يقول الكاتب كريس لويس في كتابه "أسرع من قدرتنا على التفكير"، إنه طرح سؤالاً على مئات الأشخاص خلال عشرين عاماً. والسؤال هو: متى تحصل على أفضل أفكارك؟ وكانت الإجابات التي يتفق عليها الجميع تقريباً: "عندما أستيقظ أو عندما أكون على وشك النوم، أو عندما أستحم، أو عندما أجلس على كرسي المرحاض، أو عندما أقود السيارة، أو في أثناء الركض، أو في أثناء الجلوس في القطار أو الحافلة أو الطائرة، أو عند تمشية الكلب، أو في أثناء الرقص". ويتساءل بعدها عن القاسم المشترك بين هذه الحالات، ويجيب: "أولاً، لا أحد يستخدم الهاتف المحمول في هذه الأماكن". ثم يقول: "إذا كنا مشغولين جداً طوال الوقت، فكيف ستأتي إلينا الأفكار؟ يبدو أننا صنعنا حياة نكون مشغولين فيها لدرجة تعيقنا عن التفكير".
وقد كتب فيريس جبر في مقالته بمجلة "نيويوركر" بعنوان "لماذا يساعدنا المشي على التفكير؟": "عندما نمشي، يصبح أداؤنا في اختبارات الذاكرة والانتباه أفضل، وتبني خلايا دماغنا روابط جديدة، وهو ما يجنّبنا تلف أنسجة الدماغ التي تصيبنا مع تقدم العمر، ويساعدنا المشي أيضاً على تغيير وتيرة أفكارنا بشكل فاعل من خلال اختيار المشي بنشاط وحيوية أو المشي ببطء، كما أنه يُتيح لنا صب تركيز اهتمامنا على تعرجات الطريق ومراقبته، وهو ما يساعدنا على توليد أفكار جديدة والحصول على ضربات من الإلهام والرؤى الثاقبة. ووفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض ومنع انتشارها، قد تؤدي جلسة واحدة من النشاط المعتدل إلى العنيف (بما في ذلك المشي) إلى تحسين طبيعة نومنا وتفكيرنا وتعلمنا وتقليل أعراض التوتر التي تنتابنا. إن ميزة المشي هي طريقة سهلة كدنا ننسى أهميتها كما ورد في مقال "إياك والاستهانة بفوائد المشي".
هل تتحدث عن المشي والاسترخاء والتجول في السيارة أو التأمل في مكان بسيط؟ لقد أصبحت هذه الاستراحات معيبة في عصرنا الحالي، فقد تصاعدت موجة رواد الأعمال في المنطقة العربية والعالم، وجلبوا معهم الفكرة الخاطئة من وادي السيليكون، بأن قلة النوم وقلة الاستراحات خلال العمل تقدم على أنها فكرة "بطولية". لقد عاش رواد الأعمال في وادي السيليكون في أميركا زمناً وهم يروجون لهذه الفكرة إلى العالم، ثم اكتشف العلم كم هي خاطئة وقاتلة للإبداع، ففي مقال "هارفارد بزنس ريفيو" بعنوان "رواد الأعمال الذين ينامون أكثر هم الأفضل في اكتشاف الأفكار الجيدة"، يجادل الباحثون بأن الوقت قد حان لدحض الأسطورة القائلة بأن النوم غالباً ما يجافي مؤسسي الشركات، إذ يعتقد الكثير من رواد الأعمال أن عدم النوم هو الطريق البطولي لتحقيق النجاح وأنه وسام شرف. بيد أننا وجدنا في سلسلة من الدراسات الحديثة الكثير من أوجه القصور بين رواد الأعمال المنهكين، التي تثبت أنه لا يمكن لأفضل المؤسسين خدمة مشروعاتهم الناشئة إلا بعد أخذ قسط كافٍ من الراحة. وقد تقصى كاتبا المقال وهما أستاذان جامعيان وخبيران في إجهاد العمل والإبداع في بحثهما الوظائف الأساسية المطلوبة من المؤسس في المراحل المبكرة من دورة حياة مشروع جديد، التي تتمثل في توليد أفكار جديدة للمشروع وتشكيل فرضيات حول إمكانات هذا المشروع. وأظهر البحث في سلسلة من 3 دراسات مترابطة أن رواد الأعمال الذين لا ينالون القسط الكافي من النوم يحلّلون الفرص التجارية بشكل أقل كفاءة من نظرائهم الذين يولون النوم أهمية كبيرة، وحتى بشكل مختلف عن أنفسهم عندما يحصلون على قسط كافٍ من النوم.
وليس من المستغرب أن تتفهم ذلك بعض الشركات الكبرى، حيث اهتمت شركات، مثل "جوجل" و"غولدمان ساكس" (Goldman Sachs) و"ميدترونيك" (Medtronic) بنشر ثقافة التأمل وممارسات اليقظة الذهنية الأخرى بين موظفيها. ويقول المدراء التنفيذيون في هذه الشركات وغيرها: "إن التأمل ليس مفيداً كأداة للحد من التوتر فحسب، بل يمكنه أيضاً تعزيز الإبداع، إذ يفتح الأبواب حين تبدو الطريق مسدودة. المزيد في مقال: "هل تستطيع 10 دقائق من التأمل أن تجعلك أكثر إبداعاً؟". ويعتبر التأمل في حقيقته هو لحظة سكينة أمام سرعة الحياة ومشاغلها، بل هو ابتكار للحالة التي لا تأتينا إلا في الحمّام، أو عند أداء التمارين الرياضية، أو في أثناء قيادة السيارة، أو قبل النوم، وهذه هي الحالة التي يقترحها الكاتب كريس لويس الذي ذكرناه في مقدمة النشرة، عندما يطرح فكرة تحويل حالة الإبداع في "الحمام" إلى رياضة ذهنية نستطيع ممارستها في أي مكان.
ويعتبر تعزيز هذه الفكرة هو تحريض لمبدأ "التفكير النقدي" الذي يعاني نقصه معظم خريجي الجامعات، بحسب مقال "دليل موجز إلى بناء مهارات التفكير النقدي لدى فريقك"، الذي ذكر أن دراسة استقصائية أجريت عام 2016 شملت 63,924 مديراً و14,167 خريجاً حديثاً، تبين أن التفكير النقدي هو المهارة الشخصية الأولى التي يشعر 60% من المدراء أن الخريجين الجدد يفتقرون إليها. ويؤكد هذا ما وجده تحليل أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" (Wall Street Journal) على نتائج اختبار موحّد أُعطي لطلاب السنة الجامعية الأولى والأخيرة في 200 كلية: يظهر متوسط الخريجين من بعض الجامعات المرموقة تحسناً بنسبة قليلة أو عدم تحسن في التفكير النقدي على مدار 4 سنوات من الدراسة. وجهات التوظيف ليست أفضل حالاً. إذ يقيِّم نصفها مهارات التفكير النقدي لدى موظفيهم كمتوسطة أو أسوأ.
ويمكن أن يكون تحريض التفكير النقدي مسألة يمكن أن نتدرب عليها، حيث يضرب مالكولم غلادويل في كتابه "المتميزون" مثالاً عبر سؤال: ما الاستخدامات التي يمكن أن تخطر ببالك لحجرة من الطوب وبطانية؟ ويقول إن هذا السؤال الذي طرح على الكثير من طلبة الجامعات حدد مدى قدرتهم على التنوع في الأفكار، ثم يختتم موضحاً بأن الصفة المشتركة لدى معظم ممن حصلوا على جائزة "نوبل"، أنهم طوروا في أنفسهم القدرة على تنويع الأفكار.