقات مع زملاء العمل تتسم في واقع الأمور بالتقلّب وعدم الاستقرار: حتى تلك العلاقات الأكثر ضرراً يمكن إصلاحها، كما يمكن لتلك الأكثر إيجابية أن تنحدر وتتدهور سريعاً.
عندما تنظر عن كثب، سترى أن العلاقات بين زملاء العمل مكونة في الواقع من سلسلة من "الحركات البسيطة"- ونقصد بها تلك التصرفات الصغيرة أو السلوكيات التي تبدو غير متسقة أو منطقية في الوقت الحالي ولكنها تؤثر في طريقة تواصلنا بعضنا مع بعض. تشبه "الحركات البسيطة" الخطوات التي تميز الرقص. فأنت تأخذ خطوة، ثم يأخذ زميلك في العمل خطوة أخرى. كل خطوة، أو خطوة بسيطة، يمكن أن تغير اتجاه العلاقة. يشير الباحثون إلى أن عملاً صغيراً ينطوي على الامتنان أو المشاعر - مثل قولنا "شكراً" عندما يمسك لنا شخص الباب ليظل مفتوحاً حتى نمر منه، أو عندما نتفهم السبب الذي جعل هذا الشخص أو ذلك يتأخر عن وقت الاجتماع – يمكن أن يحقق التقارب بين الأشخاص، ويساعد في بناء الثقة على المدى الطويل. على الجانب الآخر، فإن شيئاً يبدو عادياً جداً، كتأخر رد مازن كما رأينا من قبل، يمكن أن يخلق جواً من التوتر والمشاعر السلبية التي قد تظل قائمة وعالقة بين الأشخاص لفترة طويلة.
تأتي العلاقات البسيطة في مجموعة متنوعة من النوعيات، ولكن بحسب البحث الذي أجرته كيري، فإن معظم هذه النوعيات إما تقرّب الناس بعضهم من بعض أو تبعدهم بعضهم عن بعض. وبعض هذه الحركات البسيطة يكون لها تأثير أكبر من غيرها: فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون لتعليق غير لائق في اجتماع لفريق العمل تأثير أكبر من فقدان مكالمة هاتفية جماعية وعدم الرد عليها. ولكن كل "الحركات البسيطة" تنطوي على القدرة على تحويل العلاقات بين زملاء العمل. وفيما يلي بضعة تصورات نسوقها كنماذج تمثيلية لما رأيناه في عملنا:
- وجود علاقة صعبة بينك وبين زميلك. تعلم أن والد زميلك قد وافته المنية مؤخراً. وتقرر حينها أن تمر على مكتب زميلك وتقدم له واجب العزاء. ينظر زميلك إلى هذه المحادثة وكأنها غصن الزيتون. وفي وقت لاحق من ذلك الأسبوع، يعرض عليك هذا الزميل مساعدتك في مشروع تعمل فيه.
- في وقت الغداء، تعتزم أنت واثنان من الزملاء الخروج لتناول طعام الغداء. وعندما تستعد لعرض فكرة دعوة زميلك الوحيد في الفريق للانضمام إليكم، إذ بك تقرر عكس ذلك لأن الآخرين دعوك للخروج للغداء. وعند العودة إلى المكتب، تلاحظ أن زميلك في الفريق قد بدا عليه الغضب الشديد. وبينما يغادر زميلك هذا العمل في هذا اليوم، يقول لك إنه لم يراجع التقرير الذي كان يتعين عليك إرساله كأول شيء تفعله في الصباح.
- ذات صباح، كنت تعمل مع عميل عن بعد عبر خدمة المؤتمرات عن بعد "ويب إكس" (WebEx). وبينما أنت تتحدث معه، كنت ترد من وقت لآخر على بعض رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية، ولم تكن تمنح حديثه القدر الكافي من الانتباه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، كنت تتراسل عبر الرسائل الفورية مع رئيسك في العمل، الذي يذكر لك أن العميل أعرب عن استيائه من سلوكك معه في مكالمة جرت بينكما مؤخراً.
هذه ليست سوى أمثلة قليلة نسوق بها كيف تعمل الحركات البسيطة على تحويل العلاقات. الإمكانات والنتائج لا تعد ولا تحصى. ولأن العلاقات تختلف كل الاختلاف بعضها عن بعض، فلن تتشابه ردود أفعال جميع الأشخاص فيما يتصل بالحركات البسيطة. على سبيل المثال، عندما درست كيري، ودانا هراري، وجنيفر كارسون تأثير إخبار زميلك في العمل بنقطة ضعف تراها فيه، وجدن أن هذا سوف يضر بالعلاقات بين الأشخاص في حالة إذا كان الشخص الذي أفشى نقطة الضعف يشغل مكانة أعلى، ولكن ذلك لن يسبب ضرراً حال كون ذلك الشخص زميل عمل نظيراً لك.
كيف، إذاً، يمكنك اكتشاف تلك الحركات البسيطة التي ستكون مفيدة؟ لقد توصلنا إلى 5 مبادئ توجيهية نسوقها فيما يلي:
فهم وجهة نظر زميلك. التأثير لا يتطابق دائماً مع النية أو القصد. إن ما يجعل الحركات البسيطة معقدة هو أننا جميعاً لدينا معايير مختلفة لتقييم تلك الحركات البسيطة. رأى مازن أن عدم الرد على البريد الإلكتروني لم يكن أمراً ذا بال، ولكن سعاد كان رأيها مختلفاً بالنسبة إلى هذا الأمر. لكن كان يجب أن تتوقف سعاد للحظة، وأن تفكر في موقف مازن بطريقة مختلفة: ربما يكون مازن قد عاد لتوه من رحلة عمل، وكان لديه قدر هائل من رسائل البريد الإلكتروني يجب عليه الرد عليها؟ هل كان مستغرقاً جداً في مشروع آخر؟ أو لنأخذ مثالاً على تقديم التعازي لزميل صعب. فإن هذه الحركة البسيطة قد تؤتي بنتيجة عكسية، إذا نظر زميلك إلى تصرفك على أنه غير صادق، بل ربما على أنه نوع من المناورة والتلاعب. ولذلك، فقبل أن تفعل حركة بسيطة، اسأل نفسك كيف سيكون رد فعلك أنت في حال كنت مكان الطرف الآخر المتلقي للتصرف. ثم عليك، بعد هذه الحركة، بقياس استجابة زميلك، وانظر فيما إذا كانت استجابته تتطابق مع توقعاتك. وفي حالة عدم التطابق مع توقعاتك، استعد لإلحاق تلك الحركة بحركات بسيطة إضافية.
لا بد أن تدرك أنه ليس كل الحركات البسيطة تكون مقصودة دائماً. إذا بدا أن الأمور قد خرجت فجأة عن المسار الصحيح مع زميل لك في العمل، فاعلم أن حركة بسيطة فعلتها على نحو غير مقصود هي السبب في ذلك. انظر في السيناريو متعدد المهمات الذي ناقشناه أعلاه. استخدم رد فعل عميلك كإشارة إلى أنه يتحتم عليك أن تكون أكثر وعياً بسلوكك. فتحديد سبب رد فعل زميلك يمكن أن يطوّق سوء الفهم الصغير ويحول دون تحوله إلى شيء أكبر. وفي ضوء ما ذكرنا، فإنه من المهم أن نلاحظ أن حركة بسيطة غير مقصودة ربما لا تكون دائماً سبب حدوث المشكلة. فإن معرفة وإدراك ما إذا كانت استجابة زميلك غير المتوقعة أمراً لا علاقة له بك، يمكن أن تكون بسيطة جداً مثل قولك بشكل مباشر: "لديّ إحساس أن شيئاً ما يزعجك. هل لهذا صلة بأي شيء فعلته أنا؟".
اقرأ أيضاً: ما الذي ينبغي على الحكومات أن تتعلمه من التواصل الفعال في الشركات الخاصة؟
افهم دورك في القصة. وكثيراً ما تسيطر علينا مشاعرنا إلى أبعد الحدود إلى درجة أننا نفتقر إلى الصورة الشاملة لعلاقاتنا مع زملاء العمل أو تأثير سلوكنا في تلك العلاقة. في حالة النظر إلى الموضوع نظرة خارجية وكأنك لست طرفاً في الموضوع، يمكنك الحصول على وضوح لديناميات علاقاتك. للحصول على مزيد من التبصّر، يلزم الإجابة عن هذه الأسئلة:
- كيف سيروي شخص موضوعي خارجي، ليس طرفاً في الأمر، قصة علاقة عملك؟ ما المزايا والتحديات التي تنطوي عليها هذه العلاقة؟
- كيف سيصف شخص خارجي، ليس طرفاً في الأمر، دورك في الموقف؟ هل سلوكك سيزيد من قربك من زميلك أم أنه يدفع زميلك بعيداً عنك؟
- ما النصيحة التي تعطيها لشخص آخر في مثل موقفك؟ هل هناك حركات محددة لديك تود أن توصي بها أو تنصح بعدم اتباعها؟
سجِّل حركاتك البسيطة في سجل يوميات. يُوصي الباحثون بكتابة اليوميات كأداة لتحسين أدائك. نعتقد أنه يمكن أن يساعد هذا أيضاً في خلق علاقات أكثر عمقاً وأكثر دلالة ونفعاً. إذا كانت هناك علاقة واحدة كنت ترغب في تغييرها، عليك أن تقضي بعض الوقت في تحديد الحركات البسيطة المختلفة التي فعلتها أنت وزميلك في العمل في التفاعلات الخمسة أو الستة الأخيرة فيما بينكما، بما في ذلك الردود التي أثارتها وانطوت عليها حركة من هذه الحركات البسيطة. على سبيل المثال، إذا اتخذت خطوة للأمام في علاقتكما (عن طريق طلب المساعدة من أحد الزملاء مثلاً)، هل تراجع زميلك خطوة للوراء (قائلاً إنه لم يكن لديه الوقت)، أم أنه رد عليك بطلب من النوع نفسه (طلب مساعدتك في مسألة ما)؟ تسجيل اليوميات يمكن أن يساعدك في التعرف على الأنماط في علاقاتك، والتي يمكن أن تضيء الطريق أمام الخطوات البسيطة التي قد تحسّن هذه العلاقات.
اعلم أنه لا تُفعل الحركات البسيطة "الجيدة" و"السيئة" بشكل متساوٍ. وربما نأمل في أن حركة من الحركات البسيطة التي تقرب زميلاً لك بقدر أكبر يمكن أن تعوض حركة تدفع ذلك الزميل بعيداً عنك. لسوء الحظ، فإن الحركات البسيطة التي تضر العلاقات بين الأشخاص يكون إنشاؤها أكثر سهولة وتكون أكثر قوة من تلك العلاقات النافعة والمفيدة. في بحث يكثر الاستشهاد به، يلاحظ روي باوميستر من جامعة كوينزلاند (University of Queensland) وزملاؤه أن آثار التفاعلات "السيئة" تفوق بكثير آثار تلك التفاعلات "الجيدة". وذلك إذا كنت تعتقد أنك قد اتخذت خطوة بسيطة ربما تكون قد أضرت بعلاقة ما لديك، حاول التفكير بقوة فيما لا يقل عن 6 حركات بسيطة يمكن أن تعوض بها تلك الحركة.
خلاصة القول حول موضوع الأمور التي تؤثر في علاقات العمل تحديداً، هي أن العلاقات بين زملاء العمل لها طابعها الخاص من التغير ما بين جيدة وسيئة. فأمامك كل يوم فرص لا تُحصى تشكل هذه العلاقات وتعيد تشكيلها. المفتاح الأساسي هنا هو إيجاد الحركات البسيطة التي تبني علاقات العمل التي تريدها مع زملائك، بدلاً من مجرد الركون إلى العلاقات لديك والاكتفاء بها.
اقرأ أيضاً: هل تبنين علاقات الصداقة في العمل مع من يشبهونكِ فقط؟