"نحن في سباق مع الزمن إما أن نقتل الوقت أو أن التخلف سوف يقتلنا"؛ هذا ما قاله غازي القصيبي في كتابه الشهير "حياة في الإدارة" وبقي له صدى رنان إلى يومنا هذا. كان القصيبي قائداً بارزاً شارك مع قادة آخرين في رسم خطة 50 عاماً لتطوير المملكة العربية السعودية، لا يزال بعض جوانب هذه الخطة مدروساً وقابلاً للتطبيق مثل السعودة وهي باختصار فكرة القصيبي حينما كان وزيراً للعمل وتتمثل في توطين وظائف القطاع الخاص في المملكة.
كان لدى القصيبي خلفية قوية كأستاذ جامعي بعد أن أتيحت له فرصة الدراسة في الخارج في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأسهم ذلك في تغذية شخصية القصيبي ليكون روائياً رائعاً وسياسياً دبلوماسياً وشاعراً. وعليه، فإن سبب اختيار القصيبي من أجل تسليط الضوء على أسلوبه القيادي هو العمل الاستثنائي الذي قام به في مسيرته المهنية من أجل وطنه من خلال جميع المناصب التي شغلها منذ أكثر من 40 عاماً. إلى جانب ذلك أصدر القصيبي أكثر من 20 كتاباً، بعضها يُستخدم كمناهج في التعليم العالي السعودي، مثل "الحياة في الإدارة" و"العولمة والهوية الوطنية". وبالتالي كان للقصيبي أساليب قيادية متعددة تعتمد على نظريات القيادة الأخلاقية، والقيادة الحقيقية، والقيادة بالخدمة، والقيادة التحويلية.
أساليب القصيبي القيادية
كما ذكرنا سابقاً سواء أظهر القصيبي عن قصد أو بغير قصد أسلوبه القيادي فقد اتبع أساليب قيادة متعددة إلا أننا سنحاول التركيز على جانبه العملي كوزير فقط. وبالتالي فإن من أكثر الأساليب السائدة التي اتبعها القصيبي وكانت جلية للعيان: القيادة بالخدمة والقيادة التحويلية. أولاً: سيتم شرح المهارات والأحداث التي تشير إلى القصيبي كقائد طَبّق نظرية القيادة بالخدمة، ودعم ذلك بأمثلة من حياته العملية. بعد ذلك سيتم تسليط الضوء على مهارات القصيبي كقائد تحويلي فذّ.
القصيبي كقائد بالخدمة
نشأ القصيبي في المملكة العربية السعودية في بداية حياته في قرية صغيرة بمنطقة الأحساء قبل الانتقال إلى دولة البحرين، وحسب دراسة أعدها الباحث ياسين صرايرة في عام 2004، القيادة بالخدمة متأصلة في سكان الجزيرة العربية نسبة إلى طبيعة حياتهم في القِدم، إذ كانت الأغلبية في الجزيرة العربية من البدو الذين يعيشون في خيام وسط الصحراء وضمن تجمعات قبلية. وعادة يكون لكل قبيلة قائد يجسد أسلوب القيادة بالخدمة. ونظراً لأن القيادة بالخدمة متجذرة بعمق في أسلوب الحياة العربية؛ يرى الباحث الصرايرة أن الثقافة البدوية عززت ممارسة القيادة بالخدمة في القصيبي أو غيره من أبناء جيله. وهذا يعطي القارئ انطباعاً أولياً عن البيئة التي غذّت القصيبي في سن مبكرة.
علاوة على ذلك، تناولت الباحثة فايزة غنيم في عام 2019 فوائد تبني أسلوب القيادة بالخدمة في السعودية وتحدياتها بعد إجراء مقابلات مع القادة، وخلصت دراستها إلى بروز ثلاثة محاور عند تبني أسلوب القيادة بالخدمة، منها "الثقة"، وتقصد بها أنه يمكن الوثوق بالقائد الخادم حيث يحرص على خلق جو إيجابي في مكان العمل لتقليل النزاعات وزيادة الإنتاجية.
وهذا ما فعله القصيبي منذ أن بدأ مسيرته الوظيفية وقد ذكر ذلك في كتابه "حياة في الإدارة" وسرد القصيبي قائلاً: "عندما كنت وزيراً للكهرباء طلبت من الملك في ذلك الوقت بنفسي أن أحصل على قطعة أرض ضخمة تُوزع بالتساوي بين الموظفين كمنحة نظراً لعملهم الشاق في تأسيس الوزارة آنذاك، وهكذا اكتسب القصيبي ثقتهم وخلق مناخاً إيجابياً للعمل عندما خدم أتباعه، ومع ذلك تظل السعودة أفضل مثال يقدم القصيبي كقائد بالخدمة لجميع السعوديين.
السعودة
نشأ مفهوم السعودة المتداول إلى يومنا هذا على يد القصيبي وقد ذكر قصة السعودة كاملة في كتابه "حياة في الإدارة". بدأت القصة عندما كان وزيراً للعمل، وتعني السعودة التكامل الرأسي في المؤسسات لتوطين مجموعة من الوظائف المشغولة بالأجانب بهدف تمكين المواطنين السعوديين. بعبارة أخرى ركز القصيبي على جميع المستويات الإدارية للوظائف المراد شغلها بالمواطنين السعوديين وتوقف عن توظيف أشخاص من دول أخرى. كانت السعودة حركة أو موجة ضخمة أحدثت تغيرات في سوق العمل الجزء الذي لا يصدق من هذه القصة، وذكرت الباحثة منال فقيه في دراسة أجرتها عام 2009، أن القصيبي كان بطل قصة السعودة، على الرغم من أنه كان في بدايات شغله لمنصب وزير العمل، فلم يكتفِ عند هذه النقطة بل انخرط في سوق العمل وبدأ بالبيع وتقديم الخدمة في وظائف الخطوط الأمامية (نادل، كاشير. إلخ) ليؤكد أن العمل في هذه الوظائف ليس أمراً معيباً، وبالتالي هذا يأخذنا إلى تعريف القائد بالخدمة الذي سبق وعرّفناه سابقاً بأن القصيبي قاد بالخدمة وصنع قادة آخرين يتحلون بنفس السمات.
عندما أسس القصيبي برنامج السعودة بنى العديد من مراكز التدريب لتدريب الشباب على أن يكونوا قادة يتبعون نمط القيادة بالخدمة وهذا بالضبط ما يفعله القادة بالخدمة مع أتباعهم. أكد الباحث الأميركي بيتر نورتهاوس (Peter G. Northouse) في كتابه "القيادة: النظرية والتطبيق" (Leadership: Theory and Practice) أن القائد بالخدمة يهتم بمرؤوسيه أولاً ومن ثم يغرس فيهم سمات القيادة بالخدمة، كما قام القصيبي بتفعيل المدارس الفنية والمهنية لإعداد مواطنين سعوديين يمكن توظيفهم على مستوى إداري. كان هدف القصيبي النهائي هو خفض البطالة في المملكة العربية السعودية إلى أقل من 10% وتقديم أكثر من 120 ألف وظيفة في القطاع الخاص سنوياً. كان القصيبي صانع قرار بارعاً حيث كيّف أسلوبه القيادي ليكون لصالح تعديل سوق العمل في المملكة وخلق فرص عمل لجميع السعوديين العاطلين عن العمل.
القصيبي كقائد تحويلي
لا شك أن القصيبي كان صانعاً للتغيير في سوق العمل، وقطاع الكهرباء، ومشروع السكك الحديدية، في الواقع هناك عدد لا يحصى من المبادرات التي كان القصيبي هو صانع التغيير فيها في السعودية، ومع ذلك عند الحديث عن التغييرات الجذرية فلا بد أن يتحول التركيز إلى القصيبي كقائد تحويلي حيث شركة سابك هي المثال الأكمل الذي قد يُظهر القصيبي كقائد تحويلي.
كانت لدى القصيبي رؤية قبل إنشاء سابك وكانت هذه الرؤية بحاجة إلى قائد تحويلي يتمتع بالكاريزما لإحداث التغيير، عندما كان وزيراً للصناعة حينها وكان يسأل نفسه حول عدم وجود شركة بتروكيماويات كبرى بدلاً من شركات محلية صغيرة في المملكة باعتبار السعودية من أكبر الدول في إنتاج النفط، وبالتالي في عام 1976 أسس القصيبي شركة سابك بحصيلة 50/50 مع شركات بتروكيميائية عالمية من عدة دول، مثل الولايات المتحدة واليابان وتايوان حسب ما ذكر القصيبي في كتابه "حياة في الإدارة". وتابع القصيبي السرد في كتابه قائلاً: "في عام 1981 أنشأت سابك ثمانية مشاريع بتروكيميائية مشتركة تعمل في مدينتين داخل المملكة ووفرت مئات الوظائف". وقد جسد هذا التحول الذي أحدثه القصيبي وفريق عمله ما يسمى بتغيير قواعد اللعبة في الصناعة البتروكيميائية في المنطقة بأكملها في ذلك الوقت.
أظهر القصيبي قدرته على أن يكون قائداً تحولياً من طراز رفيع مطبّقاً الخصائص الأساسية التي يجب أن يتمتع بها القادة التحويليون وذكرها نورتهاوس في كتابة "القيادة" أبرز هذه الصفات: الرؤية، والكاريزما الخلاقة.
اليوم، سابك هي واحدة من أكبر الشركات الرائدة على مستوى العالم ليس فقط في المنتجات البتروكيميائية ولكن توسعت سابك لتشمل الأسمدة والبلاستيك والمعادن، كما أن سابك الآن هي شركة سعودية 100% يقع مقرها الرئيسي في العاصمة الرياض، يدير سابك مجلس إدارة مأخوذ من الحكومة والقطاع الخاص وتمتلك الشركة أربعة مكاتب إقليمية: الشرق الأوسط وإفريقيا، وآسيا والأميركيتين، وأوروبا . كل هذا النجاح لن يكون حقيقياً لو لم يكن القصيبي مصدر إلهام لكل المجال الصناعي عندما كانت لديه رؤية واضحة وقابلة للتنفيذ.
سابك وحدها كانت مثالاً كافياً لتوضيح أن سمات القائد التحويلي كانت جزءاً لا يتجزأ من أسلوب قيادة الراحل غازي القصيبي.