يُمثّل خلق القيمة جوهر استراتيجية الأعمال والسبيل لتحقيق الميزة التنافسية، وهو سبب تصدّر الخطوط الجوية السنغافورية قائمة أفضل شركات الطيران في العالم وسبب تمتع شركة تويوتا بتقدير عالٍ بين نظيراتها في قطاع السيارات.

لكن ثمة سوء استخدام وسوء فهم لمصطلح “القيمة”، ترتكب الشركات أخطاء كثيرة في سعيها لخلق القيمة، نتيجة الافتراضات الخاطئة حول أولويات أصحاب المصالح. ولتجنب الوقوع في هذه المزالق عليك تقييم أداء شركتك في 3 مقاييس مهمة يُفضل اتباعها بالترتيب المبيّن فيما يلي.

1. القيمة العامة مقابل القيمة المخصصة

أجريتُ قبل بضع سنوات ورشة وضع الاستراتيجية لمجموعة من المدراء من مختلف القطاعات، قلت لهم فيها إن القيمة تتولد من خلال العديد من العوامل، وإنه من الخطأ عادة خفض الأسعار بهدف خلق ميزة تنافسية لأن السعر لا يعكس القيمة الحقيقية. فتدخّل مسؤول تنفيذي في أكبر شركة تعدين في أستراليا، بي آتش بي (BHP)، ويدعى تريفور قائلاً: “ماذا لو كانت الشركة تضع الأسعار وفقاً للمتعارف عليه بدلاً من أن تتحكم بها وتحددها حسبما يلائمها؟”

تبيع شركة بي آتش بي خام الحديد والفحم المعدني والنحاس وغيرها من المعادن في جميع أنحاء العالم. وكان تريفور يُشير إلى حقيقة أن الشركة تبيع “سلعاً تجارية”. قدمت اقتراحاتي بخصوص مجالات أخرى لتحقيق التمايز، مثل تسليم المنتجات في الوقت المحدد وخدمة العملاء، على الرغم من أنها ليست من العوامل الرئيسية التي تؤثر في اختيارات المشترين في الشركات الصينية، وقد يعتبرونها من المسلّمات بالفعل. وقد لا تُعتبر جودة المنتجات عامل تمييز حتى، لأن الفحم وخام الحديد وغيرها من المعادن تُصنّف وفق مواصفات محددة. بعبارة أخرى، كان تريفور محقاً، فقد يتساوى السعر مع القيمة في نظر الزبون عندما تكون جميع العوامل الاستراتيجية الأخرى متساوية في عملية اتخاذ قرار الشراء، لا سيّما فيما يتعلق بالسلع التجارية.

لكني محقّ أيضاً، فالعديد من المنتجات والخدمات الأخرى تكون مُخصصة وليست عامة، والسعر في هذه الحالات لا يعكس القيمة. على سبيل المثال، يشغل ستيف منصب الرئيس التنفيذي لشركة متخصصة في تصميم المطابخ للمنازل الكبيرة والباهظة التكلفة وتركيبها. وعندما تراجع عدد استفسارات العملاء التي يتلقاها، افترض أن السبب عائد إلى أسعار شركته الباهظة، فقرر خفض الأسعار في محاولة لجذب مزيد من العملاء، لكن هل كانت التكلفة سبب المشكلة بالفعل؟ لمعرفة جواب هذا السؤال، أجرينا مقابلات شخصية مع بعض عملائه الذين اختاروا الشراء من الشركات المنافسة، فعميلته جينا مثلاً،

تواصلت مع 3 شركات قدمت لها عروض أسعار لتصميم مطبخ منزلها الكبير، وقالت: “قدمت كل شركة سعراً مختلفاً عن الأخرى، لكن جميع الأسعار كانت مكلفة بتكلفة شراء سيارة جديدة”. ثم أوضحت أن المقاول الذي اختارته لتنفيذ تصميم المطبخ لم يكن الأرخص؛ في الواقع، تمثّلت العوامل المهمة لجينا في التصميم الابتكاري (فقد قضت وقتاً كبيراً مع كل مقاول في محاولة العثور على أفضل حل تصميمي)، وجودة العمل (استناداً إلى توصيات من الزبائن السابقين بخصوص اللمسات النهائية للمطبخ)، وخدمة العملاء (سهولة التواصل ومهارات الاستماع الجيدة)، وجودة الملحقات (العلامات التجارية الموصى بها لغسالة الأطباق والحوض وصنابير المياه).

في حين تمثّل العامل الأخير بحسب جينا في “الثقة”، وهو عامل مهم جداً لها لأنها لن تكون حاضرة يومياً للتحقق من تركيب الأنابيب والتجهيزات الكهربائية حسبما أفادت.

يستند أداء شركتك على مقياس “القيمة العامة مقابل القيمة المخصصة” إلى القيمة الفريدة التي تُقدمها في منتجاتك، وعليك بالتالي أن تبدأ بهذا المقياس. وإذا كنت تعمل في مجال توريد المواد الخام، فقد لا تُضيف بعملك كثيراً من القيمة، وهذا يعني أن خفض الأسعار هو الخيار الوحيد الذي تمتلكه لزيادة الميزة التنافسية. لكن هذا الوضع ليس شائعاً في معظم الشركات، إذ قد تتضمن “إضافة القيمة” مجموعة متنوعة من العوامل، بدءاً من تجربة الزبائن مع خدمتك وصولاً إلى جودة المواد التي تستخدمها. وهذه هي عوامل القيمة التي يُبدي الزبائن استعدادهم لدفع مزيد من المال من أجل الحصول عليها.

ويساعدك المقياس التالي في تحديد نوع القيمة التي تقدمها.

2. القيمة المنطقية مقابل القيمة العاطفية

شغلتُ قبل بضع سنوات منصب الرئيس التنفيذي لشركة تصنع الهياكل والإطارات المستخدمة في بناء المنازل، كانت المواد تُصنع مسبّقاً في مصنعنا، وتُحمّل على الشاحنات، وتُنقل إلى موقع بناء العميل، وكنا نصنع جميع المواد والمكونات التي يحتاج المقاولون إليها لبناء الهياكل الأساسية للمنزل. كُلِّفت بتحويل وضع الشركة من تكبّد الخسائر إلى جني الأرباح، وتطلّب منا ذلك تحقيق ميزة تنافسية، فبدأنا أولاً بفهم المعايير التي يستخدمها العملاء للحكم على “القيمة”.

يُحدد المقاولون القيمة عادة عن طريق مقارنة السعر بالعوامل الاستراتيجية الأخرى، بما فيها جودة المنتج (يجب أن يتوافق المنتج مع المواصفات وأن يبقى سليماً في أثناء البناء)، وتسليم المنتج (الالتزام بالوقت أمر مهم، إذ إن التأخير يكلّف الشركة أموالاً)، وخدمة العملاء (المشورة الفنية والتعامل مع أي مشكة تواجههم). وبالنسبة لعملائنا، وهم المقاولون، تعتمد قراراتهم الشرائية على العديد من الجوانب المنطقية التي شملت تقدير تكاليف الشراء وفوائده بعناية.

لكن لا تضيف كل المنتجات والخدمات قيمة بناءً على اعتبارات منطقية. على سبيل المثال، تعمل أنجلين مديرة للمنتجات في شركة متخصصة في مجال مستحضرات التجميل ومعروفة دولياً. تبيع الشركة منتجاتها من خلال متاجر التجزئة الكبيرة المتعدّدة الأقسام. سألتها عن مفهوم “القيمة” بالنسبة لمستهلكيها؛ أي الأشخاص الذين يستخدمون مستحضرات التجميل التي تنتجها الشركة،

وأجابت: “إن قرار شراء منتجات التجميل ليس محصوراً بالنواحي المنطقية فقط، بل يتأثر بالمظهر أيضاً، إذ عادة ما يشعر الزبائن بارتباط عاطفي مع العلامة التجارية، ولهذا السبب نربط منتجات الشركة بمشاهير معروفين”. كما أشارت أيضاً إلى تزايد أهمية المؤثرين عبر الإنترنت: “لهم أثر كبير في نجاح منتج ما أو فشله”.

ينطوي تقييم أدائك في مقياس “القيمة المنطقية مقابل القيمة العاطفية” على فهم الأسلوب الذي يتبعه عملاؤك في اتخاذ القرارات؛ هل يتأثرون بأي عوامل عاطفية أو أنهم قادرون على تجاهل العواطف تماماً والتفكير بمنطقية؟ يشمل العديد من قرارات المستهلكين عوامل عاطفية، وقد تكون الإعلانات التي تستخدمها الشركات مؤشراً واضحاً على ذلك، مثل الإعلانات التي نراها لمنتجات مثل السيارات أو وجهات السفر أو المشروبات الغازية، والتي تستخدم استراتيجيات تسويق مستندة إلى العلامة التجارية والصور لزيادة القيمة غير المنطقية، كتأييد المشاهير واستخدام تقنيات تصوير فاخرة،

وهو ما ينقلنا إلى المقياس الثالث الذي يساعد في توضيح كيفية اختيار العميل لك.

3. القيمة القابلة للتقييم مقابل القيمة المجهولة

تصوّر هذا الموقف؛ تقود جولي سيارتها إلى منزلها بعد عودتها من العمل، وتدرك أنها بحاجة إلى الحليب والخبز والأرز، وتقرر التوجه إلى متجر البقالة المحلي في منطقتها لأنها لا ترغب في الانتظار في الطابور بالسوبر ماركت؛ وتقيّم العديد من العوامل عند اتخاذ هذا القرار، مثل السعر (ستدفع مبلغاً أعلى مما ستدفعه في السوبر ماركت)، وخدمة العملاء (سريعة ومُرضية)، وموقع المتجر (مناسب وعلى طريق عودتها إلى المنزل)، وتشكيلة المنتجات (يوجد كل ما تحتاج إليه)، وساعات العمل (يفتح المتجر في هذا الوقت) ومظهر المتجر (نظيف وجيد التنظيم).

كان تقييم جميع هذه العوامل سهلاً بالنسبة لها، ما جعلها تقرر دخول متجر البقالة المحلي بدلاً من ركن سيارتها في موقف السيارات المزدحم تحت الأرض عند السوبر ماركت. بمعنى آخر؛ كانت المعايير المتعلقة بقرارها معروفة ويمكنها تقييمها بناءً على معرفتها الشخصية.

لكن الوضع مختلف في حالات أخرى. لنتأمّل حالة صديقي جيم الذي خضع لجراحة استبدال مفصل الركبة مؤخراً. سألته عن سبب اختياره الجرّاح الذي أجرى له العملية، وقال لي: “أوصاني به طبيبي الخاص، وبدا لي أن سمعته طيّبة، لكنه طلب مبلغاً باهظاً”.

لم يكن قرار جيم مبنياً على السعر. وفي الواقع، لم يسبق لي أن سمعت شخصاً يقول إنه أجرى جراحة استبدال مفصل الورك أو الركبة على يد “أرخص جراح في المدينة”. علامَ بنى جيم قراره إذاً؟

لا يمتلك جيم المعرفة الاختصاصية والفنية لتقييم القيمة، بل كان تصوره للقيمة مبنياً على السمعة والأحاديث المتناقلة، وافترض أن هذه العوامل ستنعكس في السعر؛ أي كلما زاد السعر زادت القيمة.

وإذا كنت تبيع المنتجات أو الخدمات لعملاء لا يعرفون كيفية عمل هذه المنتجات أو الخدمات بدقة، فعليك تقييم أداء شركتك في مقياس “القيمة القابلة للتقييم مقابل القيمة المجهولة”. يضطر العملاء الذين يشترون مثل هذه المنتجات بالفعل إلى الاعتماد على مصادر معلومات أخرى لاتخاذ قرارات الشراء، ولا بد لك من الحرص على أن تكون سمعتك طيبة لدى تلك المصادر.

ولهذا السبب يستشهد طبيب جيم الاختصاصي بعدد كبير من البحوث العلمية الحديثة من مستشفيات تعليمية موثوقة في المواد التوعوية التي يقدمها للمرضى على شكل منشورات وعلى موقعه على الويب ووجهاً لوجه؛ ويُدرج أيضاً وصفاً مفصلاً للتكنولوجيا المتطورة التي يستخدمها ليُظهر مدى إلمامه بآخر التطورات التكنولوجية؛ ويُوثّق شهادات عدد من المرضى السابقين حول قصصهم وتجاربهم.

قد ترتبك عند محاولة فهم ما يقدّره زبائنك، لكن تقييم أداء شركتك في مقاييس القيمة الثلاثة يساعدك على معرفة القيمة الفريدة التي تقدمها، الملموسة وغير الملموسة، وتقييم العملاء لها، وبذلك تخلق ميزة تنافسية حقيقية ومستدامة.