إنّ العودة إلى العمل بعد إنجاب طفل يُعتبر من الأمور الصعبة، فالوالدة الجديدة لن تكون ببساطة هي الشخص ذاته قبل ولادة الطفل.
هذه المعاناة الشخصية يرافقها وجهة نظر خاطئة في مكان العمل حول ما كانت تفعله الوالدة خلال الإجازة (قد يقولون: لا، لم يقتصر الأمر على الاستلقاء واحتضان الرضيع)، ويُضاف إلى ذلك وجود فجوة ثقافية. ففي حين ينهمك الأهل في كثير من الأحيان بما يتخلّل الأيام الأولى من تعقيدات مع طفل في المنزل، يتعامل معظم أماكن العمل مع أيّ إجازة على أنّها وقت للراحة وكأنها عطلة طويلة. ولكنّ الواقع مختلف، فالوالدة الجديدة في هذا الوقت تتخطى منحنى تعلميّاً حادّاً: إذ عليهما إتقان مجموعة جديدة كاملة من المهارات، والتصدي لتحدّيات ليست غريبة فحسب، بل شخصية جداً أيضاً، وعليها التأقلم مع وضع عاطفي وجسدي جديد، ناهيك عن الدور الذي يلعبه الأب في هذا الوضع الجديد. فيجب على الآباء والأمهات الجدد أن يتعاملوا مع المرض الشخصي والشفاء الجسدي على أنه مسألة معقدة ومتعبة، في الوقت الذي يعتنون فيه أيضاً بالمولود الجديد.
يُعتبر هذا التحوّل عملية متعبة بالنسبة للكثير من الآباء والأمهات الجدد، ولكنّه يتحول في بعض الأحيان إلى اكتئاب ما بعد الولادة (PPD). وفي حين أنّ مصطلح اكتئاب ما بعد الولادة هو الأكثر استخداماً، إلّا أنّ مجموعة من اضطرابات المزاج خلال ولادة الطفل (وليس بعدها) أمر وارد. كما أنّ تكرار أعراض اكتئاب ما بعد الولادة، وكم من الوقت تستمر، ومدى قوّتها، تختلف من شخص لآخر، وفقاً لوكالة "مراكز السيطرة على الأمراض" (Centers for Disease Control). وفي وقت تعاني امرأة من بين كل 7 نساء باكتئاب ما بعد الولادة، فإنّ الرجال يصابون أيضاً بهذا الاكتئاب كذلك، وعادة ما يتفاجأ الناس عندما يعلمون أنّ نسبة الرجال الذين أبلغوا عن شعورهن باكتئاب ما بعد الولادة تتراوح بين 4% و25%.
لا يشارك معظم الموظّفين همومهم مع أصحاب العمل، و"من الأمور التي يفعلها أغلب الناس على مستوى العالم هي الإفراط في التعويض عبر التوهّم بأنّهم على ما يرام من خلال ممارسة ضغط مهني على أنفسهم، وذلك لأنّ ثمة فكرة عامة بأنّ الجميع يمتلك القدرة على تخطّي الصعاب"، حسبما قالت لي كارين كلايمان، مؤسّسة "مركز إجهاد ما بعد الولادة" (Postpartum Stress Center). لا تظهر معاناة الأهل إلى العلن دائماً، "ففي بعض الأحيان"، شرحت كلايمان، "إنّ النساء اللواتي يظهرن بشكل أفضل وقوي على الفور، ، يبذلن جهوداً استثنائية ليظهرن للآخرين مدى سيطرتهنّ وقوتهنّ - هؤلاء النساء يفعلن الأسوأ".
في المقابل، يمكن لدعم المدير أن يُحدث فرقاً كبيراً. ليلى (اسم مستعار) هي أمّ للمرة الأولى تعمل في مستشفى في نيويورك، بدأت تعاني من أعراض القلق في فترة ما قبل الولادة (PA) عندما كانت حاملاً، وقد استمرّ القلق بعد ولادة طفلها (ليصبح قلق ما بعد الولادة (PPA). قالت ليلى: "لم أخبرهم أنني أعاني من القلق في فترة ما قبل الولادة وقلق ما بعد الولادة، ولكنني كنت صريحة في وصف معاناتي، وكانت مديرتي لطيفة للغاية ومتفهّمة". على سبيل المثال، حصلت ليلى على إجازة لثلاثة أسابيع فقط طبقاً لسياسة المستشفى، غير أنها تلّقت الدعم من مديرتها بعدما جمعت 16 أسبوعاً من الإجازات باستخدام الإجازات المرضية مدفوعة الأجر، وسياسة ولاية نيويورك التي تم تنفيذها مؤخراً والتي تقدم إجازة مدفوعة الأجر. وعندما عادت ليلى إلى العمل، عملت على ترتيب الأمور مع مديرتها، حيث أعادت التأقلم من خلال العمل عن بعد، وهو ما فعلته نساء أخريات في القسم الذي تعمل فيه. كما أنّ المحادثات المنتظمة مع مديرتها ساعدتها كثيراً، إذ أخبرتني ليلى أنّ المديرة "كانت تسألني بانتظام إن كان عبء العمل يبدو كبيراً جداً".
لقد كانت هذه الاستراتيجية الوقائية والمرنة والتدريجية ناجحة للغاية بالنسبة إلى ليلى والقسم الذي تعمل فيه، ولكنّ هذا النوع من الترتيبات أصبح نادراً نسبياً للأسف. وفي حالة ليلى، فقد شدّدت على أنّ قسمها فقط، ومديرتها المتفهّمة للغاية هم الذين جعلوا ذلك ممكناً - فهذا لم يكن معياراً في مؤسّستها ككلّ وقتها.
آن سميث، رئيسة "المؤسسة الدولية للدعم ما بعد الولادة" (Postpartum Support International)، هي صاحبة صوت مسموع وخبيرة رائدة في مجال علاج اكتئاب ما بعد الولادة. تنشط المؤسسة في تحسين تدريب مقدمي خدمات الرعاية الصحية المباشرين ودعمهم لتحسين التعرّف على اكتئاب ما بعد الولادة وعلاجه. شدّدت سميث خلال حديثنا على أنّ هناك ثلاثة أنواع من الدعم يحتاجها الأشخاص الذين يعانون من اكتئاب ما بعد الولادة في كثير من الأحيان: الاجتماعي، والعلاجي، والطبي. وبالتالي، يمكن أن يكون أصحاب العمل عاملاً رئيساً في النوعين الأولين؛ إليك كيف:
حدّد. بصفتك مديراً، احرص على إبقاء عينيك مفتوحتين، ولاحظ زيادة الإنتاجية أو نقص الإنتاجية بالإضافة إلى تغيّر الشخصية أو التحول إلى شخصية باردة الانفعال أو فقدان الحماس. فهذا لا يشبه قضايا التكيّف التي ينبغي أن تكون متوقّعة ومعروفة.
قدّم الدعم الشخصي والمهني. اتّبع طرقاً لدعم الموظّف من دون أن يطلب أو يحدّد احتياجاته بنفسه. ليكن لديك أدوات جاهزة لربط الوالدين مع بعضهما البعض، وضع قائمة بالموّردين الخارجيين والموارد الأخرى بحيث يمكن الوصول إليها بسهولة. لا تقدّم فقط رعاية ذاتية غير قابلة للتفاوض مثل التمارين الرياضية بعد الولادة، بل اجعلها من المتطلّبات أيضاً. وضع في اعتبارك خطة لإعادة التأقلم بدوام جزئي، أو إمكانية العمل عن بعد لفترة من الزمن.
وفّر تغطية جيدة. يمكن أن تكون الرعاية، وخصوصاً الاستشارات الخاصة، باهظة الثمن. ومع ذلك، قد يكون توفير التغطية الصحية للعمل الخاص أو الجماعي مفيداً للغاية. اجعل هذه الميزة متاحة، واستفد من المراكز التي تقدم عملاً خاصاً وجماعياً مثل "بامب ستشين أند نيرسري" (Pump Station and Nurtury) في سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا)، بالإضافة إلى الخدمات ("باسيفاي" (Pacify) أو "لت مامي سليب" (Let Mommy Sleep) كجزء من المنافع. قالت سميث إنّ "معظم الناس يريدون إبقاء مسائل الصحة النفسية بعيدة ومنفصلة عن مكان العمل، وبالتالي فإنّ الحاجز الأكبر لا يتمثّل في أنّ أصحاب العمل يفعلون الأمر الصائب، بل في أنّه من الصعب جداً على الموظف استكشاف اكتئاب ما بعد الولادة في العمل". احرص على أن يشعر الموظّفون بالأمان في مكان العمل وأخبرهم عن الفوائد المتاحة من دون أن يكون عليهم طلب الكثير أو الكشف عن الكثير من الأمور.
وفّر الأدوات. افخر بتوفير خيارات يمكن أن تشمل الوقت المرن في العمل، والعمل عن بعد، والعودة التدريجية، والإرشاد المتبادل بين الأقران، وغيرها من عروض الدعم تحت تصرّف إدارتك. شارك هذه الأمور مع جميع أعضاء الفريق، والموظفين المحتملين، وغيرهم، واجعلها ببساطة جزءاً من ثقافتك.
طبِّع وثقّف. اعمل بنشاط لإزالة سوء الفهم حول إجازة الأمومة والأبوة واكتئاب ما بعد الولادة، واعمل على امتلاك نظرة أكبر عن اكتئاب ما بعد الولادة من خلال نشاط المسؤولية الاجتماعية للشركة في المجتمع المحلي للتأكيد على حقيقة أنّ اكتئاب ما بعد الولادة يمكن أن يصيب أيّ شخص وفي أيّ مكان. نظّم فعاليات داخل الشركة أو عبر الإنترنت مع خبراء في هذه المسألة، وإذا كنت بحاجة إلى أفكار حول الخبراء الذين يمكنك الاستعانة بهم، فإنّ بعض الأصوات الرائدة مثل لورين سميث برودي وآن سميث وكارين كلايمان لديهم كتب وموارد تساعد في التغلّب على تعقيدات العودة إلى العمل بعد الولادة.
كن على دراية ومستعداً. التزم بتحديد ودعم حالات اكتئاب ما بعد الولادة بين موظفيك، فهذا استثمار ذو قيمة كبيرة للاحتفاظ بالموظفين الذين تقدّرهم وذلك بتقديم الدعم الحقيقي.