أميركا والصين لا يمكن لإحداهما الاستغناء عن الأخرى بسهولة

4 دقائق
اقتصاد الصين وأمريكا

إليك هذا المقال حول اقتصاد الصين وأمريكا تحديداً. على افتراض استمرار الأوضاع والاتجاهات الحالية كما هي، فإن التحول المحتمل في الهيمنة العالمية من الولايات المتحدة إلى الصين سيكون الحدث الأبرز في هذا القرن. ولكن السؤال هو: هل سيؤدي ذلك إلى مزيد من النزاعات أم مزيد من التعاون.

تأتي الهوية الوطنية في المرتبة الأولى للعديد من المواطنين الأميركيين، أياً كان ما يعنيه ذلك تحديداً. وإذا نجحت الصين، التي تنعم بالرخاء والاستقرار والثقة على نحو متزايد، في إثبات نفسها بوصفها قائدة العالم، فليس من المرجح أن يتراجع الأميركيون رويداً إلى المرتبة الثانية.

لا توجد علاقة أخرى لها الأهمية نفسها، أو مشحونة بالتوتر نفسه، مثل علاقة أميركا بالصين، من ناحية، تعتمد الدولتان على بعضهما بعضاً اعتماداً مشتركاً تبادلياً لتعزيز نمو  اقتصاد الصين وأمريكا تحديداً، فيستورد الأميركيون ما قيمته 500 مليار دولار تقريباً من الأجهزة الإلكترونية والألعاب زهيدة الثمن نسبياً، وعلى ما يبدو كل شيء آخر أيضاً، من الصين سنوياً. وفي الوقت نفسه، تمتلك الصين 1.1 تريليون دولار من الأوراق المالية الأميركية. فالعلاقة، كما يفضل المراقبون وصفها، "أكبر من أن تفشل".

ومن ناحية أخرى، توجد التوترات الحادة التي كانت قائمة قبل وقت طويل من انتقادات دونالد ترامب للممارسات التجارية لبكين والضوابط التي تفرضها على العملة. كما أن واشنطن غير راضية عن ثقة الصين المتزايدة في سيادتها لمياه بحر الصين الجنوبي، وارتكابها انتهاكات روتينية لحقوق الإنسان، وشنها هجمات سيبرانية على الشركات الأميركية، وغيرها الكثير. وترى بكين من جانبها أن الولايات المتحدة لديها تدخل مفرط في الشؤون الداخلية للصين.

هذا التحالف المضطرب ضروري لمستقبل الكوكب بأسره. كما يقول جون بومفريت، المراسل الأجنبي المقيم في بكين، في كتابه "الدولة الجميلة والمملكة الوسطى" (The Beautiful Country and the Middle Kingdom): "لا يمكن حل أي مشكلة تثير الاهتمام على الصعيد العالمي، سواء كانت ذات صلة بالاحتباس الحراري أو الإرهاب أو انتشار الأسلحة النووية أو الاقتصاد، ما لم تجد كل من واشنطن وبكين وسيلة تمكّنهما من العمل معاً". وقد طرح كتابه هذه القضية بطريقة مقنعة، مع أخذ القراء في رحلة مثيرة وزاخرة بالمعلومات من خلال الدورات اللانهائية من "الافتتان المذهل" و"خيبة الأمل الحتمية" بين الدولتين.

زرت الصين للمرة الأولى في عام 1980، بعد فترة وجيزة من عودة العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وبكين، إثر انقطاعها عام 1949 عندما تولى الحزب الشيوعي السلطة. لم يكن الصينيون يعرفون تماماً ما الذي ينبغي لهم فعله مع مجموعتنا المكونة من سياح أميركيين مبتهجين وطموحين. وقد طرحنا على مرافقينا الرسميين الكثير من الأسئلة حول نظامهم السياسي، وتراث ماو تسي تونغ، ومصير الاشتراكية. وكانت المرة الوحيدة التي استفززتُ فيها السيدة زو - مرشدتنا الأساسية - عندما ذكرتُ أن هناك وجه تشابه بين ريتشارد نيكسون وعصابة الأربعة، وهي مجموعة سياسية مكروهة ومتشددة وأطيح بها بعد وفاة ماو. لم تفهم السيدة زو ما قلته، لأن معظم الصينيين أحبوا نيكسون، حتى شبهتُ الرئيس السابق بكاريكاتير تخيلي لقاطع طريق ملوّحاً بمسدس ذي 6 طلقات ويسرق محفظة من جيب شخص ما، وقد أومأت برأسها، وكانت تلك بداية التفاهم بين ثقافتينا.

ولكن إن كانت الصين في تلك المرحلة تتوخى الحذر بشأن تقبلها للعالم الخارجي، إذاً هناك خطوات واسعة كان يجري اتخاذها وراء الكواليس. أدركَ خلفاء ماو أن الصين لديها الكثير لتتعلمه من الغرب، تحديداً فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. وبالتالي، طوال فترة الثمانينيات، دعت بكين مجموعة من الخبراء الاقتصاديين الأجانب لطرح أفكارهم. وكانت هذه التفاعلات موضوع كتاب "شركاء غير محتملين" Unlikely Partners، من تأليف جوليان جيويرتز، المرشح لنيل درجة الدكتوراه من جامعة "أوكسفورد" (Oxford)، وقد قضى عدة سنوات في العمل والبحث في الصين. كان الأميركيون جزءاً من هذا الحوار، حتى ميلتون فريدمان الذي اعتُبرت أصولية السوق الحرة التي وضعها لعنة على سياسات الحزب الشيوعي. وأوضح جيويرتز أن زيارة فريدمان الأولى للصين لم تسر على ما يرام، فقد حاضر فريدمان مضيفيه حول المزايا غير المحدودة للرأسمالية، ومضيفوه حاضروه حول المباهاة بالانتصار الشيوعي. وغادر غاضباً، وكان يتحدث باهتياج حول جهل الصين بكيفية عمل الأسواق. وقد سخر الصينيون منه، ووصفوه بأنه رجل "لا يتحدث معك بتهذيب مهما كان منصبك".

رغم تلك المشكلات، كانت هذه الحقبة هي "العصر الذهبي" للإصلاحات والانفتاح في الصين، فقد ناقش المفكرون وقادة الأحزاب طائفة واسعة من الاحتمالات الاقتصادية والسياسية، وبدؤوا في تنفيذ تجارب السوق الحرة التي سُتخرج الدولة في نهاية المطاف من حالة الركود وتجعلها ذات أكبر اقتصاد في العالم. (فيما يتعلق بتعادل القوة الشرائية، الأمر كذلك بالفعل، ويُتوقَّع أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي المطلق للصين الناتج المحلي الإجمالي لأميركا بحلول عام 2025).

مع ذلك لم تصبح الصين مثل الولايات المتحدة حتى الآن، رغم المحاولات العديدة للأميركيين، أصحاب النوايا الحسنة في الغالب، لأن يجعلوها أكثر ديمقراطية ورأسمالية وورعاً، متبعين بذلك سياسة العصا والجزر. مما لا شك فيه أن بعض الصينيين متيمون بالقيم الأميركية. عندما عملتُ رئيساً لمكتب جريدة "وول ستريت جورنال" (Wall Street Journal)، في بكين، آواخر الثمانينيات، تحدث الكثيرون بصراحة حول إعجابهم بمؤسسات الولايات المتحدة وقيمها، وأنهم يتوقون لرؤية بلدهم تسلك درباً مماثلاً.

لكن في هذه الأيام من الواضح أن الصين ترسم مسارها الخاص، الذي يُعرف غالباً بـ "الرأسمالية المتسلطة". والأمر لا يقتصر على قلق قادتها من أن تبنّي الديمقراطية على النمط الغربي يُمكن أن يزيل الحزب من السلطة، ولكن يتعلق أيضاً بشعورهم أن نموذج السوق الحرة الأميركي قد فشل، بتلقيه ضربة مؤلمة مع الركود الاقتصادي الكبير. وقد روى بومفريت تفاصيل الاجتماع الذي عُقد عام 2008 بين هانك بولسون، وزير الخزانة الأميركي الأسبق الذي لديه علاقات واسعة مع الصين، ونائب رئيس الوزراء وانغ كيشان. فقال وانغ لبولسون "لقد كنت معلمي، لكن انظر الآن إلى نظامك يا هانك، لم نعد متأكدين من أننا ينبغي لنا أن نتعلم منكم بعد الآن".

على الأرجح، الصين ليست مستعدة في هذه المرحلة لأن تصبح قائدة عالمياً في الساحة السياسية. ولكن ورد في كتاب "صناع الثروات" Fortune Makers، من تأليف مايكل أوسيم وهاربير سينغ ونينغ ليانغ وبيتر كابيللي، أن "طريقة الصين" بدأت في الظهور بالفعل في القطاع الخاص، وأنها طريقة تستحق أن تُحتذى. كما ألقى المؤلفون نظرة فاحصة على النجاح الذي حققته شركات مثل "علي بابا" (Alibaba)، و"لينوفو" (Lenovo)، و"فانك" (Vanke)، وأوضحوا أن هذا النجاح لم يكن ثمرة الدعم الحكومي أو أي امتيازات خاصة أخرى، ولكنه نبع من العقلية الصينية التجارية والإدارية الفريدة التي لديها الكثير لتقدمه للغرب. ومن بين المزايا الأخرى لتلك الشركات أنها تنزع إلى التركيز بشدة على تحقيق النمو، ولا تهتم كثيراً بزيادة القيمة السهمية، على الأقل ليس على المدى القصير.

من الواضح أن نموذج الولايات المتحدة محاصر، وأن الصين مستمرة في النمو. ولا يسع المرء إلا أن يأمل في أن يجد اقتصاد الصين وأمريكا أن تجد هاتان القوتان العظميان سبلاً لتستوعب كل منهما عظمة الأخرى.

اقرأ أيضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي