ملخص: كيف بوسع شخص ما يبدو مؤهلاً جداً لشغل منصب معيّن أن يُمنى بفشل ذريع فيه؟ كيف يمكن لشخص ما يفتقر بوضوح إلى المهارات والخبرة المطلوبة أن ينجح؟ تكمن الإجابة في القدرة الكامنة، وهي القدرة على التكيف والنمو ضمن المناصب والبيئات المتزايدة التعقيد.
خلال العقود القليلة الماضية، استندت المؤسسات في قرارات التوظيف التي اتخذتها إلى الكفاءات. لكننا دخلنا حقبة جديدة من اكتشاف أصحاب المواهب. تشهد العوامل الجيوسياسية، وعالم الأعمال، ومختلف القطاعات والوظائف تغيرات سريعة جداً إلى حد يستحيل معه التنبؤ بالكفاءات التي سيحتاجها الموظفون والقادة للنجاح حتى بعد مرور بضع سنوات من الآن. ليس السؤال المطروح الآن هو ما إذا كان الموظفون يمتلكون المهارات الصحيحة؛ وإنما ما إذا كانوا يمتلكون القدرات الكامنة لتعلم مهارات جديدة.
تشير الأبحاث إلى خمسة مؤشرات على وجود قدرة كامنة هي: الدافع القوي للتميّز في معرض السعي لتحقيق أهداف محفوفة بالتحديات، إضافة إلى التواضع ووضع مصلحة المجموعة قبل احتياجات الفرد؛ وحب استطلاع يتّسم بالنهم ويدفع إلى استكشاف أفكار وسبل جديدة؛ وتبصّر حثيث يسمح برؤية الروابط في الأماكن التي لا يراها فيها الآخرون؛ والتفاعل القوي مع العمل والناس المحيطين؛ والعزيمة للتغلب على العوائق.
بعد أن تكون المؤسسة قد عيّنت الأشخاص الذين يمتلكون القدرات الكامنة العالية الحقيقية – وهو تحد نظراً لتزايد ندرة أصحاب المواهب من كبار المدراء – وحددت الأشخاص الذين يمتلكونها، من الضروري بمكان التركيز على الاحتفاظ بهم ومساعدتهم على تجسيد قدراتهم الكامنة على أرض الواقع من خلال منحهم فرصاً للتطوير تدفعهم إلى الخروج بعيداً عن مناطق راحتهم.
قبل بضع سنوات من الآن، طُلِب مني المساعدة في العثور على رئيس تنفيذي جديد لشركة تجزئة عائلية متخصصة ببيع الإلكترونيات كانت تريد تعيين مدراء متخصصين وتوسيع عملياتها. عملت عن كثب مع رئيسها التنفيذي الذي يفترض به مغادرة منصبه ومجلس إدارتها لتحديد الكفاءات الضرورية لشغل المنصب ثم البحث عن مرشحين وإخضاعهم للتقييم. كان الشخص الذي عيّناه يتمتع بجميع المؤهلات الصحيحة، فهو خريج أهم كلية متخصصة، وسبق له العمل مع بعض من أفضل المؤسسات في القطاع، وكان مديراً ناجحاً لأنشطة واحدة من أكثر الشركات إثارة للإعجاب في بلد أجنبي. لا بل الأهم من ذلك، كانت العلامة التي حصل عليها في كل كفاءة من الكفاءات التي حددناها أعلى من المعدل الوسطي. لكن أياً من ذلك لم يكن مهماً. فعلى الرغم من خلفيته المثيرة للإعجاب وأنه الشخص المناسب تماماً للمنصب، إلا أنه لم يكن قادراً على التأقلم مع التغيرات التكنولوجية، والتنافسية، والتشريعية الهائلة التي كانت تعصف بالسوق في ذلك الوقت. وبعد ثلاث سنوات من الأداء الباهت، طلبنا منه ترك المنصب.
دعونا نقارن هذه القصة بقصة تعود إلى بداية عهدي في مجال البحث عن التنفيذيين المناسبين لتعيينهم. كانت مهمتي تقتضي ملء شاغر وظيفي لمدير مشروع في معمل مشروبات تملكه شركة "كوينسا" (Quinsa) التي كانت تهيمن في ذلك الوقت على سوق بعض أنواع المشروبات في أميركا اللاتينية. في تلك الأيام، لم أكن قد سمعت بعد بمصطلح "الكفاءة". كنت أعمل في مكتب جديد دون دعم في مجال الأبحاث (في حقبة ما قبل الإنترنت)، وكانت "كوينسا" الشركة الوحيدة الجادة في قطاع المشروبات في المنطقة، لذلك لم أكن قادراً ببساطة على تحديد عدد كبير من الأشخاص الذين يمتلكون الخلفية الصحيحة في القطاع والوظائف المطلوبة. في نهاية المطاف، اتصلت ببيدرو ألغورتا، وهو تنفيذي سبق لي أن قابلته في 1981، عندما كنا ندرس سوياً في جامعة ستانفورد. كان ألغورتا من الأشخاص الذين نجوا بأعجوبة من حادث تحطم طائرة مؤسف وشهير حصل في عام 1972 في جبال الأنديز، وهو حدث وثقته مجموعة من الكتب وفيلم بعنوان "على قيد الحياة" (Alive)، وكان بالتأكيد خياراً مثيراً للاهتمام. لكنه لم يكن صاحب أي خبرة في قطاع السلع الاستهلاكية؛ ولم يكن يمتلك أي معلومات عن مقاطعة كورينتس حيث توجد معامل الشركة، ولم يسبق له العمل في التسويق أو المبيعات، وهم مجالان أساسيان يجب أن يمتلك الواحد خبرة فيهما ليشغل المنصب المطلوب. ومع ذلك فقد كان لدي شعور أنه سينجح، وقد وافقت "كوينسا" على تعيينه. فيما بعد تبيّن أن هذا القرار كان قراراً ذكياً. إذ سرعان ما حصل ألغورتا على ترقية وأصبح المدير العام لمعمل التعبئة في كورينتس ثم الرئيس التنفيذي لمعمل الشركة الأساسي في كويلميس. كما أصبح عضواً أساسياً في الفريق الذي حوّل "كوينسا" من مشروع عائلي إلى مجمّع شركات ضخم محترم يضم فريق إدارة كان يعتبر وقتها من بين أفضل الفرق في أميركا اللاتينية.
فلماذا فشل الرئيس التنفيذي لشركة الإلكترونيات، الذي بدا مناسباً للمنصب، فشلاً ذريعاً؟ ولماذا نجح ألغورتا، الذي كان غير مؤهل كما هو واضح، نجاحاً باهراً؟ الإجابة هي القدرة الكامنة، أي القدرة على التكيف والنمو ضمن المناصب والبيئات المتزايدة التعقيد. كان ألغورتا يمتلك هذه القدرة الكامنة؛ في حين كان الرئيس التنفيذي يفتقر إليها.
بما أنني أمضيت 30 عاماً في تقييم التنفيذيين وتتبعهم، ودراسة العوامل التي تساعدهم على النجاح، فإنني الآن أعتبر القدرة الكامنة بوصفها العامل الأساسي القادر على التنبؤ بالنجاح على جميع الأصعدة، من مناصب الإدارة الدنيا وحتى مناصب الإدارة التنفيذية العليا ومجلس الإدارة. لقد تعلمت كيف اكتشف الأشخاص الذين يمتلكونها، وكيف أساعد الشركات في تطويرهم وتعيينهم في مختلف المناصب. أحاول في هذه المقالة استعراض هذه الدروس التي تعلمتها. فبما أن قطاع الأعمال أصبح أكثر تقلباً وتعقيداً، وبما أن سوق كبار الاختصاصيين على مستوى العالم باتت تضم عدداً أقل منهم، فإنني مقتنع أن المؤسسات وقادتها يجب أن ينتقلوا إلى ما اعتبره حقبة جديدة من الكشف عن أصحاب المواهب، وهي حقبة لا نقيّم فيها بعضنا البعض بناءً على عضلاتنا، أو عقولنا، أو خبرتنا، أو كفاءاتنا، بل بالاستناد إلى قدراتنا الكامنة.
حقبة جديدة
استمرت الحقبة الأولى للكشف عن أصحاب المواهب آلاف السنين. فخلال هذه السنين الطويلة، كان الناس يتخذون خياراتهم التي تتعلق بالآخرين على أساس الصفات الجسدية. فإذا ما كنت تريد بناء هرم، أو حفر قناة، أو خوض حرب، أو حصاد محصول، كنت تختار الأشخاص الأقوى عضلياً، والأكثر صحة والأنسب الذين كنت تعثر عليهم. كان التعرف على أصحاب هذه المهارات سهلاً، وعلى الرغم من تناقص أهميتها، إلا أننا لا زلنا في لاوعينا نبحث عنها: فالرؤساء التنفيذيون لشركات قائمة "فورتشن 500" أطول وسطياً بمقدار 8 سم بالمقارنة مع الأميركي العادي، فيما تُعتبرُ الإحصائيات الخاصة بالقادة العسكريين ورؤساء البلاد مشابهة.
ولدتُ وترعرعتُ خلال الحقبة الثانية، التي شدّدت على الذكاء، والخبرة، والأداء في الماضي. فطوال معظم فترات القرن العشرين، كان يُنظر إلى حاصل الذكاء في القدرات اللفظية، والتحليل والرياضيات، والتفكير المنطقي، وبطريقة مبررة، بوصفه عاملاً هاماً في عمليات التوظيف (ولاسيما بالنسبة للأشخاص الذين يشغلون مناصب أصحاب الياقات البيضاء)، في حين كانت السجلات التعليمية والاختبارات تستعمل كمؤشرات دالة. كما كان الكثير من العمل قد أصبح معيارياً ومهني الطابع. كان العديد من أنواع العمال يستطيعون الحصول على شهادات تأهيل بمصداقية وشفافية، وبما أن معظم المناصب كانت متشابهة نسبياً في عموم الشركات والقطاعات، ومن عام إلى آخر، فإن الأداء في الماضي كان يُعتبرُ مؤشراً مقبولاً. فإذا ما كنت تبحث عن مهندس، أو محاسب، أو محام، أو مصمم، أو رئيس تنفيذي، فإنك تجري بحثاً، ومقابلات، وتوظف المهندس، أو المحاسب، أو المحامي، أو المصمم، أو الرئيس التنفيذي الأذكى والأكثر خبرة.
انضممت إلى مهنة البحث عن التنفيذيين لتوظيفهم في ثمانينيات القرن الماضي، في بداية الحقبة الثالثة من كشف أصحاب المواهب، التي كانت مدفوعة بحركة الكفاءات التي لا تزال سائدة اليوم. اقترح ديفيد ماك كليلاند في ورقه له عام 1973 بعنوان "الاختبار بحثاً عن الكفاءة عوضاً عن "الذكاء"" أنه بالإمكان تقييم العمال، ولا سيما المدراء، بناءً على سمات ومهارات محددة ساعدت في التكهن بالأداء المميز في المناصب التي من المزمع توظيفهم فيها. كان الزمان وقتها ملائماً لهذا التفكير، لأن التطور التكنولوجي وتقارب القطاعات كانا قد زادا من تعقيد الوظائف، وغالباً ما كانا يجعلان التجربة والأداء في المناصب السابقة غير مهمين. بناء عليه، وعوضاً عن ذلك، فككنا الوظائف إلى كفاءات وبحثنا عن المرشحين الذين يمتلكون المزيج الصحيح منها. في حالة المناصب القيادية، بدأنا أيضاً بالاعتماد على أبحاث تُظهرُ أن الذكاء العاطفي كان أكثر أهمية حتى من حاصل الذكاء.
الآن نحن على أعتاب حقبة رابعة، يجب أن ينتقل التركيز فيها إلى القدرة الكامنة. ففي بيئة تتصف بالتقلب وعدم اليقين والتعقيد والغموض (وهو مفهوم مقتبس من العالم العسكري ويطبّق في عالم الأعمال وأصبح مفهوماً مطروقاً بشدة فيه)، تعدّ عمليات التقييم والتعيينات المستندة إلى الكفاءة، وبصورة متزايدة، غير كافية. فما يجعل شخصاً ما ناجحاً في منصب معيّن اليوم قد لا يجعله كذلك غداً إذ حصل تحوّل في البيئة التنافسية، أو تغيّر في استراتيجية الشركة، أو إذا كان مضطراً إلى التعاون مع مجموعة مختلفة من الزملاء أو إدارتها. لذلك، فإن السؤال المطروح هو ليس ما إذا كان موظفو شركتك وقادتها يمتلكون المهارات الصحيحة؛ وإنما هو ما إذا كانوا يمتلكون القدرة الكامنة على تعلّم مهارات جديدة.
ليس السؤال المطروح هو ما إذا كان موظفو شركتك وقادتها يمتلكون المهارات الصحيحة؛ وإنما ما إذا كانوا يمتلكون القدرة الكامنة على تعلّم مهارات جديدة.
ندرة أصحاب المواهب الرفيعة
الشيء المؤسف هو أن اكتشاف القدرة الكامنة أصعب من تحديد الكفاءة (وإن كان ذلك غير مستحيل كما سأصف لاحقاً). كما أن مؤسستك ستبحث عنها فيما ستصبح واحدة من أصعب أسواق التوظيف في العالم – بالنسبة لأصحاب العمل وليس الباحثين عن عمل. ويخفي الضجيج المتعلق بارتفاع معدلات البطالة في الولايات المتحدة وأوروبا مؤخراً إشارات هامة، إذ إن هناك ثلاث قوى هي العولمة، والعوامل الديموغرافية (السكانية)، والكوادر الوظيفية الجاهزة أو التي في طور الإعداد لتولي المناصب ستجعل أصحاب المواهب من الأقدم عهداً أندر في السنوات المقبلة.
في عام 2006، عملت مع نيتين نوريا، العميد الحالي لكلية هارفارد للأعمال، وزملائي في إيغون زيندر لدراسة هذه القضية، حيث جمعنا بيانات مفصلة وقابلنا رؤساء تنفيذيين من 47 شركة تبلغ قيمها السوقية الإجمالية ترليوني دولار، فيما تزيد إيراداتها على ترليون دولار أميركي، ويبلغ تعداد موظفيها 3 ملايين إنسان. كانت هذه الشركات التي تمثل كل القطاعات والمناطق الجغرافية الأساسية ناجحة وذات سمعة عطرة، وتطبق ممارسات قوية في مجال إدارة الموظفين. ومع ذلك، وجدنا أنها كلها كانت على وشك مواجهة نقص هائل في أصحاب المواهب. وبعد مضي ثماني سنوات، ما يزال وضع هذه الشركات بالسوء الذي كان عليه إن لم يكن أسوأ.
دعونا نراجع العوامل الثلاثة كل بدوره، بادئين بالعولمة التي تجبر الشركات على الانتشار خارج أسواقها الأم والمنافسة على الموظفين القادرين على مساعدتها في إنجاز هذه المهمة. توقعت الشركات العالمية الأساسية في دراستنا التي تعود إلى عام 2006 حصول زيادة بنسبة 88% في نسبة إيراداتها من المناطق النامية بحلول 2012. ولم يحصل ذلك فحسب، وإنما تشير توقعات صندوق النقد الدولي ومجموعات أخرى حالياً إلى أن حوالي 70% من نمو العالم بين الآن والعام 2016 سيأتي من الأسواق الناشئة. وفي الوقت ذاته، تجهد الشركات في الدول النامية ذاتها في خطب ود أصحاب المواهب، إضافة إلى الزبائن، في أرجاء العالم. لنأخذ على سبيل المثال الصين، التي باتت تمتلك 88 شركة على قائمة "فورتشن 500" العالمية بعد أن كان الرقم هو ثمانية فقط في 2003، ويعود الفضل في ذلك جزئياً إلى النمو الخارجي. توظف هواوي، شركة الاتصالات الصينية الرائدة أكثر من 70 ألف شخص، 45% منهم يعملون في مراكز الأبحاث والتطوير في دول مثل ألمانيا، والسويد، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وإيطاليا، وروسيا، والهند. ويمكن العثور على أمثلة مشابهة عن شركات تنطلق في عملها من أسواق مثل الهند والبرازيل.
كما أن تأثير العوامل الديموغرافية على التجمعات التي يوظف الناس منها لا يمكن إنكاره. تعتبر الفئة العمرية للأشخاص الذي تتراوح أعمارهم بين 35 و44 عاماً هي الفئة المثالية لكبار التنفيذيين الصاعدين، لكن النسبة المئوية للأشخاص الواقعين ضمن هذا النطاق آخذة بالتقلص بشكل دراماتيكي. في دراستنا التي تعود إلى عام 2006، حسبنا أن تراجعاً بنسبة 30% في صفوف القادة الشباب، مضافاً إلى النمو المتوقع في الأعمال، سيخفض مجموع عدد المرشحين لشغل مناصب القيادة العليا ضمن تلك الفئة العمرية الحساسة بمقدار النصف. وفي حين أنه قبل عقد من الزمن، كان هذا التحول السكاني يؤثر بمعظمه على الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، إلا أنه وبحلول 2020، فإن العديد من الدول الأخرى بما في ذلك روسيا، وكندا، وكوريا الجنوبية، والصين ستشهد تفوقاً في أعداد الناس الذين يبلغون سن التقاعد على أعداد الداخلين إلى صفوف القوى العاملة.
أما الظاهرة الثالثة فذات صلة ولا تقل قوة، لكنها تحظى بشهرة أقل ألا وهي أن الشركات لا تهيئ كوادرها المناسبة من القادة المستقبليين. في استطلاع أجرته "برايس ووتر هاوس كوبرز" (PricewaterhouseCoopers) في عام 2014، وشمل رؤساء تنفيذيين في 68 بلداً، قال 63% من المجيبين على أسئلة الاستطلاع إنهم قلقون بخصوص توفر المهارات الأساسية وعلى كل المستويات مستقبلاً. تذكر مجموعة بوسطن الاستشارية وبناء على أبحاثها الخاصة أن 56% من التنفيذيين يجدون فجوات أساسية في قدرتهم على ملء المناصب الإدارية العليا في السنوات المقبلة. كما وجد الأستاذ الجامعي في كلية هارفارد للأعمال بوريس غرويسبرغ مخاوف مشابهة في مسح أجراه عام 2013 وشمل المشاركين في البرامج المخصصة للتنفيذيين: فقد منح المشاركون شركاتهم علامة وسطية تبلغ 3.2 من أصل 5 من حيث الكوادر الوظيفية الجاهزة أو التي في طور الإعداد لتولي المناصب القيادية، مقارنة مع معدل وسطي يبلغ 4 بالنسبة للرؤساء التنفيذيين الحاليين، و3.8 للفرق الحالية المتفوقة. والنقطة الأخرى التي لا تقل عنها إثارة للقلق هي الإجابات التي قُدّمت عن أنواع أخرى من الأسئلة التي طُرِحت في الاستبيان: فعدم وجود وظيفة لإدارة أصحاب المواهب حصل على علامة أعلى من 3.3، في حين حظيت الأنشطة الأساسية لتطوير الموظفين، مثل تنقّل الموظفين بين المناصب، بعلامة متدنية بلغت 2.6. بعبارة أخرى، ليس هناك إلا قلة من التنفيذيين الذين يعتقدون أن شركاتهم تُبلي بلاء حسناً عندما يتعلق الأمر بتحديد القادة المؤهلين وتطوير قدراتهم. وتؤكد مقابلات أجراها زملائي مؤخراً في إطار لجنة لمقابلة التنفيذيين أن وجهة النظر هذه منتشرة على نطاق واسع. إذ أكد 22% فقط من 823 قائداً شاركوا في هذه المقابلات أنهم يعتبرون خطط شركاتهم في مجال تجهيز الكوادر الوظيفية لتولي المناصب تعتبر واعدة، في حين قال 19% فقط إنهم قادرون على استقطاب أفضل المواهب.
في العديد من الشركات، ولاسيما تلك التي تعمل انطلاقاً من الأسواق المتقدمة، وجدت أن نصف كبار القادة سيكونون مؤهلين للتقاعد خلال العامين المقبلين، ونصفهم ليس لديه خليفة جاهز وقادر على تولي زمام مسؤولياته من بعده. وكما يصف غرويسبرغ الأمر فإن "الشركات قد لا تشعر بالألم اليوم، ولكن بعد خمس أو عشر سنوات من الآن، وبعد أن يتقاعد الموظفون أو يمضي كل منهم في حال سبيله، من أين سيأتي الجيل القادم من القادة؟"
وإذا ما نظرنا إلى هذه العوامل الثلاثة كل على حدة، أي العولمة، والعوامل الديموغرافية (السكانية)، والكوادر الوظيفية الجاهزة أو التي في طور الإعداد لتولي المناصب، فإن كل واحد منها سيقود إلى ظهور طلب غير مسبوق على أصحاب المواهب خلال العقد التالي. لم يسبق لوتيرة العولمة أن كانت أسرع مما هي عليه اليوم؛ كما لم يسبق أن كان الاختلال بين أعداد كبار السن وأعداد الشباب بهذا القدر من الضخامة؛ ولم يسبق أن كانت الآراء المتعلقة بمدى توفر الكوادر الوظيفية المؤهلة لتولي المناصب بهذا الكم من السلبية؛ وتقييمات استطلاعات الرأي الخاصة بممارسات التطوير هي عند أدنى مستوى لها أراه في حياتي. وإذا ما جمعنا هذه العوامل كلها معاً، فإننا سنحصل على حرب مستعرة على أصحاب المواهب ستشكل تحدياً هائلاً، وربما لا يمكن التصدي له، وستضطر معظم المؤسسات إلى مواجهته. ولكن بالنسبة للأشخاص الذين يتعلمون كيفية كشف القدرات الكامنة، واستقطاب الموظفين الذين يتمتعون بها واستبقائهم، وإنشاء برامج تطوير لمساعدة الأفضل من بينهم على التحسن، فإن الوضع سيكون مختلفاً لأن ذلك سيمثل فرصة استثنائية.
تحسين عملية التوظيف
تتمثل الخطوة الأولى في إدخال الموظفين المناسبين إلى مؤسستكم. وكما قال الرئيس التنفيذي لشركة أمازون جيف بيزوس، وهو واحد من أكثر الأشخاص الذين حققوا القيمة لشركاتهم في التاريخ الحديث لفتاً للانتباه، في عام 1998: "كان رفع سوية المعايير في مقاربتنا التي نتبعها في التوظيف، وسيظل، العنصر الوحيد الأهم في نجاحنا". لذلك، عندما تقيمون المرشحين لشغل الوظائف (وتعيدون تقييم الموظفين الحاليين)، كيف تقيسون القدرات الكامنة؟
القدرات الكامنة للوصول إلى قمة الهرم
يمكن للتركيز على القدرات الكامنة أن يحسّن عملية كشف المواهب في كل مستوى من مستويات المؤسسة – ولا سيما في أعلى الهرم. فعند اختيار رئيس تنفيذي أو عضو مجلس إدارة، في مقابل اختيار مدير شاب، ستجد غالباً أن عدة مرشحين يمتلكون المؤهلات والخبرات والكفاءات المناسبة. لذلك فإن إجراء تقييم دقيق لحافزهم، وحب الاستطلاع لديهم، وتبصرهم، وتفاعلهم، وعزيمتهم هو أمر في غاية الأهمية.
بالنسبة لمنصب الرئيس التنفيذي، لا بد أن تبدأ عملية الإحلال الوظيفي في وقت مبكر جداً، والتوقيت المثالي لذلك هو عندما يتولى قائد جديد المسؤولية ولكن في جميع الأحوال يجب أن يحصل ذلك قبل ثلاث أو أربع سنوات من التاريخ المتوقع لمغادرة القائد لمنصبه. في إيغون زيندر، حتى عندما يكون الزمن المتوقع لشغل المنصب أطول بكثير، فإننا نساعد الشركات على تقييم القدرات الكامنة تحت مستويين إلى أربعة مستويات ممّن يشغلون مناصب الإدارة العليا، حيث نحدد الموظفين الذين يجب الاحتفاظ بهم وتطويرهم بحيث يكون بمقدور بعضهم أن يكون من المرشحين لشغل المنصب الموجود في قمة الهرم.
أعرف واحدة من أعضاء مجلس الإدارة البارزين أقدمت مرتين على طرد تنفيذيين يتمتعون بأقصى درجات الكفاءة ويشغلون مناصب إدارة عليا لأنهم لم يكن لديهم ما يكفي من القدرات الكامنة، وقد أرادت إتاحة مناصبهم الأساسية – وهي بمثابة فرص تطوير أساسية – لأشخاص لديهم هذه القدرات. تحتاج تعيينات مجلس الإدارة إلى القدر ذاته من الانضباط. وقد ساعد مكتب شركتنا في المملكة المتحدة مؤخراً مجموعة محترمة جداً لتجارة التجزئة هي "جون لويس بارتنرشيب" (John Lewis Partnership)، على تقييم قائمة طويلة من المرشحين لشغل منصبي عضوين غير تنفيذيين في مجلس الإدارة، باستعمال مؤشرات القدرات الكامنة – وتحديداً حب الاستطلاع – كمقاييس أساسية. ففي نهاية المطاف، إذا لم يكن لدى قادة شركة القدرة الكامنة على التعلم والنمو والتكيف مع البيئات الجديدة، كيف سيكون بوسعهم استقطاب الموظفين والمدراء الواعدين الذين يستحوذون على هذه القدرات الكامنة؟
تمتلك شركات عديدة برامج راسخة جيداً "لذوي القدرات الكامنة العالية"، تلجأ من خلالها إلى تسريع عملية تطوير المدراء الواعدين وترقيتهم. لكن معظم هذه البرامج هي عملياً للموظفين "ذوي الأداء الرفيع"، وهي تزخر بالموظفين الذين أبلوا بلاءً حسناً في الماضي وبالتالي هناك من يفترض أن لديهم أفضل الحظوظ لتقديم أداء جيد في المستقبل – ولكن نظراً إلى الظروف التي تتصف بالتقلب وعدم اليقين والتعقيد والغموض، لم يعد من الأمان افتراض ذلك. يفيد حوالي 80% من المشاركين في برامج التنفيذيين التي أدرّس فيها وبشكل متسق أن شركاتهم لا تستعمل نماذج مُثبَتة تجريبياً لتقييم القدرات الكامنة. ويجب عليّ أن اعترف أن هذا النوع من التقييم أصعب بكثير من قياس حاصل الذكاء، والأداء في الماضي، بل وحتى قياس مختلف الكفاءات. لكنه يمكن أن يُنجَز وبدقة تنبؤية تبلغ 85% تقريباً، بحسب بيانات متعلقة بالمسارات المهنية لآلاف التنفيذيين الذين أخضعناهم للتقييم في إيغون زيندر باستعمال نموذج طُوّرَ ونُقّحَ خلال العقدين الماضيين.
أول مؤشر على القدرة الكامنة نبحث عنه هو النوع الصحيح من الحافز ألا وهو الالتزام الشديد بالتميز في معرض السعي إلى تحقيق أهداف غير أنانية. يمتلك الأشخاص ذوو القدرات الكامنة العالية طموحاً كبيراً، ويريدون أن يتركوا بصمتهم، لكنهم يطمحون أيضاً إلى تحقيق أهداف جماعية كبيرة، ويُظهرون تواضعاً جماً، ويستثمرون في تحسين أدائهم في كل ما يفعلونه. ونحن نأخذ بحسباننا الحافز أولاً لأنه صفة مستقرة – وتنبع من اللاوعي عادة. فإذا ما كان شخص ما ينطلق من حوافز أنانية بحتة، فإن هذه الخصلة لن تتغيّر على الأغلب.
ثم ندرس أربع صفات أخرى تُعدّ السمات المميزة للقدرات الكامنة، بحسب بحثنا:
حب الاستطلاع: أي التوق للسعي إلى الحصول على الخبرات، والمعارف الجديدة، والآراء التقييمية الصحيحة، والانفتاح على التعلم والتغيير.
التبصر: أي القدرة على جمع المعلومات التي تشير إلى احتمالات جديدة وفهمها.
التفاعل: أي الرغبة باستعمال العاطفة والمنطق لإيصال رؤية مقنعة إلى الآخرين وتعزيز الصلة بهم.
العزيمة: أي امتلاك الأسباب للكفاح في سبيل تحقيق الأهداف الصعبة على الرغم من التحديات وتجاوز الصعاب.
عندما أنظر إلى الوراء، أستطيع أن أرى أن بيدرو ألغورتا نجح في "كوينسا" لأنه كان يمتلك كل هذه الصفات، وليس لأنه يمتلك مجموعة محددة من المهارات والكفاءات. لقد كانت هذه الصفات واضحة وجلية خلال محنته الضاغطة في جبال الأنديز. وقد أظهر حافزه من خلال أداء دور أساسي ولكن يتصف بالتواضع – وذلك عبر تأمين القوت للمستكشفين الذين تقدموا في نهاية المطاف لإنقاذ المجموعة. كان يُذيب الثلوج لهم لكي يشربوها وكان يقطع أجزاء صغيرة من الحيوانات ويجففها ويقدمها لهم كطعام. وعوضاً عن أن يقع ألغورتا في براثن اليأس، شعر بالفضول وحب الاستطلاع تجاه البيئة المحيطة به، حيث اهتم بالمياه المنسابة من الجليد. كانت تنبع من الشرق، الأمر الذي دفعه هو، وهو فقط، إلى استعمال بصيرته واستنتاج أن الطيار المحتضر قد نقل موقعهم خطأ؛ كانوا في الجانب الأرجنتيني من سلسلة الجبال، وليس في الجزء الواقع في تشيلي. كما أن تفاعله وعزيمته كانا واضحين خلال الأيام الاثنين والسبعين. كان يهتم بكل صدق بصديقه المحتضر آرتورو نوغويريا، الذي عانى من عدة كسور في رجليه، محاولاً تشتيت انتباه الشاب عن آلامه. كما شجع زملاءه الناجين على التمسك بالأمل. رغم أن الحقبة التي أمضاها ألغورتا كرئيس تنفيذي لا تشبه على الإطلاق ما اختبره في الجبال، إلا أن السمات ذاتها خدمته في مساره المهني في "كوينسا". ولعل أفضل مثال على نقاء دوافعه ما حصل في نهاية عهده الذي استمر لمدة 10 سنوات في الشركة، عندما قرر ولأسباب استراتيجية منطقية، أن يوصي بتخلي الشركة عن مشروع التصنيع الزراعي الذي كان يقوده، ليُخرج نفسه بذلك من وظيفته. كما كان تنفيذياً يتمتع بحب الاستطلاع، حيث كان يبذل جهداً كبيراً للالتقاء بالزبائن والعملاء والعاملين على المستويات كافة، والإصغاء إلى الأصوات التي لم تكن تجد آذاناً صاغية. ونتيجة لذلك، فقد قبل مبادرات تسويق ثورية ودعمها، وهي سمحت لشركة "كويلميس" بمضاعفة مبيعاتها ثماني مرات مع تحقيق أرباح قياسية. وقد أظهر قدرة هائلة على التبصر سواء في قراراته الخاصة بالتوظيف – فقد كان الرئيسان التنفيذيان المستقبليان لكل من "كويلميس" و"نستله" من بين أفضل من عيّنهم – وكذلك قراراته الاستراتيجية، ومنها على سبيل المثال، تحركه الجريء للتخارج من جميع الأصول غير الأساسية بحيث يكون بمقدور الشركة استعمال عوائد هذه العمليات لتوسيع شركة المشروبات الإقليمية. وقد أسهم تفاعله في إدخال تحولات على الثقافة غير الفاعلة بل وحتى غير الأخلاقية في "كويلميس"، حيث أصر على حضور المدراء والمرؤوسين معاً في اجتماعات مفتوحة ليشكّل ذلك سابقة طُبّقَت لاحقاً في أرجاء المجموعة بأكملها. أخيراً، أظهر ألغورتا عزيمة مذهلة في "كوينسا". فعندما نفدت أموال المشروع الذي كان قد اختير لقيادته – والمتمثل بإنشاء معمل جديد للمشروبات – بعد استلامه لمنصبه مباشرة، لم يدرس فكرة الرحيل؛ بل أصر على المطالبة بالحصول على التمويل الضروري. وعندما تعرّضت الأرجنتين لصدمة جرّاء تخفيض قيمة عملتها وحصول ارتفاع هائل في التضخم فيها بعد بضعة أشهر، ثابر في عمله ومضى إلى الأمام؛ ولم يمضِ أكثر من 15 شهراً إلا وكان المعمل قد وُضِعَ قيد التشغيل.
كيف بوسعك أن تعرف ما إذا كان أحد المرشحين الذين قابلتهم للتو – أو موظف حالي – يمتلك قدرة كامنة؟ من خلال التدقيق في تاريخيه الشخصي والمهني، كما فعلت مع تاريخي ألغورتا الشخصي والمهني. بوسعك إجراء مقابلات معمقة أو خوض نقاشات تتعلق بالمسار المهني، أو التدقيق مع المراجع المهنية لكشف النقاب عن القصص التي تُظهِر ما إذا كان الشخص يمتلك هذه الصفات (أو يفتقر إليها). فعلى سبيل المثال، إذا أردت تقييم حب الاستطلاع، لا تسأله فقط "هل أنت شخص يتمتع بحب الاستطلاع؟" بل ابحث عوضاً عن ذلك على إشارات تدل على أن الشخص يؤمن بتحسين الذات، ويستمتع حقاً بالتعلم، وقادر على إعادة معايرة خطواته الخاطئة. ويمكن لأسئلة مشابهة للأسئلة التالية أن تساعد:
- كيف تتصرف عندما يتحداك شخص ما؟
- كيف تطلب من الآخرين في فريقك تقديم رأيهم؟
- ما الذي تفعله لتوسيع تفكيرك أو خبرتك، أو تطورك الشخصي؟
- كيف تعزز التعلم في مؤسستك؟
- ما هي الخطوات التي تتخذها للتعامل مع المجهول؟
اطلب دائماً تقديم أمثلة ملموسة، وتعمّق بذات الطريقة في استقصائك للحافز، والتبصر، والتفاعل، والعزيمة. كما أن محادثاتك مع المدراء والزملاء والمرؤوسين المباشرين الذين يعرفون الشخص جيداً يجب أن تكون بذات القدر من التفصيل.
بوصفك قائداً، يجب أن تعمل أيضاً على تعميم تقنيات إجراء المقابلات هذه في أرجاء مؤسستك. فقد توصّل الباحثون إلى أنه على الرغم من وجود ارتباط إيجابي كبير بين التقييمات التي يُنجزها أفضل من يجرون المقابلات ونجاح المرشحين في نهاية المطاف، إلا أن آراء بعض من يُجرون المقابلات سيئة. ومع ذلك، فإن بعض المدراء يتعلمون تقنيات التقييم المناسبة من كليات الأعمال التي يدرسون فيها أو من أصحاب العمل الذين يعملون لديهم. ففي استبياناتي التي شملت المشاركين في برامج مخصصة لإدارة مواهب التنفيذيين، وجدت أن 30% فقط يعتقدون أن شركاتهم توفّر التدريب الكافي. وعلى ما يبدو فإن معظم المؤسسات مليئة بأشخاص يمتلكون السلطة والصلاحيات لتزكية مرشحين سيئين وقتل فرص الجيدين منهم.
وفي المقابل، فإن الشركات التي تشدد على النوع الصحيح من التوظيف تحسّن فرصها تحسيناً هائلاً. تمتلك أمازون، على سبيل المثال، مئات الأشخاص المتفرغين داخلها لتعيين الموظفين، كما أن لديها برامج تدريبية عظيمة في مجال التقييم، بل وحتى كتيبة من الأشخاص الحاصلين على الشهادات الذين تتمثل مسؤوليتهم برفع مستوى المعايير المقبولة، وهم عبارة عن مقيمين ماهرين يمتلكون وظائف بدوام كامل في مجموعة من الأقسام لكنهم يمتلكون أيضاً صلاحية المشاركة في تقييم المرشحين للدخول إلى مجالات أخرى في الشركة والتصويت ضدهم ورفضهم.
تبنّت مجموعة التعدين البرازيلية "كومبانيا فالي دو ريو دوسي" (Companhia Vale do Rio Doce)، المعروفة اختصاراً باسم "فالي" (Vale) مقاربة منضبطة مشابهة، عبر العمل مع إيغون زيندر، خلال عهد الرئيس التنفيذي روجر آغنيلي بين العامين 2001 و2011. فتحت أنظاره، لم يُملأ منصب رفيع واحد دون تقييم موضوعي ومستقل واحترافي لجميع المرشحين الداخليين والخارجيين. كان المدراء يُشَجّعون على تفضيل الموظفين المحتملين المتحفزين والفضوليين والمتبصرين والمنخرطين وأصحاب العزيمة حتى لو لم تكن لديهم خبرة محددة في المجال أو الوظيفة اللذين تقدموا لشغلهما. يشرح آغنيلي الأمر قائلاً: "لم نكن قط لنختار شخصاً لم يكن شغوفاً أو ملتزماً باستراتيجيتنا طويلة الأجل وأهدافنا الشاقة". عُيّن أكثر من 250 تنفيذياً أو رُقّوا بهذه الطريقة في جميع أنحاء العالم، وقد أتت هذه الاستراتيجية أكلها. فقد أصبحت "فالي" شركة عالمية رائدة في مجال التعدين، وتفوقت تفوقاً هائلاً على الشركات الأخرى في البلد والمنطقة.
الاحتفاظ الذكي
بعد تعيينك للأشخاص ذوي القدرات الكامنة العالية الحقيقية وتحديدك للأشخاص الذين لديهم هذه القدرات وموجودين عندك أصلاً، ستكون بحاجة إلى التركيز على استبقائهم. ففي نهاية المطاف، المنافسون الذين يعانون في التعامل مع ذات السوق التي تندر فيها المواهب سيكونون أكثر من سعداء لمحاولة استمالتهم. يشير آغنيلي إلى أن أكثر إنجاز يفخر به في "فالي" لم يكن النمو الكبير في الإيرادات والأرباح وسعر السهم الذي أشرف على تحقيقه، وإنما تحسن نوعية القادة الذين ارتقوا المراتب الوظيفية في الشركة. يقول آغنيلي: "بعد مضي خمس أو ست سنوات، كان جميع الأشخاص المعينين في أرفع المناصب قادمين من داخل الشركة"، مضيفاً أن القدرة على بناء فريق عظيم والاحتفاظ به هو "المفتاح الأساسي" لنجاح أي قائد أو مؤسسة.
إن دفعك لأصحاب القدرات الكامنة العالية لديك لارتقاء سلّم مباشر لن يسرّع نموهم، بل المهام التي تنطوي على تحديات هي ما سيفعل ذلك.
في الحقيقة، عندما استغلّت الحكومة البرازيلية حصتها البالغة 61% من الأسهم المسيطرة في "فالي" لتسريع مغادرة آغنيلي للشركة في 2011، الأمر الذي سرّع الاستقالات الطوعية لسبعة من أصل ثمانية أعضاء في اللجنة التنفيذية في غضون عام، سرعان ما خسرت الشركة نصف قيمتها تقريباً. لا شك أن تنامي خيبة الأمل من الأسهم البرازيلية وأسهم السلع كان له دور. ولكن بما أن أقرب المنافسين لـ "فالي" وهما "ريو تينتو" (Rio Tinto) و"بي آتش بي بيليتون" (BHP Billiton) شهدتا تراجعات أقل دراماتيكية خلال الفترة ذاتها، يبدو واضحاً أن المستثمرين كانوا يبدون رد فعل أيضاً تجاه خسارة فريق إدارة مميز.
كيف بوسعك تقليد "فالي" في عهد آغنيلي وتجنّب المصير الذي لاقته الشركة لاحقاً؟ يكون ذلك من خلال أخذك بالحسبان لما يريده منك أصحاب القدرات الكامنة لديك. فكما يشرح دانيال بينك في كتابه "الحافز" (Drive)، فإن معظمنا (ولاسيما العاملون في قطاع المعرفة) يشعر بالتحفيز جراء ثلاثة أشياء أساسية هي: الاستقلال الذاتي – أي حرية التحكم بمقاليد حياتنا؛ والإتقان – أي توقنا إلى التميز؛ والغاية – أي رغبتنا الشديدة أن يخدم عملنا هدفاً أكبر منا.
الراتب مهم، بطبيعة الحال. وجميع الموظفين، ولاسيما النجوم الصاعدون، يتوقعون أن يعكس راتبهم الإسهامات أو الجهود، وأن يكون متقارباً مع رواتب الأشخاص الذين يؤدون أعمالاً مشابهة. ولكن بحسب تجربتي، ورغم أن الراتب غير المنصف يحبط العزيمة بكل تأكيد، إلا أن التعويض بعد حد معيّن يصبح أقل أهمية بكثير مما يعتقد معظم الناس. في تجاربي التي أجريتها مع المرشحين الذين عُيّنوا عبر شركتنا والذين كانوا ناجحين في وظائفهم الجديدة لكنهم انتقلوا في غضون ثلاث سنوات، وجدت أن 85% منهم انتقلوا إلى مناصب أعلى، ما يؤكد أنهم كانوا أصحاب كفاءة ويمتلكون قدرات كامنة. لكن 4% منهم ذكروا المال بوصفه السبب الأساسي لمغادرتهم. وكانت الأسباب الأكثر شيوعاً هي المدراء السيئون، والدعم المحدود، وغياب فرص النمو.
لذلك ادفع للنجوم لديك رواتب منصفة، وفي الحالة المثالية يجب أن يكون المبلغ المدفوع أعلى من المتوسط. ولكن امنحهم أيضاً الاستقلال الذاتي في أربعة مجالات هي: المهام (ما يفعلونه)، والوقت (متى يفعلونه)، والفريق (مع من يفعلونه)، والتقنية (كيف يفعلونه). ساعدهم على إتقان عملهم من خلال فرض تحديات صعبة ولكن يمكن التغلب عليها واستبعاد كل ما يشتت الانتباه. حاول إشراكهم في هدف أكبر له علاقة بالفريق، أو المؤسسة، أو المجتمع. يعتبر بيزوس والقادة الآخرون في أمازون بارعين في ذلك. وكذلك آغنيلي وفريقه في "فالي" أيضاً. لكن الظروف التي سادت الشركة بعد مغادرته لها فشلت في تحفيز بقية القادة بالطريقة ذاتها، واختار العديد منهم الانتقال إلى مكان آخر.
وسّع حدود التطوير
يتمثل واجبك في نهاية المطاف في ضمان تجسيد نجومك للقدرات الكامنة التي اكتشفتها لديهم من خلال تزويدهم بفرص للتطوير ودفعهم للخروج من مناطق راحتهم. يعبّر جوناثان هارفي، وهو أحد كبار التنفيذيين في بنك "إي إن زد" (ANZ) الأسترالي الذي يعمل في 33 بلداً عن الأمر قائلاً: "عندما يتعلق الأمر بتطوير التنفيذيين لتولي المهام القيادية المستقبلية، نحن نسعى دائماً إلى العثور على المستوى المثالي من عدم الارتياح في المستوى أو المشروع التالي، لأن هذا هو الموضع الذي يساعد على تحقيق أقصى قدر من التعلم. لا نريد من الموظفين أن يفعلوا ما يتجاوز قدرتهم. ولكن نريد قادة ذوي خبرات شاملة يركزون على القيم ويرون العالم عبر منظار واسع، والمهام الصحيحة التي تتطلب من الناس بذل جهد إضافي هي ما يساعد الموظفين في تحقيق هذا الهدف".
عندما أحاول شرح تبعات عدم تحدي قدراتك الكامنة العالية، غالباً ما أشير إلى اليابان. ففي عام 2008، رسمت أنا وكينتارو آراماكي من مكتب إيغون زيندر في طوكيو خارطة بالقدرات الكامنة للتنفيذيين اليابانيين (أي تقييمات مستشارينا الموضوعية لقدرات التنفيذيين على تولي مناصب ومسؤوليات أكبر، حسبما قيست بموجب المؤشرات الموصوفة أعلاه) في مقابل كفاءتهم (أي تقييماتنا الموضوعية لكفاءات القيادة الثمانية المدرجة في الفقرة الجانبية بعنوان "ما هي الأشياء الأخرى التي يجب أن تبحث عنها؟"). عندما قارنا هذه العلامات مع العلامات المتوسطة لجميع التنفيذيين في قاعدة بياناتنا العالمية، وجدنا مفارقة كبيرة. فقد تمتع الاختصاصيون المهنيون بقدرات كامنة أعلى من المعدل الوسطي العالمي لكن كفاءتهم كانت أقل. على الرغم من وجود مواد جديدة عظيمة، إلا أن المنتج النهائي ضعيف. كانت المشكلة، ولا تزال، هي عملية التطوير اليابانية التي تشوبها العيوب. فرغم أن المؤسسات التعليمية في البلد وأخلاقيات العمل الرفيعة التي تعتبر جزءاً من الثقافة اليابانية تعطي المدراء انطلاقة سريعة في مساراتهم المهنية، إلا أن نموهم يتعثر عندما يبدؤون العمل فعلياً. فالتقاليد في اليابان تقتضي أن يرتقي القائد المراتب الوظيفية في قسم ما في شركة ما وينتظر باحترام الترقيات التي لا تأتي عادة إلا عندما يكون هو أقدم الأشخاص عهداً في طابور الأشخاص الذين ينتظرون شغل المنصب.
ما هي الأشياء الأخرى التي يجب أن تبحث عنها؟
رغم أن القدرة الكامنة يجب أن تكون هي المقياس الأساسي المستعمل مع التنفيذيين اليوم، إلا أنه سيكون من الخطأ تجاهل الدروس الأخرى التي تعلمناها على مدار السنوات حول كيفية تقييم الموظفين.
الذكاء: رغم أنك قد لا تطبق اختباراً لحاصل الذكاء، إلا أن من المهم تقييم الذكاء العام لدى المرشح (بما في ذلك في مجالات التحليل، والقدرات اللفظية، والرياضيات، والتفكير المنطقي)، من خلال النظر إلى الخلفية الدراسية، والخبرات المكتسبة في الوظائف السابقة، والإجابات المقدمة عن أسئلة المقابلة. لست بحاجة إلى البحث عن العباقرة، لأنه بالنسبة لمعظم الوظائف أي شيء فوق مستوى معيّن من الذكاء لا يترك أي أثر تقريباً على الأداء. لكنك مع ذلك يجب أن تعيّن أشخاصاً يتمتعون بما يكفي من الذكاء للإيفاء بشروطك، لأن ذكاءهم العام لن يزداد مع مرور الوقت.
القيم: تعد القيم أساسية وليس بوسعك أن تتوقع نشرها بين صفوف الموظفين أثناء ممارستهم لعملهم. لا تستعمل المقابلات والتدقيق مع المراجع الوظيفية كأسلوب لوزن المؤهلات مثل الصدق والنزاهة فقط، وإنما لتكتشف أيضاً ما إذا كان المرشح يشاطر مؤسستك قيمها الأساسية.
القدرات القيادية: تعتبر بعض الكفاءات مطلوبة (وإن لم تكن كافية) عند تقييم الأشخاص المرشحين لشغل مناصب كبار المدراء. ورغم أن كل منصب وكل مؤسسة يختلفون، إلا أن أفضل القادة يتمتعون إلى حد معيّن بثماني قدرات هي.
- التوجه الاستراتيجي: القدرة على الانخراط في التفكير الواسع النطاق، والتحليل المعقد، وتحليل المفاهيم.
- التبصر بالأسواق: فهم قوي للسوق وكيف تؤثر على الشركة.
- التركيز على النتائج: التزام بتحسين المقاييس الأساسية للنشاط التجاري للشركة تحسيناً هائلاً.
- الأثر على الزبائن: الشغف بخدمة الزبائن.
- التعاون والنفوذ: القدرة على العمل بفاعلية مع الأقران أو الشركاء، بما في ذلك أشخاص من خارج سلسلة القيادة.
- تطوير المؤسسة: امتلاك الحافز لتحسين الشركة من خلال استقطاب كبار أصحاب الموهبة وتطويرهم.
- قيادة الفريق: النجاح في التركيز على المجموعات الفاعلة، وتحقيق التواؤم بينها، وبنائها.
- قيادة التغيير: القدرة على إدخال التحولات.
ينبغي عليك تقييم هذه القدرات عبر المقابلات والتدقيق مع المراجع الوظيفية، بذات الطريقة التي يجب عليك بها تقييم القدرات الكامنة، بهدف التأكد من أن المرشح كان قد أظهرها في الماضي، ضمن ظروف مشابهة.
في الآونة الأخيرة، طلب مجمع شركات عالمي في طوكيو من شركتنا تقييم دزينة من كبار قادتها وجميعهم يبلغون من العمر 55 إلى 59 عاماً تقريباً. كان يُفترض بهذه الشركة التي تعمل في عدد من القطاعات والأسواق أن تكون مكاناً مثالياً لتدريب التنفيذيين. لكن واحداً فقط من المدراء الذين خضعوا للتقييم كان قد عمل في أكثر من مجال عمل واحد. لم يكن كل منهم قد عمل خارج اليابان لأكثر من عام واحد وسطياً. وكانت مهاراتهم في استعمال اللغة الإنجليزية محدودة للغاية. ونتيجة لذلك، لم يكن أي منهم مرشحاً مناسباً لخلافة الرئيس التنفيذي. كان المؤسف في الأمر هو أنهم كانوا جميعاً قد سجلوا انطلاقة قوية. كانوا مهندسين، أمضى واحدهم ما لا يقل عن 20 عاماً في الأبحاث والتطوير واستراتيجيات المنتجات وتسويقها – لكن هذه القدرات الكامنة كانت قد تبدّدت.
إن دفعك لأصحاب القدرات الكامنة العالية لديك لارتقاء سلّم مباشر ينقلهم إلى وظائف وموازنات أكبر وموظفين أكثر سيساعدهم على مواصلة نموهم، لكنه لن يسرّعه. لكن المناصب المتنوعة والمعقدة التي تنطوي على تحديات وتتسم بعدم الراحة هي ما سيسرّعه. عندما طلبنا مؤخراً من 823 تنفيذياً دولياً النظر إلى الوراء ومراجعة مساراتهم المهنية وإخبارنا ما الذي ساعدهم في إطلاق العنان لقدراتهم الكامنة، كانت الإجابة ذات الشعبية الأكبر التي ذكرها 71% هي المهام التي تنطوي على تحديات، فيما تقاسم المرتبة الثانية مناصفة كل من تنقّل الموظفين بين المناصب والمرشدين الشخصيين وكان كل منهما قد نال علامة 49% من المشاركين.
كيف تضمن حصول الموظفين في مؤسستك على ما يحتاجونه من مهام تنطوي على تحديات وتنقّل بين المناصب؟ دعونا نعود إلى مثال "إي إن زد". ففي أعقاب عملية توظيف كبيرة امتدت بين العامين 2007 و2010 في أثناء توسّع البنك في عموم آسيا، قرر البنك تحسين عملية تطوير القادة لديه. تتركز جهوده على ما يسميه المناصب الأساسية بالنسبة لعمل البنك، وهي المناصب التي تقدّم إسهامات حيوية لجدول الأعمال الاستراتيجي؛ وتتطلب مجموعة نادرة من المهارات؛ وتنتج محصلات متنوعة تتوقف على شاغل المنصب؛ وإذا ما شغرت، فإنها تمثل تهديداً كبيراً لاستمرار العمل وزخم الأداء.
يصر بنك "إي إن زد" على تقييم القدرات الكامنة لدى جميع مدرائه ومن ثم يضع الأشخاص الذين يحصلون على علامة عالية في القدرات الكامنة في هذه المناصب التي تُعدّ أساسية لإنجاز الأعمال. وتشمل قائمة أنشطة التطوير الأخرى برنامج المصرفي المتخصص بالقضايا العامة، الذي يمنح كل عام الفرصة إلى 10 إلى 15 مشاركاً ليُمضوا عامين في التنقل عبر أقسام صيرفة الجملة والأفراد، والصيرفة التجارية، والمخاطر والعمليات بهدف تطوير معارفهم العامة في القطاع والشركات. ينتقل المشاركون بعد ذلك إلى مناصب دائمة مع التركيز على كسب الخبرات الجغرافية والثقافية والخبرة في المنتجات والتعامل مع الزبائن، بما في ذلك الدوام الإلزامي في قسم التدقيق الداخلي لضمان فهمهم للأطر الرقابية المطبقة في البنك. تبلغ مدة الالتزام بالبرنامج 15 عاماً، بحيث يكون الهدف النهائي هو شغل منصب الرئيس التنفيذي في بلد من البلدان.
يبدو أن هذه المقاربة المنضبطة تعطي النتيجة المرجوة أصلاً. فقبل ثلاث سنوات، كان 70% من المناصب التنفيذية العليا في "إي إن زد" تملأ من أشخاص يعيّنون من الخارج. أما الآن فإن التوظيف من الخارج يقل عن 20%. تُظهرُ استطلاعات الرأي الداخلية أن تفاعل الموظفين قد ازداد من 64% إلى 72%، في حين أن "التميز في الأداء خلال الفترة ذاتها" (وهو مقياس لالتزام الموظفين بخدمة الزبائن وجودة المنتج) قفز من 68% إلى 78%. وقد استفادت الشركة بطرق أخرى. ففي 2013، حل البنك في المرتبة الرابعة للبنوك الدولية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ للعام الثاني على التوالي بحسب استبيان "غرينتش" المرموق جداً لآراء الزبائن مرتفعاً بذلك من المرتبة 12 التي شغلها في 2008.
تشهد العوامل الجيوسياسية، وعالم الأعمال، ومختلف القطاعات والوظائف تغيرات سريعة جداً إلى حد أننا لا نستطيع التنبؤ بالكفاءات المطلوبة للنجاح حتى بعد مرور بضع سنوات من الآن. لذلك من المحتم تحديد الأشخاص الذين يمتلكون أعلى القدرات الكامنة وتطويرهم. ابحث عن الأشخاص الذين يمتلكون دافعاً قوياً للتميّز في معرض سعيهم لتحقيق أهداف محفوفة بالتحديات، إضافة إلى التواضع ووضع مصلحة المجموعة قبل احتياجات الفرد؛ وحب استطلاع يتّسم بالنهم ويدفعهم إلى استكشاف أفكار وسبل جديدة؛ وتبصّراً حثيثاً يسمح لهم برؤية الروابط في الأماكن التي لا يراها فيها الآخرون؛ وتفاعلاً قوياً مع عملهم والناس المحيطين بهم؛ وعزيمة للتغلب على النكسات والعوائق. لا يعني هذا تناسي عوامل مثل الذكاء، والخبرة، والأداء، والكفاءات المحددة، ولا سيما ما يتصّل منها بالقيادة. لكن توظيف الناس بناء على قدراتهم الكامنة والاحتفاظ بمن يمتلكونها فعلياً وتطويرهم – في كل مستوى في المؤسسة – يجب أن يكون الآن أولويتك القصوى.