تُقدم هارفارد بزنس ريفيو الجزء الرابع من سلسلة الأجزاء الأربعة الخاصة بالمناقشات الثرية حول مجموعة متنوعة من القضايا المتعلقة بالأعمال والريادة والإدارة في المنطقة العربية واعتماد الحوكمة والتعليم والعمل الخيري ودورهم في صياغة المستقبل، مع بدر جعفر، الرئيس التنفيذي لشركة "الهلال للمشاريع"، ورئيس شركة "نفط الهلال"، ومؤسس "مبادرة بيرل" من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من الأفكار القيادية المهمة خلال هذه الأوقات الاستثنائية.
منذ أكثر من 10 سنوات، أسس بدر جعفر، مؤسسة "مبادرة بيرل" غير الربحية التي تركز على إرساء ثقافة مؤسسية قوامها الشفافية والمساءلة في منطقة الخليج. لنتعرف على أبرز الأهداف التي حققتها هذه المؤسسة وكيف ساهمت في تغيير ثقافة العمل المؤسسي في المنطقة.
من أين جاءتك فكرة تأسيس "مبادرة بيرل"؟ وكيف تغيرت المواقف تجاه اعتماد الحوكمة في المنطقة على مدى العقد الماضي؟ هل تتحسن الأمور برأيك؟
عندما تأسست "مبادرة بيرل"، بالشراكة مع مكتب الأمم المتحدة للشراكات في عام 2010، كانت أول مؤسسة غير ربحية يقودها القطاع الخاص وتبرز الجدوى التجارية للحوكمة القوية للشركات في منطقة الخليج.
كانت الحاجة إلى مبادرة من هذا القبيل واضحة في ذلك الوقت،
- فقد كانت الشركات الخاصة العائلية تساهم بأكثر من 85% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي.
- ويجري انتقال أكثر من 2 تريليون دولار من الجيل الثاني إلى الجيل الثالث بحلول عام 2030.
- وكما نعلم، من الناحية الإحصائية، فإن الانتقال من الشراكة بين الأشقاء إلى اتحاد أبناء العمومة (أي من الجيل الثاني إلى الجيل الثالث) محفوف بالمشكلات، كما أن 15% فقط من الشركات العائلية على مستوى العالم تظل صامدة بعد انتقالها إلى الجيل الثالث، ويرجع ذلك أساساً إلى إخفاقات الحوكمة.
لذلك كانت هناك فرصة كبيرة وضرورة ملحة: لبناء تحالف من شركات في جميع أنحاء الخليج، وتضمين الشركات متعددة الجنسيات التي تعمل في الخليج وتستثمر فيه، وإبراز الجدوى التجارية من اعتماد الحوكمة الرشيدة بهدف حماية عملية خلق القيمة وتعزيزها بالطبع في القطاع الخاص، وبالتالي توفير وظائف هناك حاجة ماسة إليها في جميع أنحاء المنطقة.
لقد اقتربنا من الذكرى السنوية العاشرة لتأسيس "مبادرة بيرل"، وبعد عقد من الزمان أصبحت رسالتها أكثر أهمية من أي وقت مضى، لعدة أسباب:
أولاً، انتشرت الشركات الناشئة في المنطقة، فضلاً عن النمو المستمر في حجم قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل عام وتزايد أهميته. ففي الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، يشكل قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة في الوقت الحالي أكثر من 90% من إجمالي عدد الشركات التي تعمل في الدولة، ويعمل به أكثر من 86% من القوى العاملة في القطاع الخاص.
ثانياً، شهدنا زيادة كبيرة في التركيز على أهداف البيئة والمجتمع والحوكمة في جميع أنواع الشركات والمؤسسات على الصعيدين العالمي والإقليمي، وبالتالي تمكنت "مبادرة بيرل" من المساعدة في مواجهة التحديات المتعلقة بالحوكمة وتلبية بعض الطلب المتزايد في المنطقة على الأدوات والمعلومات في هذا المجال.
تجدر الإشارة إلى أننا شهدنا أيضاً زيادة كبيرة في كمية الأعمال الخيرية المؤسسية التي تتم في منطقة الخليج والتي تنطلق منها، بما في ذلك الأعمال الخيرية التي تُقدم من خلال المؤسسات الخاصة والعائلية. وهذه ليست شركات، لكنها لا تزال رؤوس أموال خاصة تُستخدم من أجل الصالح العام، ولذا فهي جزء من سلسلة متواصلة من رؤوس الأموال الخاصة التي تستحق القدر نفسه من الجدية والانضباط الذي يستحقه رأس المال التجاري.
ولذلك أطلقنا في السنوات العشر الماضية مبادرات كبيرة تركز على اعتماد الحوكمة في الشركات الصغيرة والمتوسطة والشركات الناشئة، وأفضل الممارسات في مكافحة الفساد، والتنوع والشمول (ليس فقط التنوع بين الجنسين، بل جميع أشكال التنوع)، واعتماد الحوكمة في العمل الخيري، وضاعفناها من خلال برنامجنا للحوكمة في الشركات العائلية. ونحن أيضاً على وشك إطلاق برنامج الحوكمة في مجال التكنولوجيا الذي سيساعد شركات التكنولوجيا سريعة النمو في جميع أنحاء المنطقة على مواجهة التحديات الفريدة المتعلقة بالحوكمة.
تمتلك المؤسسة حالياً شبكة من مئات الشركاء الإقليميين والدوليين، بما في ذلك العديد من أكبر الشركات في منطقتنا مثل "أرامكو"، والعديد من الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، وسيكون هناك دافع قوي في السنوات القليلة المقبلة لزيادة القيمة المتصورة للشراكات لضمان أن يستفيد كل شريك بشكل مباشر من العمل المهم الذي تقوم به المؤسسة.
تتعاون "مبادرة بيرل" أيضاً مع الجامعات في الخليج لإشراك الطلاب، الذين سيكونون بالطبع قادة أعمال في المستقبل، في المسابقات والأنشطة الأخرى التي تؤكد على الجدوى التجارية للحوكمة الرشيدة للشركات. وهذه مسألة تشغل بال الشباب بالفعل. ففي دراسة أُجريت مؤخراً، رأى الشباب العربي الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً أن مكافحة الفساد لها أولوية قصوى بالنسبة إلى مستقبل المنطقة، وهذه مسألة تتعلق بالحوكمة بشكل أساسي، وتمتلك "مبادرة بيرل" أيضاً مجلساً استشارياً طلابياً، ورئيسه عضو في مجلس المحافظين.
أصبح هناك وعي أكبر بكثير بأهمية هذه الموضوعات في المنطقة اليوم مما كان عليه قبل 10 سنوات، وقد ساهمت "مبادرة بيرل" بلا شك في ذلك، ولكن في رأيي يتمثل التحول الرئيسي في أن عدداً متزايداً من المؤسسات في الخليج اليوم أصبحت تتفهم الجدوى التجارية لتعزيز أطر حوكمة الشركات وتشجع على الشفافية والمساءلة.
لدينا الكثير من الأمثلة لما يمكن أن يحدث عندما لا تأخذ الشركات والمستثمرون هذه الأمور على محمل الجد بما يكفي، وبالتالي فإن الحوكمة بوصفها تدبيراً وقائياً لتجنُّب تدمير القيمة والسمعة يُنظر إليها الآن على أنها أمر أساسي وليس ثانوياً.
لذا، تدخل المؤسسة الآن المرحلة التالية، كما أن مجلس الحوكمة ومجلس الرؤساء التنفيذيين (المكون من الرؤساء التنفيذيين لجميع شركائنا من الشركات) على وشك الموافقة على رؤية 2025 لـ "مبادرة بيرل" التي ستتيح لنا تكثيف الجهود بشكل مناسب في السنوات المقبلة، وستجعلنا أيضاً أكثر انضباطاً وخضوعاً للمساءلة عندما يتعلق الأمر بقياس تأثيرنا والوفاء لنظريتنا حول التغيير. خلاصة القول، نحرص على أن تطبق المؤسسة ما تدعو إليه، وسيكون ذلك في صميم رؤيتنا المتجددة.
أبرزت جائحة "كوفيد-19" الدور المهم الذي يمكن أن يؤديه العمل الخيري في مواجهة التحديات العالمية. وقد أسستَ مؤخراً "المركز الاستراتيجي للأعمال الخيرية" الذي يقع مقره في "جامعة كامبريدج"، فكيف تصف وضع القطاع الخيري في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا اليوم؟ وما هو المطلوب لتعزيز الدور الذي يمكن أن يؤديه العمل الخيري في التصدي للتحديات المختلفة التي تواجهها المنطقة؟
عُوِملَ العمل الخيري لفترة طويلة جداً على أنه الطفل الذي أهمله نظامنا الرأسمالي؛ فقد رأى الكثيرون أن دوره هامشي، وحتى في بعض أنحاء العالم كان يُنظر إليه بدرجة عالية من الشك.
في الواقع، يُوزّع أكثر من تريليون دولار من رؤوس الأموال الخيرية الخاصة كل عام (أكثر من 3 أضعاف الميزانيات السنوية للتنمية العالمية والمساعدات الإنسانية مجتمعة). وأُنفق في الولايات المتحدة وحدها في عام 2019 أكثر من 430 مليار دولار في الأعمال الخيرية الخاصة؛ وتلك المبالغ ضخمة، وهي تقزّم ميزانيات المعونات الأجنبية التي تقدمها أكثر البلدان سخاءً حتى.
ومن حسن حظي أني دخلت في شراكة مع "جامعة كامبريدج" عام 2020 لإنشاء "مركز العمل الخيري الاستراتيجي" الجديد ضمن "كلية جادج للأعمال" في الجامعة.
ما يميز المركز هو أنه يركز حصرياً على الأعمال الخيرية الاستراتيجية داخل الأسواق الناشئة في العالم وخارجها، بما في ذلك في إفريقيا وآسيا النامية وبالطبع في الشرق الأوسط.
تُقسّم مهام مركز العمل الخيري الاستراتيجي إلى 3 مجالات رئيسية:
أولاً، إجراء بحوث دقيقة مرتبطة بالعمل الخيري الاستراتيجي داخل أسرع الاقتصادات نمواً في العالم وخارجها.
ثانياً، توفير التعليم والتدريب للجيل القادم من قادة الأعمال الخيرية ليحققوا النجاح في تلك المناطق من العالم.
وأخيراً، جمع مختلف الآراء لتحسين فهم طبيعة العمل الخيري في تلك الأسواق بهدف تعزيز تأثيره وفاعليته.
أعني أنه ليس من المفاجئ وجود تحول جذري في الاقتصاد العالمي اليوم. كانت الاقتصادات الـ 30 الأسرع نمواً في العالم في عام 2019 جميعها ضمن الأسواق الناشئة. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 5 تريليون دولار من الثروة ستنتقل من جيل لآخر ضمن تلك الاقتصادات على مدى السنوات الـ 10 المقبلة، وهو ما يشير إلى احتمال حصول زيادة كبيرة في النشاط الخيري في تلك المجتمعات في العقود المقبلة، بما في ذلك هنا في الشرق الأوسط.
ومن الواضح وجود تاريخ حافل من العطاء الخيري في كل من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والعالم الإسلامي الأوسع. ويُوزع اليوم ما بين 400 مليار إلى تريليون دولار في الأعمال الخيرية الإسلامية كل عام على شكل زكاة وصدقات. وهذا أمر رائع من جهة! إذ إن ذلك المقدار من المال كبير، وهو يمثّل 3 أضعاف ميزانيات التنمية العالمية والمساعدات الإنسانية على أساس سنوي.
لكن أين تذهب تلك الأموال؟ وما هو الأثر الذي تولده؟ هل تُدمج مع مصادر أخرى لرأس مال الحكومة ورأس المال التجاري لمواجهة التحديات العالمية الأكثر إلحاحاً؟ لا نعرف الإجابة تماماً في الواقع.
وهنا تكمن الفرصة، وسعيت مؤخراً مع أخذ تلك العوامل في الاعتبار إلى إطلاق مبادرة جديدة تحمل اسم "حسنة"، وهي عبارة عن منصة رقمية غير ربحية مصممة لتسهيل عملية العطاء الإسلامي والتأكد من أن تُخصص الأموال التي تُجمع من خلال العطاء الإسلامي لمشاريع ومؤسسات خيرية تتمتع بالشفافية وتخضع للمساءلة وتهدف إلى تحقيق الأثر في جميع أنحاء العالم. وأطلقنا حالياً نسخة تجريبية من مبادرة "حسنة"، ويمكن لأي شخص الاطلاع على المبادرة عبر موقع (hasanah.org).
وأخيراً، لاحظت مع تجاوزنا عصر "كوفيد-19" افتقار منطقة الشرق الأوسط إلى أنشطة العمل الخيري التعاوني. نتحدث عن العمل الخيري التعاوني كثيراً من الناحية الفكرية وفي المؤتمرات، لكن لا يسعني التفكير في أي مثال جيد عن العمل الخيري التعاوني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ كأن تجتمع مؤسستان للعمل الخيري وتقررا "جمع الأموال معاً في سبيل تحقيق غاية معينة".
وتُعد تلك فرصة كبيرة ضائعة. وعلى الرغم من مدى سوء تجربة جائحة "كوفيد-19" لأسباب عديدة، فإنها أظهرت مدى فاعلية التعاون الحقيقي بين فاعلي الخير وأصحاب المصلحة الآخرين في ظل الأزمات، وقدّمت لنا نموذجاً حول النهج الذي يمكن لفاعلي الخير في الشرق الأوسط اتباعه لمضاعفة تأثيرهم. وآمل أن يكون ذلك النوع من العمل الخيري التعاوني ملهماً لمزيد من الأعمال المماثلة في المستقبل.
عُيّنتَ قبل عامين في لجنة اليونسكو الدولية حول مستقبل التعليم لإعادة التفكير في دور التعليم والتعلم والمعرفة في ضوء التحديات والفرص الهائلة للمستقبل المتوقع والمحتمل والمفضل. ما رأيك في الوضع الحالي لقطاع التعليم اليوم، وكيف يمكننا ضمان أن نُعدّ أطفالنا وشبابنا للمستقبل بحق؟
تأسست تلك اللجنة الدولية في شهر سبتمبر/أيلول عام 2019 لقيادة "مبادرة مستقبل التعليم" بهدف إعادة تصور كيفية استخدام المعرفة والتعلم لتشكيل مستقبل البشرية بطريقة أكثر إيجابية في عالم يتزايد فيه التعقيد والغموض.
وأعتقد بحسب وجهة نظري المستندة إلى خبرتي في مجال الأعمال أن العديد من نماذج التعليم القديمة لم تعد تفي بالغرض في العالم الذي نعيش فيه ونعمل فيه اليوم، بل يجب علينا تطوير نماذج جديدة من التعليم ترتكز على الإنسان، وتصب تركيزاً أقل على تطوير المهارات التقنية، وتركيزاً أكثر على تنمية الأفراد، على الأقل هنا في الشرق الأوسط، وربما على نطاق أوسع. قد يعني ذلك صبّ تركيز أكبر على قضايا الصحة العقلية والثقة بالنفس وتنمية التعاطف والتفكير النقدي وتدريب الأفراد على "المهارات الشخصية" التي ستفيدهم، بغض النظر عن التحديات التي تواجهها القطاعات. وستبقى تلك المهارات مهمة ومطلوبة طالما أننا نعيش على هذه الأرض! وقد يزداد الطلب عليها حتى، بحسب ما أعتقد.
ما هي طبيعة نظام التعليم هذا؟ كيف يمكننا التأكد من أنه يلبي احتياجاتنا الحالية ويتوقع احتياجاتنا المستقبلية بطريقة شاملة؟ لم تكن تلك الأسئلة التي درستها اللجنة سهلة، حتى أنها عقدت المئات من المشاورات الجماعية عبر جميع أنحاء العالم، بما في ذلك منطقة الخليج، للحصول على المساعدة والتوجيه.
ونخطط لإصدار تقرير رئيسي بالنتائج التي توصلت إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، لذلك، ابقوا على اطلاع.