نسمع في كثيرٍ من الأحيان قصصاً تُوهِم المستمع بأن إنجازات رواد الأعمال الذين حققوا نجاحات مدوية كانت في غاية اليسر والسهولة، بيد أن أضرار هذه السرديات أكثر من نفعها، وبخاصة على الأجيال الشابة؛ لأن الحقيقة عكس ذلك تماماً، حتى فيما يخص قصص النجاح الإبداعي التي قد تبدو ضرباً من الخيال، مثل قصص نجاح مارك زوكربيرغ وجاك دورسي وهوارد شولتز وويندي كوب، بل حتى قصة نجاح رائد الأعمال الأسطوري ستيف جوبز. فعلى غرار ما يحدث في أي عملية إبداعية، يجب على أي رائد أعمال يريد أن يخترع أو يبتكر أو يبدع أن يكون على استعداد لقبول عيوبه وأنه معرَّض لارتكاب الأخطاء لكي يعرف ما ينجح وما لا ينجح.
فقد ظل دورسي يُجري التجارب لسنوات قبل أن يستقر أخيراً على فكرة مشروعه الذي أطلق عليه في النهاية اسم تويتر. وأطلقت ويندي كوب مبادرة "علِّم لأجل أميركا" (Teach for America) كمؤتمر في البداية، بميزانية صغيرة بعد التخرج في الكلية، بينما كان يتميز هوارد شولتز بنظرته الاستشرافية حينما أدرك أن الأميركيين بحاجة إلى تجربة تناول القهوة في أماكن شعبية مثل تلك الموجودة في أوروبا، وعلى الرغم من ذلك فقد باءت محاولته الأولى بالفشل الذريع. وكما أشرتُ في كتابي الصادر تحت عنوان "الرهانات الصغيرة" (Little Bets)، فعندما افتتح شولتز متجره الأول في سياتل عام 1986، كانت الموسيقى الأوبرالية تصدح في المكان دون توقف وقوائم المشروبات مكتوبة باللغة الإيطالية ولا توجد كراسي. وقد أقر شولتز واعترف بأنه كان عليه هو وزملائه ارتكاب "الكثير من الأخطاء" للتوصُّل إلى الشكل الأنسب لسلسلة مقاهي ستاربكس على النحو الذي نعرفه اليوم.
وعلى الرغم من كل ما قرأناه وسمعناه عن ستيف جوبز، فلم يكن استثناءً من هذه القاعدة. ونستعرض فيما يلي 5 من أكبر الأخطاء التي ارتكبها جوبز، وقد أثبت التاريخ أنه تعلم منها دروساً لا تقدَّر بثمن في نهاية المطاف:
1. تعيين جون سكولي في منصب الرئيس التنفيذي لشركة آبل
انطلاقاً من شعوره بالحاجة إلى شريك متمرس في الشؤون التشغيلية والتسويقية، أغرى جوبز البالغ من العمر 29 عاماً سكولي بالعمل في شركة آبل من خلال الكلمة الترويجية التي باتت الآن كلمة أسطورية: "هل تود الاستمرار في بيع المياه المحلاة لبقية حياتك؟ أم تريد أن تأتي معي وتغيّر العالم؟". بدا أن سكولي قد ابتلع الطُّعم، ولكن لم يكد يمضي عامان فقط، حتى نظّم حملة عبر مجلس الإدارة لطرد جوبز من الشركة. ومن المؤكد أن جوبز نفسه سينظر إلى تعيين سكولي على أنه خطأ فادح.
2. الإيمان بأن شركة بيكسار ستكون شركة أجهزة رائعة
حينما كان جوبز المشتري الأخير والوحيد عام 1986 عندما اضطر جورج لوكاس إلى بيع شركة الرسومات التابعة لشركة لوكاس فيلم (LucasFilm)، بيكسار، مقابل 10 ملايين دولار، لم يتوقع قطّ أن تجني الشركة أموالاً من أفلام الرسوم المتحركة. وأبلغ دليل على ذلك أن مؤرخ شركة بيكسار، ديفيد برايس، أوضح في كتابه الممتاز "لمسة بيكسار" (The Pixar Touch) أن جوبز كان يؤمن بأن بيكسار ستتبوأ مكانة عظيمة في عالم شركات الأجهزة. وهكذا فإن شخصاً صاحب رؤية مثل ستيف جوبز عجز عن التنبؤ بالمسار الذي سلكته شركة بيكسار، ولكن بفضل ثقته الكبيرة في الشريكين المؤسسين، إد كاتمول وجون لاسيتر، فقد دعمهما خلال سعيهما لتحقيق حلمهما بإنتاج فيلم رسوم متحركة رقمي بالكامل منذ اليوم الأول. لقد عمل على توفير الحماية لهما ودافع عن رهاناتهما الصغيرة في صناعة الأفلام القصيرة من أجل تعلم كيفية صنع فيلم روائي طويل في نهاية المطاف تحت عنوان "حكاية لعبة" (Toy Story).
3. عدم معرفة السوق المناسبة لأجهزة كمبيوتر نكست (NeXT)
على الرغم من أن جوبز حاول إيهام جمهوره بأنه يعتبر كمبيوتر نكست واحداً من أعظم نجاحاته عندما تم بيع الأصول لشركة آبل عام 1996 مقابل 429 مليون دولار، فإن الكثيرين في وادي السيليكون لم يوافقوه الرأي. وقد عانت الشركة منذ البداية للعثور على الأسواق والعملاء المناسبين. وإذا لم تكن قد شاهدت مقطع الفيديو الذي سجله جوبز ووصف فيه رؤيته لعملاء نكست، فعليك مشاهدته على يوتيوب. من الواضح أن جوبز نفسه كان مرتبكاً؛ إذ يقول فيه: "لقد واجهنا على مدار تاريخنا صعوبة بالغة في تحديد الهوية الحقيقية لعملائنا، وأود أن أوضح لكم السبب".
4. طرح الكثير من المُنتَجات الفاشلة
كمبيوتر آبل ليزا (Apple Lisa). جهاز ماكنتوش تي في (Macintosh TV). كمبيوتر آبل الجيل الثالث (Apple III). كمبيوتر باور ماك جي 4 كيوب (Power Mac G4 Cube). كان ستيف جوبز بارعاً في فهم كيفية تطور الأجهزة التكنولوجية، ولكنه ارتكب أخطاء كثيرة مرات عديدة. وقد تعلمت من هذه المنتجات البائدة درساً مهماً، وهو أن الناس سينسون أسرع مما تتخيل أنك كنت مخطئاً في الكثير من الرهانات الصغيرة، ما دمت تضع رهانات كبيرة بالطريقة الصحيحة (وفي حالة جوبز يمكن الاستشهاد هنا بأجهزة آيبود وآيفون وآيباد، إلخ). لقد كان جوبز أشبه بمجموعة أبحاث تسويقية في شركة آبل تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن متوسط نجاحاته شهد تحسناً ملموساً بمرور الوقت، وهو ما لم يكن مفاجئاً لأولئك الذين يدرسون فوائد تطوير عضلات الإبداع وتقويتها من خلال الممارسة المدروسة وتمرينها بانتظام.
5. محاولة بيع شركة بيكسار عدة مرات
في أواخر الثمانينيات، بعد امتلاك شركة بيكسار لمدة 4 أو 5 سنوات، حاول جوبز في مناسبات عدة بيع الشركة، فقط للوصول إلى نقطة التعادل في استثماره الذي بلغ في النهاية نحو 50 مليون دولار فقط. حاول بيع شركة بيكسار لكلٍّ من بيل غيتس ولاري إليسون والعديد من الشركات والشركاء الاستراتيجيين؛ لكنه لم يجد مَنْ يقبل شراءها بهذا المبلغ. وكان هذا من حسن حظ جوبز وإرثه؛ فقد استطاع في النهاية بيع بيكسار لشركة ديزني مقابل 7.4 مليارات دولار عام 2006.
يبدو أن الدرس المستفاد هنا في غاية البساطة: حتى أصحاب الرؤى العظيمة في مجال الأعمال وأبرز الشخصيات في عصرنا قد تبوء محاولاتهم بالفشل الذريع ويعانون الكثير من الانتكاسات. ويعدّ عدم الكمال جزءاً لا يتجزأ من أي عملية إبداعية وفي الحياة على وجه العموم، لكننا، ولسبب ما، نعيش في ظل ثقافة تدعو إلى الخوف من الفشل بطريقة تشل حركتنا، ما يجعلنا نكف عن الإقدام على تنفيذ أي مبادرة ويعزز لدينا مبدأ طلب الكمال بطريقة تصيبنا بالجمود. وهكذا ستصاب بحالة ذهنية تسلبك كل قواك إذا أردت أن تكون أكثر إبداعاً أو ابتكاراً أو اقتحام عالم ريادة الأعمال. ويتمثّل الترياق الناجع في إجراء تجارب صغيرة تستطيع من خلالها أن تتلمّس طريقك واكتشاف أي خسائر محتملة بتكلفة معقولة،
وحينها ستتمكن من التوصل إلى ابتكارات ثورية.