لقد بات مفهوم " الترغيب" أو "الندج" المأخوذ من اللفظ الإنجليزي "Nudging"الآن معروفاً على مستوى العالم. إذ بدأت عدة دول في عام 2010 بتطبيق مجموعة أفكار سلوكية بشكل منهجي ضمن حكوماتها حتى بتنا نرى اليوم أكثر من 200 مؤسسة في جميع أنحاء العالم تستخدم الترغيب باستمرار لتحسين تدخلاتها في مجال السياسة العامة. وقد استخدمت عدة دول شرق أوسطية المبادرات السلوكية، على غرار لبنان والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية. فماذا عن الأفكار السلوكية في المؤسسات حول العالم؟
لقد اُستخدمت الأفكار المستقاة من العلوم السلوكية والاجتماعية، بما في ذلك علم النفس والعلوم المعرفية وصنع القرار، في "ترغيب" الأفراد على اتخاذ خيارات أفضل لأنفسهم بداية من زيادة ما يضعونه في حسابات الادخار والتقاعد الخاصة بهم إلى تحسين الامتثال الضريبي ووصولاً إلى العادات الاجتماعية؛ وهناك العديد من الأمثلة ومجموعة متزايدة من الأدلة حول استخدام ذلك في مجالات أخرى مثل الصحة والتوظيف واستخدامات الطاقة وباقي الأمور المعيشية الأخرى.
الأفكار السلوكية في المؤسسات
ماذا عن ترغيب المؤسسات؟ كيف يمكننا أن نرغّب المؤسسات؟ وكيف يمكن لتلك المؤسسات توظيف العلوم السلوكية في إدارة مؤسساتها؟ وكيف يمكن استخدام الأفكار السلوكية لمساعدة المؤسسات على إدارة عملياتها وتغييرها؟ وهل يمكن استخدام تلك السلوكيات لزيادة رفاه الموظف أو إنتاجيته؟ وهل يجب استخدامها أصلاً؟
اقرأ أيضاً: تطبيقات مفاهيم الاقتصاد السلوكي من قبل المصارف المركزية والبنوك
يمكننا الانطلاق من بضعة أماكن في رحلتنا الخاصة حول البحث عن إجابات لهذه الأسئلة، تدور بمعظمها حول عملية اتخاذ القرارات. يشرح الخبير الاقتصادي السلوكي دان أريللي، ببلاغة ووضوح، كيف أن الناس ببساطة غير عقلانيين في اتخاذ القرارات، وأنه إذا فهمنا الأسباب التي تجعلنا نرتكب الأخطاء بشكل متكرر في قراراتنا، سنتمكن من فعل شيء لتحسينها وبالتالي تحسين حياتنا.
ما الأمور المهمة حقاً لصانع القرار؟
عندما تتخذ المؤسسات أو الشركات القرارات، غالباً ما تسمع الرئيس التنفيذي أو المدير العام يقول "أروني الأرقام"، في أمر يعود إلى ميل الناس في العادة إلى تفضيل البيانات الكمية. ولكن كيف تُعالج هذه البيانات فعلياً على يد صانعي القرار المهرولين من اجتماع إلى آخر، بهدف اتخاذ القرار؟ في معرض الإجابة عن ذلك، لا تعتبر الأرقام العامل الوحيد المهم.
السياق العام مهم
ما هي البيئة التي يُتخذ فيها القرار؟ وما علاقة ذلك بصانع القرار؟ يعتبر التعرّف على السياق العام أمراً بالغ الأهمية لتسهيل اتخاذ القرارات الجيدة. فعلى سبيل المثال، ثَبُت أن "الشح" _ وهو ندرة وجود شيء يحتاجه المرء _ يتسبب في تغيير الحالة الذهنية للأشخاص، ويقلل من قدرة الفقراء الإدراكية إلى الحد الذي يتخذون فيه قراراتهم بضعف يماثل الضعف الناتج عن الحرمان من النوم لليلة كاملة.
اقرأ أيضاً: الاقتصادات السلوكية تساعد على تسريع سداد مستحقات بطاقات الائتمان
ويجب على صناع القرار في المؤسسات - بغض النظر عن قدراتهم الفكرية - العمل ضمن بيئة تتسم بطلب متزايد عليهم، وتعدد مهام، وكم هائل زائد من المعلومات، وتخطيط طويل الأجل، وإخماد حرائق تحصل هنا وهناك، وأمور أخرى تجري كلها في الوقت نفسه. بالتالي، فإن معرفتهم لما يختبرونه يومياً في حياتهم، وقدرتهم المحدودة على تخصيص وقت كبير لأي موضوع، أمران أساسيان لإدارة المؤسسات بسلاسة واتخاذ القرارات ذات الفاعلية في الوقت المناسب. بالتالي، من المهم أن يكون لديك معرفة وفهم للسياق العام.
القصص مهمة
أظهرت التجارب في الدنمارك تفضيل المواطنين للبيانات الكمية "الصرفة" لدى محاولتهم تقييم أداء المؤسسات العامة، وذكروا أن المعلومات النوعية أسهل تذكراً وتزيد انخراطهم مقارنة بالأرقام عند تقييم أداء تلك المؤسسات فعلياً. ويعود سبب ذلك إلى القصص مهمة، إذ يعد بناء "السرد" أمراً ذا أهمية في المؤسسات، سواء كان يتعلق ببناء مؤشرات الأداء الرئيسة، أم مناقشة قضية عمل خاصة بنشاط جديد، أم الحصول على الموافقة حول قرار داخل المؤسسة؛ بمعنى آخر، يتذكر الناس القصة، وغالباً بدرجة أكثر من الأرقام.
اللغة مهمة
تؤدي الكلمات إلى إطلاق مواد كيميائية معينة ضمن أدمغة الناس، وبالتالي إثارة عواطف معينة في داخلهم. ويمكن أن تكون لهذه الكلمات، والدلالات المرتبطة بها، هي الفرق بين تدخل ناجح وفكرة فاشلة في المؤسسات.
وغالباً ما تتعرض المؤسسات إلى مشاكل، يسهل التعامل معها في حال تم اكتشافها مبكراً. ولكن إذا وُصفت المشكلة بأنها "خطأ" أو "غلطة"، ستُلقي عبئاً نفسياً أثقل على المسؤول عنها أو "المذنب". وعلى الرغم من أهمية تحديد تلك القضايا، يمكن أن يُقدّم إعادة صياغتها بلغة محايدة، كالقول مثلاً "قضية" أو "حادثة"، العون لأنظمة اكتشاف المشكلات في المؤسسات، حيث يمكن أن يساعد اختبار اللغة المستخدمة في أشكال الاتصال العديدة داخل المؤسسة على تحسين نتائج السلوك، مثل الإبلاغ عن النشاط أو الحوادث التي تهم المؤسسة.
الأفراد مهمين
يمثل الأفراد عصب أي مؤسسة اليوم، وهناك طرق عديدة يمكن من خلالها تطبيق العلوم السلوكية ضمن المؤسسات. ويُنظر دائماً بقدر من الأهمية إلى الأشخاص الذين ينقلون الرسالة، إلا أن ذلك يتم عادة في شكل غريزي على غرار القول "من الأفضل أن تقولها هي"، أو "من الأفضل أن تأتي منه". ويمكن لفهم فكرة تأثير "حامل الرسالة" مساعدة المؤسسات إلى حد كبير.
كما أن الإنصاف مهم بالنسبة للأشخاص، إذ إنهم بحاجة إلى الشعور بأنهم يُعاملون كما يُعامل الآخرون.
فإذا طُلب من الأشخاص قضاء بعض الوقت في أنشطة تعود بالنفع على المؤسسة، مثل استطلاعات الرأي الخاصة بالموظفين، سيشعرون بالامتنان لأن رأيهم أُخذ في الاعتبار، حتى لو كانت نتائج الاستطلاع مخالفة لرأيهم.
اقرأ أيضاً: استخدام المحفزات السلوكية لعلاج مرض السكري
الأرقام مهمة (إن كان يسهل الحصول عليها)
لكن لماذا يعتبر الحصول على الأرقام صعباً جداً؟ يعود السبب في ذلك إلى افتراض مقدمي البيانات، أو الموظفين الساعين إلى الحصول على قرار من رؤسائهم، أن قدرتهم قادتهم إلى معالجة الأرقام نفسها التي يتخيلونها في أذهانهم على الرغم من جدول الأعمال المزدحم لصانع القرار ذلك.
كما أنهم يظنون أنه من الأسهل إعطاء صانع القرار جميع الأرقام والرسوم البيانية وجداول البيانات وتركه يقرر بناء عليها. ويعتبر هذا ربما الخيار الآمن، إلا أنه عليك حينها الانتظار لفترة طويلة جداً، حيث يمكننا رؤية أمثلة على ذلك في عمليات الإحاطة التي تُقدّم في العادة إلى الوزراء أو التقارير المقدمة إلى القادة وكبار المدراء. ولكن ستحدد طريقة تقديم الأرقام كيف ستُستخدم وإن كانت ستُستخدم أصلاً.
ولا يعني هذا أن الأرقام غير مهمة، إلا أنه من المهم أن نفهم تبعات تقديم ذات المعلومات لصانع القرار مع أرقام واضحة أكثر وذات دلالة، فذلك هو سبب تقديم الأرقام في المقام الأول.
في تجربة طُلب فيها من مواطنين عاديين تقييم أداء مدرسة، لم تتسبب الفاصلة العشرية (من 6.0 إلى 6.9) في اختلاف كبير في تقييمهم لأداء المدرسة وذلك على الرغم من وجود اختلاف قدره 0.9 درجة في الأداء. لكن لاحقاً، ظهر اختلاف كبير في تقييم الأداء بين علامتي 6.9 و7.0، على الرغم من أن الفرق هنا كان فقط 0.1 درجة. ويمكن أن يكون "التحيز للخانة اليسرى من الرقم" (left most digit bias) عاملاً ذي اعتبار أيضاً ضمن المؤسسات وبالتالي يؤثر على القرارات التي يتم اتخاذها في تقييم الأداء.
لذلك، فإن فهم الأرقام وما الذي تعرضه (القصة)، كما في مثال اختلاف درجات المدرسة بمقدار 0.9 درجة مقابل 0.1 نقطة، يساعد على تقديم حل تجاه مشكلة الوقت المحدود لصانعي القرار ويساعدهم على استيعاب تلك الأرقام وسياقها العام وتحسين جودة القرار المتخذ من قبلهم.
من المهم فهم كيف سيتم استخدام الأرقام وتأثير ذلك على المؤسسة
فماذا تعني الأرقام في المؤسسات وكيف تؤثر على سلوك الموظفين؟ تقيس معظم المؤسسات أدائها بإحدى الطرق، وغالباً ما يكون لديها مؤشرات أو أهداف، إلا أن هذه المؤشرات لا تساعد أحياناً في جعل الموظفين، أو الأشخاص، يتصرفون بالطريقة المرغوبة أو المناسبة، فضلاً عن أنها قد تضع مساراً للحوافز قد يتعارض فعلياً مع أهداف المؤسسة.
إحدى الأمثلة التي تعبّر بوضوح عن ذلك التحقيق في حالات الإخفاق التي عانى منها مستشفى ميد ستافوردشاير التابع لهيئة الصحة العامة في المملكة المتحدة، حيث تبين أن جزءاً من حالات الإخفاق والوفاة للمرضى من عام 2005 إلى عام 2009، يعود إلى الأهداف الموضوعة التي عرّضت صحة المرضى وسلامتهم إلى الخطر بسبب محاولة الموظفين وطاقم العمل، وبالتالي المؤسسة، تحقيق تلك الأهداف على حساب المرضى أنفسهم.
لذلك ربما يمكن للمؤسسات قضاء المزيد من الوقت في فهم الغرض من أرقامها أولاً، مثل مؤشرات الأداء الرئيسة، والتأثيرات التي ستُحدثها بالفعل عبر وضعها موضع الاختبار. هل ستتسبب تلك المؤشرات في إنشاء ثقافة "إخفاء وتورية المعلومات الحيوية" أم ستُنشئ ثقافة "التحقق من مفردات الأداء الجيد"؟ ثم عليها أن تكون حريصة في توصيل تلك المؤشرات بشكل مناسب لمنعها من أن تصبح وسيلة محتملة لجذب سلوك خاطئ.
الاستنتاجات الأساسية حول الأفكار السلوكية في المؤسسات
تضع الدراسة الاستقصائية الاقتصادية التي أجرتها حكومة الهند لعام 2018-2019 جدول أعمال لتطبيق الأفكار السلوكية بشكل منهجي في "صنع السياسة من أجل الإنسان العاقل وليس الإنسان المادي". من خلال أمور على غرار "التدقيق السلوكي" للسياسات لضمان تصميم التدخلات بشكل يحقق التغيير السلوكي الصحيح.
وفي نهاية الحديث عن الأفكار السلوكية في المؤسسات حول العالم، يمكن للمؤسسات نفسها أيضاً تطبيق الرؤى السلوكية وجعلها جزءاً من الحمض النووي للمؤسسات من أجل الإنسان العاقل.
اقرأ أيضاً: "الترغيب" وعلم الاقتصاد السلوكي لصنع القرار