حلت المشاريع محل العمليات على اعتبارها المحرك الاقتصادي في عصرنا هذا، وقامت بذلك بسلاسة ولكن بقوة. كان هذا التغيير مرتقباً منذ زمن بعيد.
في القرن العشرين خلقت العمليات (التي تتضمن تشغيل المؤسسات) قيمة هائلة عن طريق إحراز تقدم في الفاعلية والإنتاجية. لكن بالنسبة لمعظم ما عشناه من القرن الحالي كان نمو الإنتاجية في الأنظمة الاقتصادية الغربية ثابتاً تقريباً، على الرغم من انفجار الإنترنت وقصر دورة حياة المنتجات والتقدم الهائل في الذكاء الاصطناعي والروبوتات.
في حين أن المشاريع (التي تتضمن تغيير المؤسسات) تساهم بصورة متزايدة في تحفيز الأداء على المدى المنظور وخلق القيمة على المدى الطويل عن طريق إجراء تحولات تنظيمية متكررة وتطوير المنتجات الجديدة واعتماد التكنولوجيا الحديثة بسرعة أكبر وما إلى ذلك. هذه ظاهرة عالمية، ففي ألمانيا مثلاً كان التصاعد ثابتاً في نسبة المشاريع من الناتج المحلي الإجمالي منذ عام 2009 على الأقل، وفي عام 2019 كانت المشاريع مسؤولة عما يصل إلى 41% من الرقم الكلي. من الصعب الحصول على بيانات دول أخرى، لكن من المرجح أن تكون النسب المئوية في غالبية الأنظمة الاقتصادية الغربية مماثلة، ولربما كانت أعلى في الصين وغيرها من الأنظمة الاقتصادية الآسيوية المتقدمة، حيث كان العمل القائم على المشاريع مصدراً مهماً للنمو منذ زمن طويل.
وما هذه سوى البداية، في عام 2017 قدّر "معهد إدارة المشاريع" أن قيمة النشاط الاقتصادي العالمي المتجه نحو المشاريع، والتي بلغت 12 تريليون دولار في نفس العام، ستزداد لتصل إلى 20 تريليون دولار في عام 2027، وسيوفر هذا النشاط وظائف لقرابة 88 مليون شخص في أدوار وظيفية تتعلق بإدارة المشاريع، ووضِعت هذه التقديرات قبل أن تبدأ الدول بإنفاق تريليونات الدولارات على مشاريع التعافي من الجائحة.
أدركت المؤسسات ذات النظرة الاستشرافية تبعات هذا الارتفاع على البنية التنظيمية. وقال لي أحد المسؤولين التنفيذيين في إدارة المواهب لدى شركة "آي بي إم": "قريباً لن نرى توصيفات وظيفية، ولن نرى سوى أدواراً وظيفية متعلقة بالمشاريع". ويرى المفكر في مجال الإدارة روجر مارتن أنه من المفترض أن يكون ذلك قد تحقق بالفعل، وقال لي: "يعتقد الشخص العادي الذي يعمل ضمن مكتب أن حياته هي وظيفة منتظمة نوعاً ما، وأن المشاريع التي يعمل عليها تعيقه عن أدائها. في الحقيقة، يجب أن تتعامل المؤسسات مع مصنع القرارات بأكمله على أنه عبارة عن مشاريع فقط".
وقد بدأت بعض الشركات بإجراء هذا التغيير بالفعل. ففي عام 2020، أعلن محمد العبار، المؤسس والرئيس في شركة "إعمار" عملاقة التطوير العقاري التي يقع مقرها في دبي، أن الشركة تخلت عن جميع الألقاب الوظيفية القديمة ومنها لقبه الخاص كجزء من الانتقال إلى العمل القائم على المشاريع، وأنه لن يتم تعريف الموظفين بحسب الأقسام التي ينتمون إليها بل وفقاً للمشاريع التي يعملون عليها. قامت أكبر وكالة إعلانية خاصة في الولايات المتحدة، "ريتشاردز غروب" (Richards Group)، بخطوة مماثلة عندما ألغت جميع الطبقات الإدارية والألقاب الوظيفية تقريباً، وباتت الآن تطلق على معظم موظفيها لقب مدير المشاريع.
سيعود هذا التحول إلى اقتصاد المشاريع بتبعات عميقة على صعيدي المؤسسة والثقافة، لكن المشكلة هي أن العديد من القادة لا يزالون غير مدركين لقيمة المشاريع ويلغونها على اعتبارها هدراً للوقت. كان موقف أحد المسؤولين التنفيذيين نمطياً عندما قال لي مؤخراً: "إذا أردت أن تضمن عدم تنفيذ عمل ما، فحوله إلى مشروع".
قد يكون سبب عدم منح المدراء قيمة لإدارة المشاريع هو أن أساليبها بالغة التعقيد ولا يمكن تطبيقها بسهولة، كما أن الكثير من مدراء المشاريع يجدون أنفسهم منشغلين بإنتاج رزم من المعاملات الورقية، الأمر الذي يولد انطباعاً بأن دورهم يتمثل في الأعمال الإدارية بصورة أساسية. إن رفض الاعتراف بأهمية المشاريع وإمكاناتها لهذه الأسباب هو خطأ كبير، وعندما يتجاهل المسؤولون التنفيذيون إدارة المشاريع يتأخر طرح المنتجات ولا تحقق المبادرات الاستراتيجية النتائج المرجوة منها وتفشل جهود تحويل الشركة، ما يعرض مستقبل المؤسسة إلى خطر كبير.
ثمة أمر آخر يعجز المسؤولون التنفيذيون عادة عن فهمه، وهو أن المشاريع تمنح العمل معنى. تبين العلوم السلوكية والعلوم الاجتماعية أن المشاريع قادرة على تحفيز أفراد الفرق وإلهامهم بدرجة كبيرة، وتحدث اللحظات التي يفتخرون بها غالباً في المشاريع التي يعملون عليها سواء تكللت بالنجاح أو باءت بالفشل.
يجب أن يدرك القادة أن دورهم في اقتصاد المشاريع يتضمن أكثر من رعايتهم المباشرة للمبادرات الفردية، إذ يتضمن على مستوى أوسع العمل بوضوح وشجاعة على اختيار المشاريع الاستراتيجية ومنحها الأولوية واعتماد بنية تنظيمية قائمة على المشاريع وإنشاء ثقافة العمل التعاوني التمكينية التي تصل بين مختلف وحدات العمل المنفصلة، كما يجب أن يحرصوا على تطوير كفاءات إدارة المشاريع في المؤسسة.
أقول كل ذلك بكل ثقة لأني كرست حياتي المهنية بأكملها لدراسة المشاريع وممارسة إدارتها. فقد عملت مديراً لمكاتب إدارة البرامج لدى شركات "برايس ووتر هاوس كوبرز" (PwC) و"بنك بي إن بي باريبا" (BNP Paribas) و"فورتيس" (Fortis) و"غلاكسو سميث كلاين" (GlaxoSmithKline)، وعملت رئيساً لمعهد إدارة المشاريع (Project Management Institute)، وعلّمت الآلاف من كبار القادة والمدراء ومدراء المشاريع في عدد من أهمّ كليات الأعمال. باختصار، عملت على المشاريع ودرستها من كافة الزوايا، وما تعلمته من عملي هذا هو أننا بحاجة إلى اتباع نهج أوضح وأبسط وأشمل في إدارة المشاريع.
المخاطر مرتفعة؛ تقول شركة الأبحاث "ستاندش غروب" (Standish Group) إن نحو 35% من المشاريع التي أقيمت حول العالم تكللت بالنجاح. هذا الرقم مذهل لأننا نتحدث عن عشرات التريليونات من الدولارات وعمالة ملايين الموظفين، وهو يخبرنا أننا نهدر 65% من الوقت والمال الذي استثمرناه في مشاريعنا ونخسر تريليونات الدولارات من القيمة الجديدة للمؤسسات والمجتمعات الأوسع.
بإمكاننا، بل حريّ بنا أن نبذل جهداً أكبر. في هذا المقال، أقدم إطار عمل بسيطاً وقوياً لإدارة المشاريع قادراً على تسهيل العمل بالنسبة للجميع، وسأتحدث عن 6 مهارات ستحتاج إليها من أجل النجاح في عالم يركز على المشاريع بصورة متزايدة.
فكرة المقالة باختصار
الوضع
حلت المشاريع محل العمليات على اعتبارها المحرك الاقتصادي في عصرنا هذا. بحلول عام 2027 سيكون نحو 88 مليون شخص موظفين في إدارة المشاريع، وستكون قيمة النشاط الاقتصادي الموجه نحو المشاريع قد وصلت إلى 20 تريليون دولار.
المشكلة
على الرغم من هذا التغيير، لا يزال كثير من القادة يحطّون من قيمة المشاريع وإدارتها، وبالنتيجة لم ينجح سوى 35% من المشاريع التي تم تنفيذها حول العالم، ما يعني أننا نضيع قدراً مهولاً من الوقت والمال والفرص.
المضي قدماً
يجب على الشركات أن تعيد ابتكار النهج الذي تتبعه في إدارة المشاريع، ويجب أن تعتمد بنية تنظيمية قائمة على المشاريع وضمان أن يتمتع المسؤولون التنفيذيون بالقدرات اللازمة لرعاية المشاريع وتدريب المدراء على أساليب إدارة المشاريع الحديثة.
من العمليات إلى المشاريع
يقال غالباً إنه كي تنجح الشركات في فترات التغيير يجب أن تكون بارعة جداً من الناحية التنظيمية، أو كما يقول الأكاديميون؛ يجب أن توازن بين استثمار قدراتها الحالية (العمليات) واستكشاف الكفاءات الجديدة (المشاريع). بعبارة أخرى، يجب عليها أن تركز على تشغيل المؤسسة وتغييرها في آن معاً.
تشغيل المؤسسة (العمليات). هذا البعد مكوّن من نشاطات الشركة الأساسية والموروثة، ويتضمن أقساماً مثل المبيعات وخدمة العملاء والشؤون المالية والتصنيع وتكنولوجيا المعلومات، تأتي معظم الإيرادات (والتكاليف الثابتة) التي تولدها الشركات من أنشطة تشغيل المؤسسة، وهذه الأقسام هي ما يمكّن الشركة من الاستمرار. يتعلق تشغيل الشركة بالفاعلية والإنتاجية والسرعة، والتركيز فيه قصير الأجل والأهداف النهائية قائمة على الأداء عموماً والبنية التنظيمية هرمية، وتتمثل الثقافة في نموذج القيادة والسيطرة.
تغيير المؤسسة (المشاريع). هذا البعد أساسي لمستقبل الشركة، ويتضمن جميع مبادرات المؤسسة وبرامجها التخطيطية والاستراتيجية. يتعلق تغيير الشركة بالابتكار والتحول والمرونة وخلق القيمة طويلة الأمد، والتركيز فيه متوسط إلى طويل الأجل، والأهداف النهائية استراتيجية أكثر والبنية التنظيمية مسطحة وقائمة على المشاريع، والنتائج أقلّ قابلية للقياس مقارنة بالنتائج التشغيلية، وتتمثل الثقافة في نموذج ريادة الأعمال والعمل التعاوني.
المستقبل في يد المؤسسات القادرة على تحقيق التوازن المناسب بين التشغيل والتغيير، ولكن معظم القادة يجيدون التشغيل بدرجة أكبر، ولذلك فهم يقضون نسبة أكبر من أوقاتهم عليه. هذا هو إرث القرن العشرين، أي عندما اتخذت غالبية الشركات من الإنتاجية موجهاً أساسياً بدءاً من عام 1920 تقريباً وبقيادة شخصيات من أمثال هنري فورد وفريدريك تايلور، وحققت الشركات ذلك عن طريق التركيز المتواصل على زيادة الفاعلية وتخفيض التكاليف وزيادة الحجوم والنتائج. ولأنها كانت تعمل في إنتاج السلع بصورة أساسية فقد حققت نمواً بطرق عضوية عموماً؛ عن طريق زيادة الطاقة الإنتاجية وتوحيد العمليات وتشغيلها بالطرق الآلية والدخول إلى الأسواق الجديدة. يقرر كبار القادة الاستراتيجيات والمشاريع والميزانيات والخطط التشغيلية مرة واحدة في العام ثم يعملون على إدارة العمليات بما يتوافق مع ذلك، وبين دورات التخطيط السنوية لا يسمح سوى بالقليل من التعديلات الطفيفة.
أدى كل ذلك إلى زيادة فاعلية العمليات بدرجة هائلة، لكن الفاعلية لها جوانب سلبية. عندما قامت الشركات بتسليع عملياتها ضحت بعناصر ذات قيمة على المديين المتوسط والطويل بالنسبة للسرعة، وأصبحت تنمّي أعمالها بانتظام عن طريق عمليات الاستحواذ وعلى حساب النمو العضوي أو كبديل عنه غالباً. سمح لها ذلك بتسريع جداول مواعيد إصدار منتجاتها أو إنتاج المزيد منها ببساطة، لكن هنا تبرز نقطة ينحرف عندها مسار استراتيجية الحجم الأكبر وإصدار مزيد من المنتجات وتوسيع العلامة التجارية أكثر، فيصبح النمو المستدام عن طريق زيادة الفاعلية مستحيلاً لا سيما في أوقات الغموض والتغيير السريع،
وهو ما نعاني منه اليوم. الإيقاع التشغيلي السنوي الذي انتشر على مدى قرن من الزمن أصبح منفصلاً عن الواقع، وباتت كل مؤسسة عامة أو خاصة تعمل في بيئة من التغيير المستمر والمزعزع أحياناً. كانت المشاريع مؤقتة والعمليات دائمة، ولكن اليوم بات العكس صحيحاً؛ إذ تتيح لك العمليات الاستمرار مؤقتاً في حين أصبح التغيير دائماً، وبالتالي تتمثل التوجيهات الأساسية في توقع التغيير وإدارته وتحفيزه. وما هي أفضل طريقة للقيام بذلك؟
تعامل مع مشاريعك بطريقة أفضل.
النهج المرن وإدارة المشاريع التقليدية ليسا خصمين، وفي عالم يقوده التغيير لا يمكن للشركات تطبيق منهجية واحدة فقط على جميع مشاريعها.
الشروط والأحكام الجديدة
ما المقصود بالمشروع تحديداً؟ يستخدم الجميع هذه الكلمة ولكن معناها يختلف من شخص لآخر، وهذه مشكلة. مع تحفيز المشاريع نسبة متزايدة من القيمة التي تخلقها المؤسسات يجب أن يتوصل الجميع إلى فهم مشترك لمعنى المشاريع وإدارتها، فلنعرّفهما باختصار. تتضمن المشاريع سلسلة من النشاطات المخطط لها والمصممة بهدف توليد ناتج محدد (منتج أو خدمة أو حدث).
تتراوح هذه النشاطات بين مبادرة استراتيجية كبيرة وبرنامج تغيير صغير، وهي محدودة من حيث الوقت ولها بداية ونهاية واضحتين، وتتطلب استثماراً على شكل رأسمال وموارد بشرية، وهي مصممة لتخلق أشكالاً محددة من القيمة والتأثير والفوائد. كل مشروع له عناصر فريدة وهذا أمر مهم؛ كل مشروع يضمّ شيئاً لم يفعله أحد من قبل.
وأما إدارة المشاريع فتتضمن مجموعة الكفاءات والتقنيات والأدوات التي تساعد الموظفين على تحديد المشاريع وتخطيطها وتنفيذها من أجل تحقيق أهدافها. تم تطوير معظم أساليب إدارة المشاريع التي نتبعها اليوم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهي تعكس الفاعلية وأساليب التوحيد القياسي المستخدمة في إدارة العمليات. اعتادت المؤسسات على تبني منهجية معيارية موحدة لإدارة المشاريع وتطبيقها على جميع مشاريعها بصورة دائمة، ومع مرور الوقت بدأ واقع إدارة المشاريع بالانفصال عما يجب أن تكون عليه. وتطورت المؤسسات بسرعة، وعلى الرغم من أن أعداد المشاريع ازدادت كثيراً فقد بقيت أساليب إدارة المشاريع كما كانت في الماضي.
باستخدام النموذج التقليدي، يركز مدير المشاريع بشدة على المدخلات والمخرجات (التخطيط والتقديرات والكلفة والوقت والحجم وإدارة المخاطر) ولا يركز بدرجة كافية على النتائج والقيمة (الغاية والتفسير المنطقي والفوائد والتأثير والاستراتيجية)، ولا يهتم بما يحدث قبل اكتمال مشروعه أو بعده، بل ينشغل بالمنجزات بناء على فكرة أن كل ما عليه هو إنجاز المشروع في الوقت المحدد وبالميزانية المحددة والحجم المحدد، وستتحقق الفوائد الموعودة بعد ذلك من تلقاء نفسها.
عادة، ينظر مدير المشروع إلى مشروعه على أنه دورة حياة مؤلفة من مراحل، وينتقل من مرحلة إلى التالية بدءاً من إطلاق المشروع مروراً بالتخطيط والتنفيذ وصولاً إلى الإنهاء؛ يجب أن تعمل على المرحلة إلى أن تنتهي ثم تنتقل إلى المرحلة التالية، وعندما تجتاز المرحلة الأخيرة يكون مشروعك قد اكتمل، ولا يمكنك العودة من أي مرحلة إلى التي قبلها.
لكننا نعلم أن المشاريع لا تسير بطبيعتها وفق هذا التتابع الدقيق، ولا وفق نهج موحد ينطبق على الجميع. وفيما يتعلق بتنفيذ عمل لم ينفذ من قبل، تتضمن المشاريع إجراء التجارب والبدايات الخاطئة والفشل، وبالنتيجة فهي عرضة للتحرك ذهاباً وإياباً بين المراحل. ومن أجل تنفيذ المشاريع على نحو جيد، يجب أن يركز الرعاة والمدراء على 3 نقاط أساسية؛ الابتكار وإنشاء فريق عالي الأداء والأهم هو تحقيق الفوائد.
في بداية العقد الأول من الألفية الثالثة، مع التقاء الإنترنت والتكنولوجيا الجديدة لإحداث تغيير هائل، بدأت الحركة المرنة بالترسخ كبديل لجمود ممارسات إدارة المشاريع التقليدية. كان التركيز على إنجاز العمل بزيادات صغيرة، وعلى تحقيق القيمة للعملاء بسرعة أكبر، وعلى تقييم المتطلبات والخطط والنتائج باستمرار. يعدّ النهج المرن تطوراً إيجابياً بطرق كثيرة، لكنه أدى في بعض الأحيان إلى التعصب ضمن مجتمع خبراء إدارة المشاريع. يرى كثير من القادة أن النهج المرن رائع وجديد وأن إدارة المشاريع القديمة قد عفا عليها الزمن، ولذلك فرضوا النهج المرن في مؤسساتهم على نحو متسرع.
لكن ذلك يأتي بنتائج عكسية. النهج المرن وإدارة المشاريع التقليدية ليسا خصمين، وفي عالم يقوده التغيير لا يمكن للشركات تطبيق منهجية واحدة فقط على جميع مشاريعها، بل هي بحاجة إلى مجموعة منهجيات تشمل النهج المرن وإدارة المشاريع التقليدية بالتأكيد، ولكنها تشمل أيضاً التفكير التصميمي وإدارة التغيير وتطوير المنتجات، ثم يجب بناء الكفاءات في جميع هذه المجالات ضمن جميع أنحاء المؤسسة.
لكن كي يكون ذلك ممكناً يجب عليها أولاً اعتماد إطار عمل يتيح لجميع من في المؤسسة رؤية العناصر الأساسية في أي مشروع وفهمها والعمل عليها بطرق منتجة.
مخطط المشروع
أنشأت إطار عمل كهذا للمسؤولين التنفيذيين والمدراء الذين أدرّسهم وأقدم لهم الاستشارات في جميع أنحاء العالم، وهو نموذج استراتيجي مكون من صفحة واحدة أسميه "مخطط المشروع" (Project Canvas). استلهمت الفكرة من "مخطط نموذج العمل" (business model canvas) الذي طوره أليكس أوستروالدر وإيف بينيور واستخدمه ملايين الموظفين حول العالم. ساعد أليكس وإيف في عمليات توليد الأفكار الأولى لتصميم "مخطط المشروع"، وجدير بالذكر أن ثمة أطر عمل أخرى تحمل نفس الاسم ولكن لم يتم تبنيها على نطاق واسع مثل إطار العمل هذا.
إطار العمل مكون من 3 مجالات فقط؛ الأساس، والموظفون، والإنشاء، وكل مجال له دور حيوي في نجاح أي مشروع. (انظر الشكل التوضيحي بعنوان "مخطط المشروع").
ما الذي يميز "مخطط المشروع" عن غيره من الإرشادات التوجيهية لإدارة المشاريع؟ تميزه خصائص كثيرة؛ يمكن تطبيقه على أي مشروع أو برنامج أو مبادرة استراتيجية، ويركز على القيمة والفوائد بدلاً من العمليات والرقابة ويشجعك على التركيز على طريقة تحقيق عناصر القيمة العظمى بسرعة، ويساعدك على ضمان أن يكون لكل مشروع غاية وأن يتوافق مع استراتيجية مؤسستك، ويركز على التنفيذ بدلاً من التخطيط التفصيلي، وهذه نقطة حاسمة، وهو يوسع دورة حياة المنتج والمراحل التي تسبقه والتي تليه ليشمل الطموحات والفوائد، ويتمتع بالمرونة ويتيح إجراء التغييرات بسرعة عند الضرورة.
يلائم "مخطط المشروع" جميع منهجيات إدارة المشاريع ويقدم التوجيهات اللازمة لكل مرحلة من العملية. يبدأ استخدامه قبل البدء بالمشروع من أجل تقييم درجة وضوح تعريفه وجاهزيته للتنفيذ، ويُستخدم في أثناء تنفيذ المشروع من أجل تتبع التقدم وضمان استمرار صلاحية العناصر والافتراضات الحاسمة، ويُستخدم قبيل نهاية المشروع من أجل تقييم قدرته على تحقيق الفوائد المرجوة، ويُستخدم بعد انتهاء المشروع من أجل استخلاص الدروس وبناء الكفاءات التي لوحظ نقصانها.
تبدأ عملية وضع المخطط قبل أن تضع استثماراً كبيراً في المشروع وبعد أن تعيّن مدير المشروع وراعيه؛ هذان الدوران أساسيان في نجاح أي مشروع. من الشائع الاعتقاد أن مدير المشروع يركز بصورة رئيسية على الجوانب التقنية من المشروع بهدف تقديم النتائج في الوقت المحدد وضمن حدود النطاق والميزانية المحددين، في حين يراقب راعي المشروع مدير المشروع ويدعمه ويضمن أن يبقى المشروع ملتزماً بغايته ويحقق فوائده الموعودة. لكن الفصل بين الدورين يقوّض دور مدير المشروع الذي يجب أن يهتم بالغاية والفوائد أيضاً. وفيما يتعلق بطريقة إدارة المشروع وتحديد أهدافه فمن المفترض أن يكون المدير والراعي متوافقين تماماً، وهو الأمر الذي يتيحه "مخطط المشروع" تحديداً.
يجب أن يكون المخطط مفيداً للجميع، ولذلك فالإجماع هو أساس بنائه. يجب أن يبدأ مدير المشروع بعقد ورشة عمل لتوضيح المشروع، وهي اجتماع يضم راعي المشروع وأصحاب المصلحة الأساسيين وخبراء الشركة وأي شخص آخر قادر على تقديم أي معلومة مهمة، ويشمل ذلك العملاء والموردين. قد يستغرق هذا الاجتماع ساعتين أو ثلاث، فلا تستعجله. احرص على أن يحصل جميع الحاضرين على نسخة فارغة من المخطط. وراجع أهداف المشروع ونطاقه وتفاصيله واحرص على المرور بجميع العناصر المذكورة في نموذج المخطط. ثم اطلب من الجميع العمل على توليد الأفكار لبرهة. ابدأ من الأساس، ثم انتقل من مجال إلى آخر مع التركيز على ركائز كل مجال. اطلب من المشاركين مشاركة وجهات نظرهم وآرائهم، ثم استخدم نسخة أساسية من المخطط ولخّص عليها المواضيع الأساسية التي ظهرت في كل مجال وركيزة. والآن ستبدأ برؤية صورة مسبقة عن التحديات التي ستواجهها.
وعند هذه النقطة سيضم مخططك الكثير من المعلومات. سل نفسك: هل ستعمل المكونات جميعها معاً كوحدة متماسكة ومتكاملة؟ هل يبدو منطقياً من الناحيتين الاستراتيجية والمؤسسية؟ هل يفيد المخطط بأنك ستنفذ مشروعك في بيئة سريعة التغيير تتعدد فيها الأولويات؟ والآن، حان الوقت لبعض التفكير المتمعن والتكرار المركز. إذا كانت لديك ركيزة أو بضعة ركائز مفقودة أو غير واضحة فعلى الأرجح أن الوقت لم يحن بعد للبدء بمشروعك وسيكون ذلك شديد الخطورة. خذ مزيداً من الوقت كي تتمكن من توضيح هذه الركائز، وإذ لم تتمكن من ذلك فلا تبدأ مشروعك إطلاقاً. عند انتهاء الاجتماع لن تكون العملية قد انتهت، وتتمثل خطوتك التالية في مشاركة الوثيقة التي نتجت عنه مع أصحاب المصلحة الآخرين وإضافة ملاحظاتهم عليها.
والآن أصبح المخطط وثيقة قابلة للتعديل يجب العودة إليها بصورة دائمة. عد إليها كلما واجهت قراراً هاماً، وحدثها حينما تجري تغييرات على طبيعة المشروع أو على أهدافك. وقد ترغب في إبراز المخطط عبر أشكال الإعلام المختلفة لمؤسستك وفق منهجية "قرع الطبول" (drumbeat). فيمكنك على سبيل المثال إنتاج مقطع فيديو أو كتابة مقال أو العمل على تيسير ورشة عمل قصيرة حول واحد أو أكثر من عناصر المخطط على نحو دوري، مرة في الشهر مثلاً.
المهارات والتدريب
تتمتع المشاريع بجودة مماثلة لما يتمتع بها من يديرونها. إذن ما هي المهارات الأساسية التي يجب أن يبرع القادة فيها في عالم قائم على المشاريع؟
قسمتُ هذه المهارات إلى 6 فئات:
مهارات إدارة المشاريع؛ يجب أن يملك المسؤول التنفيذي الذي يرعى المشروع أساساً متيناً في أساسيات إدارة المشاريع، ويجب أن يعرف سبب نجاح المشاريع أو فشلها ويعرف كيفية ضمان قوة الأساسيات التقنية في مشروع معين وما هي ميزات المشروع التي يجب التفكير فيها عند اختيار مدير المشروع. إضافة إلى ضرورة أن يكون قادراً على فهم التعقيدات التقنية والقيود المترافقة مع طرق تطوير الخطط والتقديرات.
وبالنسبة لمدير المشاريع فيجب أن تتوفر لديه القدرة على استخدام الأدوات والتقنيات من أجل وضع التفسير المنطقي ودراسة الجدوى للمشروع. ويجب أن يبرع في التعامل مع المساهمين والشركاء في تحديد نطاق المسؤولية وأن يعرف طرق تحديد المخاطر وإدارتها بكفاءة. ما أن يصبح المشروع قيد التنفيذ، يصبح مديره مسؤولاً عن تأسيس آليات إعداد التقارير من أجل مراقبة التنفيذ والجودة، وإذا كان من المتوقع أن يحصل بعض التأخير أو التغييرات في الخطة فيجب أن يكون مدير المشروع قادراً على تصور أثرها والتوصل إلى بدائل مناسبة.
المهارات الخاصة بالموضوع وتطوير المنتج؛ يجب أن يطور راعي المشروع ومديره فهماً جيداً للتكنولوجيا أو الميزات أو المنتج أو الخدمة أو القدرات التي يهدف المشروع إلى توليدها، وسيعود ذلك بفوائد كبيرة عليهما: سيمنحهما المصداقية لدى أفراد فريقهما وأصحاب المصلحة، وسيمكّنهما من التواصل بلغة الخبراء وفرق المنتجات وسيضمن أن يتمكنا من فهم فوائد المشروع وطريقة تحقيقها وموعده، وسيساعدهما على فهم طريقة اتصال المشروع باستراتيجية المؤسسة الشاملة.
الفطنة التجارية والاستراتيجية؛ يملك الراعي التنفيذي نظراً لرفعة مرتبته فهماً جيداً لمؤسسته واستراتيجيتها وأهم منافسيها، كما أنه يتمتع عادة بخبرة فيما يتعلق بالشؤون المالية والبيئة التي سينفذ فيها مشروعه. أما مدير المشاريع فهو يحتاج عادة لتطوير هذه المهارات. القدرة على الربط بين فوائد المشروع وغايته وأولويات الشركة الراسخة ضرورية لاكتساب التأييد وتحقيق الأهداف، ومن الضروري أيضاً التركيز بشدة على فوائد المشروع وآثاره حتى في المراحل الأولى.
مهارات القيادة وإدارة التغيير؛ يحتاج راعي المشروع ومديره إلى قدرات قوية في القيادة وإدارة التغيير. يجب أن يكونا قادرين على إنشاء فرق عالية الأداء وتقديم التوجيه لها وإدارة الأفراد وإقناعهم في مختلف الثقافات وبناء الجسور بين أقسام المؤسسة والتواصل في وقت مبكر وعلى نحو فعال والقيام بأعمال تقييم الموظفين وتطويرهم وتوجيههم وحل الخلافات على نحو تتقبله كافة الأطراف.
المرونة وقابلية التكيف؛ لا شك في ضرورة أن يتكيف راعي المشروع مع الأساليب المرنة، ففي الماضي كان راعي المشروع مطالباً بالقيام بأعمال القيادة وفقاً لخطة محددة مسبقاً والتعامل مع القرارات على أنها بسيطة وثنائية، لكنه في عالم قائم على التغيير لن يملك جميع الأجوبة وسيضطر لتغيير مساره وإلغاء مشاريعه بصورة دائمة. تقدم عدة مجموعات للتدريب على النهج المرن دورات تعليمية مفيدة وشهادات، ويمكنها أن تقدم له قاعدة معرفية متينة.
وكذلك الأمر بالنسبة لمدير المشروع، فهو بحاجة إلى امتلاك القدرة على العمل بسهولة في سياق يملؤه الغموض ووضع الخطط واتخاذ القرارات بناء على معلومات محدودة. ويجب أن يكون مستعداً لتطبيق بعض الأساليب المرنة أو التقنيات القابلة للتكيف، ومنها "إدارة المشاريع المرنة" (Agile Project Management) و"منهجية سكرم التعاونية" (Scrum) و"نظام كانبان" (Kanban) و"نظام أجايل المتدرج" (Scaled Agile Framework).
الأخلاق والقيم؛ يعتبر راعي المشروع ومديره نموذجين يحتذى بهما، فهما قادران على خلق بيئة آمنة يملؤها الاحترام وعدم إطلاق الأحكام تتيح لأفراد فريق المشروع بناء الثقة فيما بينهم والتواصل بانفتاح. في مرحلة إطلاق أي مشروع حاول أن تطور مدونة لقواعد السلوك من أجل توجيه نفسك وأفراد فريق المشروع، ويمكنك البدء بالرجوع إلى النماذج الحالية المتاحة على الإنترنت مثل مدونة قواعد السلوك الخاصة بمعهد إدارة المشاريع أو الجمعية الدولية لإدارة المشاريع (International Project Management Association).
إن إتقان هذه المهارات ليس عملاً بسيطاً، ولكن من الجيد أن الكثير من الخيارات الجيدة متاح فعلاً، فبعض كليات الأعمال تقدم برامج في إدارة المشاريع تستمر عاماً كاملاً، وتقدم مجموعات مثل معهد إدارة المشاريع و"برنس 2" (Prince2) برامج شهادات معتمدة دولياً، ويقدم برنامج "بي إم2" (PM2) التابع للمفوضية الأوروبية وبرنامج "براكسيس" (Praxis) أطر عمل مجانية لإدارة المشاريع على الإنترنت، كما تقدم الجمعية الدولية لإدارة المشاريع إطار الكفاءات لتطوير المهارات التقنية. لكن الخيار الأمثل هو تطوير برنامج تدريب داخلي خاص بالمؤسسة بما يلائم احتياجاتها وثقافتها.
المشاريع العظيمة لا تجعل العمل أفضل فحسب، بل تجعل العالم كله أفضل.
إذا كانت لدى المدراء والمؤسسات رغبة في بناء الكفاءات اللازمة للتحول والازدهار في اقتصاد المشاريع الجديد فسيكون من الضروري إتقان وضع الاستراتيجيات التي تعتمد على الكفاءة والتغيير في آن معاً، وتخصيص المزيد من الموارد والميزانيات وقوة صنع القرار للمشاريع وفرقها على حساب التراتبية الإدارية التقليدية، واتباع إطار عمل بسيط مثل "مخطط المشروع" كي يتمكن الجميع في المؤسسة من المشاركة، وبناء كفاءات إدارة المشاريع والتكيف مع التكنولوجيا الجديدة، والتشجيع على نقل التركيز من المدخلات والمخرجات وتوجيهه إلى النتائج والقيمة. وتوسيع نطاق طموحات المشاريع عن طريق التركيز على التنوع الاجتماعي والاستدامة على سبيل المثال.
يمكننا جميعاً كقادة فعل هذه الأمور، لكن تخيل ما يمكننا تحقيقه إذا قمنا بذلك بصورة جماعية؛ عن طريق تنفيذ مشاريعنا على نحو أفضل، سنتمكن من تقديم فوائد إضافية للعالم تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات.