ملخص: تتكيَّف بيئة الأعمال مع ارتفاع معدلات التضخم وشُح رأس المال، ومن هذا المنطلق كان على الشركات أن تتخلّى عن فكرة إعطاء الأولوية للنمو وتقديمه على كل ما عداه مع إدراك أن الابتكار لا يزال أمراً أساسياً. وستحتاج الشركات إلى استراتيجيات مدروسة بعناية تراعي التكاليف إلى جانب التغييرات التي لا بد من إدخالها على التقنيات التكنولوجية ونماذج العمل.
تأثّرت قدرات الشركات وترتيب أولوياتها بوفرة رأس المال خلال العقدين الماضيين إلى حدٍّ كبير. وقد وصل اليوم رأسمال صناديق الأسهم الخاصة غير المُستثمَر إلى أعلى مستوياته على الإطلاق بقيمة تتجاوز 3.4 تريليونات دولار. وفي ظل توافر هذا القدر الهائل من السيولة التي تنحصر استثماراتها في بضع فرص قليلة، ارتفعت تقييمات الاستثمارات في العمليات الابتكارية. وأدى التراجع المتواصل في أسعار الفائدة إلى زيادة التركيز على النمو، فقد استطاعت رؤوس الأموال تحمُّل تكلفة الصبر في ظل سداد الديون بتكلفة زهيدة للغاية، وكانت الوعود المبشِّرة بتحقيق النمو، حتى في غياب الربحية، كافية لإقناع المستثمرين بقيمة العمل التجاري.
وها نحن الآن نشهد تحوّل التركيز إلى العائدات في ظل ارتفاع أسعار الفائدة بصورة مستمرة واستنزاف البنوك المركزية للسيولة من النظام النقدي في جميع أنحاء العالم. وبعد الوفرة اللامحدودة التي كان المستثمرون يتمتعون بها في السابق وحرصهم على اغتنام كافة الفرص المتاحة وخوفهم من أن يفوتهم شيء، وبعد أن تغيّرت اهتماماتهم لتتوجَّه إلى الأرباح والتقييم، ستتغير كافة المعايير المتعلقة بعناصر القيمة المضافة، ما يشكِّل تحديات أمام الشركات التي تستند إلى قيمة النمو. وفي حين أنه كان بإمكان مندوبي المبيعات المهرة في الماضي، مثل آدم نيومان من شركة وي وورك (WeWork)، المبالغة في تقدير الفكرة إلى أن يقتنع بها الآخرون حتى إن لم تكن الإحصائيات المالية منطقية، وبالتالي استنفاد الأموال دون وجود احتياطيات كافية منها لا لشيء إلا لشراء النمو، فإن ارتفاع تكاليف رأس المال وانخفاض السيولة سيؤديان حتماً إلى مزيد من التدقيق.
قد يكون هذا التدقيق تغييراً إلى الأفضل. فقد شرع الكثير من الشركات في وضع استراتيجية للتوسع الرقمي نظراً لافتتانها بالوعود التي تبشِّر بها نماذج العمل الجديدة وهوسها بالتقييمات العالية وتوليد النقد لكبرى شركات التكنولوجيا على مستوى العالم (بيغ تيك). ومن أبرز الأمثلة على ذلك منصات التكنولوجيا، فقد كان التركيز على الأرباح يهيمن على تفكير مسؤولي الشركات العاملة في هذا القطاع. وكان جيف بيزوس محقاً حينما قاوم الضغوط التي مورست عليه لتحقيق الربح، فقد أدت معدلات النمو والتوسعات التي حققتها شركاته لاحقاً إلى تكوين ثروات تفوق الوصف.
ويتمثل التحدي في أن كبرى شركات التكنولوجيا تمتلك بعض المزايا غير العادية، ولا يمكن مجاراة قدرتها على لعب دور الطرف الأهم في المعادلة الذي يتمتع بقوة غير عادية. لذا، إلى جانب الكثير من التحولات الشجاعة لأعمال الشركات التي حققت قيمة مضافة، رأينا أيضاً إيماناً أعمى بأن محاكاة بعض جوانب نهج كبرى شركات التكنولوجيا من خلال الاستحواذ على شركات أخرى من شأنها أن تساعد الشركات على الادعاء بصدق بأنها يمكن أن تصبح مالكاً لمنصة أو جهة ضابطة لبيئة العمل. وقد سارعت الشركات في جميع أنحاء العالم إلى عرض أوراق اعتماد الذكاء الاصطناعي والإشارة إلى التزامها باعتماد تكنولوجيا الميتافيرس وإعلان نفسها منصة المستقبل.
لكن في ظل سوق أكثر تنافسية وتشهد شُحاً في السيولة وارتفاع العائدات المتوقعة، لم يعد بإمكان المدراء تحمل هذا الإيمان الأعمى. لا يعتبر هذا شيئاً سيئاً في حد ذاته، ولكن الخطر يكمن بالطبع في إمكانية تخلي قادة الشركات عن الحماس الجامح واعتصامهم بدلاً من ذلك بالحذر المفرط، عندما تؤثر القوى الهيكلية في عالمنا وتؤدي إلى تغييره بصورة أعنف من أي وقت مضى. وستضطر الشركات حتماً إلى استيعاب جزء من ارتفاع التكاليف وانخفاض هوامش الربح، وبالتالي يظل السؤال قائماً عما إذا كانت ستتخلى عن الإثارة الساذجة وتعتصم بالحذر المفرط.
وسيكون هذا خطأ. على سبيل المثال، لا يعني انهيار تقييمات العملات المشفرة أن التكنولوجيا التي تقف وراءها لا تشكل خطراً مماثلاً على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى. ولا تزال الرقمنة مستمرة في التقدم على قدم وساق. والعملاء منفتحون على الانجذاب إلى بيئات العمل متعددة المنتجات أو الخبرات. وعلى الرغم من المبالغة في تقدير قيمة شركة وي وورك، فإن الشركات المنافسة الأصغر حجماً، مثل شركة وورك لاند (Workland) في إستونيا، تجد أن العوائد يمكن أن تتحقق إذا تمت دراسة نموذج العمل دراسة متمعنة.
وبدايةً من القطاعات التي تُعنى بصحة الفرد وأسلوب حياته، حيث تخطو شركات التكنولوجيا العملاقة خطوات هائلة، وصولاً إلى الخدمات التي ترغب المؤسسات المالية وتجار التجزئة في تقديمها، فإن وجه المنافسة آخذ في التغير. حيث تتسابق شركات من أمثال تينسنت (Tencent) الصينية العملاقة في مجال التكنولوجيا وذراعها الخدمية الشاملة، وي تشات (WeChat)، وشركة راكوتن (Rakuten) اليابانية المتخصصة في تجارة التجزئة وشركة بينغ آن (PingAn) الصينية للتأمين وتكتل الشركات الهندية ريلاينس جيو (Reliance Jio) وكبرى شركات التكنولوجيا الغربية لإيجاد نقطة فريدة للتواصل مع المستهلكين. وتستغل شركات، مثل أومادا (Omada) في الولايات المتحدة التي تركز على رعاية الحالات المزمنة مثل مرضى السكري، خبراتها الواسعة في بيئات العمل التخصصية كطريقة جديدة لجذب العملاء. وتعمل شركة لافازا (Lavazza) الإيطالية المصنّعة لمنتجات البن على تجربة دورها كجهة متمرّسة في ضبط بيئة عمل تجارة البن. خلاصة القول، تنتقل القيمة في قطاع بعد آخر نحو المقترحات الإبداعية المتعددة الشركات التي تغطي الجانبين المادي والرقمي والربط بين الجهات الفاعلة على اختلافها.
وفي الوقت الذي تتكيّف فيه الشركات مع هذه الظروف الجديدة، سيحتاج المدراء إلى ما يلي:
- قبول التغيير الذي قد يكون أصعب طلب. ومن المهم أن يفهم المدراء أن حساب التكلفة والمزايا يجب ألا يقارن حالة الاستثمار بالوضع الراهن، بل يجب أن يقارن حالة الاستثمار بما سيترتب على التقاعس عن العمل، وهذا يعني غالباً انخفاض هوامش الربح وحجم الإنتاج وتغيُّر احتياجات العملاء.
- فهم طبيعة القيمة المضافة للانخراط في الابتكار. إذ يحتاجون إلى إظهار كيفية ارتباط الابتكار بالنمو وهوامش الربح. وهذا يعني تجاوز الكلمات الطنانة لمعرفة ما يجلبه التحول الرقمي والزعزعة الرقمية إلى المشهد العام في حقيقة الأمر، وفهم مزايا الانخراط في المنصات وبيئات العمل وفوائد استخدام الذكاء الاصطناعي والمزايا المحتملة للانخراط في تكنولوجيا الميتافيرس في وقت مبكر ومزايا توظيف تطبيق الألعاب للتواصل بشكل أفضل مع عملائهم.
- الإقرار بأنه بدلاً من محاولة فرض الهيمنة والمخاطرة بالإفراط في الاستثمار كجهات ضابطة في هذه المنصات وبيئات العمل الجديدة، يمكنهم أيضاً الانخراط في استراتيجية أكثر تواضعاً تتمثل في أداء دور الشريك النافع أو الشركات التكميلية الجيدة، وأنهم سيحتاجون إلى مجموعة من المقترحات المدروسة جيداً. وينبغي ألا تنحصر معاييرهم في الاتجاه الصعودي وحده، وإنما يجب أن تشمل أيضاً مخاطر الاستثمار الذي سينفذونه وحجمه.
ويتمثّل التحدي الذي تواجهه الشركات في أن العالم يتغير باستمرار، ولن يتحقق النجاح في الغالب إلا من خلال استخدام طرق جديدة لتحقيق قيمة مضافة. ولكن في ظل عدم وجود حلول سريعة للتضخم في الأفق، يجب أن نتوقع إعادة تقييم الأولويات الاستراتيجية، في ظل تضاؤل السيولة وزيادة تكلفة رأس المال ما يؤدي بدوره إلى مزيد من التدقيق. سيتطلب ذلك امتلاك القدرة على تقديم حجج منطقية حول العوامل التي تحقّق قيمة مضافة وأسباب اختيارها دون غيرها، وربما كان هذا أهم من التركيز على مهارة البيع. فقد حان وقت العمل على استراتيجية مناسبة ترتكز على أسس واقعية وترتبط برؤية بعيدة المدى للشركة. وينبغي تقبُّل هذا الواقع والتشمير عن سواعدنا لمجابهته.