كانت البيروقراطية تُعتبر في أيام سابقة ابتكاراً تقدمياً، صدّق أو لا تُصدّق! بفضل الهرمية الوظيفية التي تعتمدها وتقسيمها المتخصص للعمل وإجراءاتها الموحدة في التشغيل، تمكنت الشركات من النمو أسرع من أي وقت مضى في تاريخها. ولطالما امتدح عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، منطقية البيروقراطية وكفاءاتها.
لكن ويبر حذر أيضاً من البيروقراطية بلا قيود والتي قد تخلق قفصاً حديدياً خال من الروح يحاصر من بداخله فينتزع الإنسانية منه ويحد من إمكانياته. كان ويبر محقاً في ذلك. فاليوم، يعمل معظم البشر ضمن إطار ما من البيروقراطية. وبحسب معهد غالوب، فإنّ 85% من الموظفين في العالم يشعرون بانفصال شخصياتهم عن طبيعة عملهم. قد تجد نفسك ضمن هؤلاء. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا يمكنك أن تفعل للهروب من هذا القفص الحديدي؟
إنّ المحادثة الأكثر شيوعاً التي أجريها هذه الأيام هي مع هؤلاء الموظفين ممن هم دون مستوى الإدارة العليا. تدور المناقشة كالتالي: "بيروقراطية هذه الشركة تقتلني. بل تقتل العمل كله. أعلم أنّ القيادة تتحرج من تبني منهجية أجايل، لكن الواقع المحزن هو أنني غير متأكد من أنّ فريقنا القيادي سيبدأ خطوات فعلية قبل أن يصبح الوقت متأخراً للغاية. ماذا عليّ أن أفعل؟".
في هذه المواقف، فإنه من غير المحتمل أن تساعد الدعوة إلى مزيد من الصبر أو إلى القيام بعمل أكثر إقناعاً أو حتى التوصية بتغيير وظيفي. إذا كان الواقع يقول أنّ 85% من موظفي العالم لا يشعرون بالسعادة، فإنّ معظم المنتقلين بين الوظائف غالباً سيستقر بهم الحال في قفص شركة أخرى. بدلاً من هذا، عادة ما تتحول مناقشاتنا إلى خيار آخر. بدلاً من مناقشة مزايا فرق "أجايل"، لماذا لا نبدأ عرضها؟ ربما لا يدري المسؤولون التنفيذيون، كغيرهم من العملاء، ماذا يريدون حتى تعرضه لهم.
تعمل فرق "أجايل" بشكل أفضل في ظل رعاية عليا وسيكون الدعم التنفيذي جوهرياً لتدرج انتشار "أجايل" داخل الشركة. لكن فرق "أجايل" الابتكارية تعمل بشكل أفضل من التوجهات الحالية. وتقوم مبادئ "أجايل" على أنّ إحراز تقدم فوري يغلب انتظار حلول مثالية قبل البدء. على مدار عقود، عملت عشرات الآلاف من فرق "أجايل" دون وعي كاف من الرؤساء التنفيذيين، ناهيك عن عدم تلقي الدعم الفعال. إلى جانب ذلك، يتحدث ما يقرب من ثلثي العاملين بمنهجية "أجايل" عن زيادة في معنويات الفريق، وفي الإنتاجية، وكذلك في القدرة على إدارة الأولويات المتغيرة والتسويق أسرع من ذي قبل.
لهذا، خذ زمام المبادرة. استخدم "أجايل" لتحرير نفسك ولتحرير فرقك من أقفاص البيروقراطية الحديدية ثم انتقل لتحرير الجميع.
من واقع خبرتي الشخصية، أقول إنّ هذا التغيير المجدي ممكن ومفيد. ربما ستساعدك رحلتي إلى "أجايل" في اكتشاف كيفية بدء رحلتك الخاصة.
تعلم واختبر كيف يعمل "أجايل"
أول مواجهة لي مع فرق "أجايل" كانت منذ عقد مضى في أقسام تكنولوجيا المعلومات الخاصة ببعض تجار التجزئة. وقتها كرهت مصطلحات مثل صناديق الوقت (Time boxes)، المنهجية المتكررة، منسق منهجية الفريق وكل الهراء الآخر المصاحب لمنهجية "أجايل"، كان كل ذلك بمثابة يافطة ضخمة موجهة لغير الفنيين كُتب عليها "ابق بعيداً". لم أكن مهندس برمجيات وشعرت بالإغراء لترك أساليب "أجايل" لمهووسي التكنولوجيا. لكنّي لاحظت نمطاً واضحاً: كان تجار التجزئة، ممن لديهم أقساماً لتكنولوجيا المعلومات تعمل بمنهجية "أجايل"، يتحولون بشكل أسرع وأكثر نجاحاً من غيرهم إلى ما يُعرف بالنهج متعدد القنوات في عملية البيع (omnichannel) الذي يجمع بين البيع المباشر والبيع الرقمي، وهو السمة المميزة لأكثر تجار التجزئة نجاحاً في هذه الأيام. كان الوقت قد حان بالنسبة لي لتعلم كيف ولماذا يعمل "أجايل".
بدأت قراءة المقالات والكتب، منهم الكثير المنتقد لأساليب "أجايل". وشاهدت فيديوهات وحصلت على شهادات من خلال صفوف تعليمية. لكن أفضل تجارب التعلم التي خضتها كانت عن طريق الجلوس مع فرق "أجايل" القوية. كل شركة زرتها تقريباً باعتباري استشاري تبين أنها تضم فرق "أجايل" تعمل في موقع ما، ما دفعني للانضمام لهم لبضع ساعات. هذه الطاقة وهذا الالتزام والتعاون بين أعضاء الفريق كان مصدر إلهام.
حتى أكون منصفاً، لم يكن الأمر كله إيجابياً. غالباً ما تشعر فرق "أجايل" بالإحباط عندما توكل إليها وظائف الشركات التي تُبطئ من وتيرة تقدمها. في الواقع، فإنّ قرابة 60% من هذه الفرق تبلغ عن توترات مع أساليب "أؤمر وتحكم" الإدارية. ولا يزال هذا الإحباط جزءاً طبيعياً من ابتكارات "أجايل" فهو يدفع باتجاه التحسين المستمر مع كل قيد تهاجمه الفرق في سعيها نحو المثالية.
أحببت روح "افعلها بنفسك" الخاصة بمنهجية "أجايل". سبق وأن بحثت بشكل رسمي في أدوات الإدارة وتكنيكاتها على مدار 25 عاماً. تشير معظم التكنيكات لمسارات متشابهة للنجاح إلى أنه يكون أولها بإعلان الرئيس التنفيذي منح الأولوية لهذه الأدوات والتكنيكات، وثانيها، إضافة مسئول كبير وجديد عن "س" إلى اللجنة التنفيذية المتخمة بالفعل، وثالثها، تدريب المؤسسة بأكملها وتكثيف الحملة التحفيزية. جميعنا يعلم النتائج الجيدة لمعظم هذه المبادرات.
أما الابتكار عن طريق "أجايل" فيختلف. إذ هو أبعد من التماس للحصول على دعم الرئيس التنفيذي وأقرب لإعلان استقلال. يُرَحّب بكبار المسئولين التنفيذيين للانضمام للحركة فهم يستطيعون تقويتها قطعاً. لكن محترفي "أجايل" لا يميلون لانتظارهم، فهم يعرفون أنّ نجاحات "أجايل" ستزيد الحافز التنفيذي أسرع مما يستطيع أي التماس أو قضية أعمال.
كلما درست واكتسبت خبرة في الابتكار بمنهجية "أجايل"، كلما ازددت ثقة في قدرتها على فتح الأقفاص الحديدية. هناك الكثير من الخلط بين قيم ومبادئ "أجايل"، ومشاركة الموظف وممارسات الفرق ذات الأداء العالِ. في معظم لقاءاتي هذه الأيام، كنت قد وجدت أنّ ممارسات "أجايل" تساعد الناس لكي يصبحوا أكثر سعادة ونجاحاً.
نمِّ خفة الحركة الشخصية المعتادة
قبل اقتراح توجهات "أجايل" على الآخرين، دار بخلدي أن أمارسها بنفسي. ومن كل قيمة مذكورة في دليل "أجايل"، اخترت سلوكاً واحداً بسيطاً لتغييره وتصورت الحوافز التي تثير فعله. على سبيل المثال:
اعمل بطرق تجعل البشر سعداء وناجحين. عندما أشعر بالضغوط، سأعبر عن تقديري الصادق لعمل شخص واحد على الأقل.
قسّم المهام الكبرى لخطوات صغيرة وجرّب الحلول مع نماذج العمل. عندما يواجهني تحد في شكل رأي مختلف عن رأيي، سأسأل: "كيف يمكننا تجريب ما تقول؟".
بسّط الأنشطة وحاول مراعاة التسلسل للتركيز على أكثر مزايا العملاء قيمة. عندما يُطلب مني القيام بعمل ما ذي قيمة محدودة أو بلا قيمة للعملاء، فسأشرح النشاط الذي عليّ أن أفعله بدلاً منه.
رحّب بالتعلم واحتفِ به. عندما تخطئ توقعاتي أو آرائي، فسأضحك عليها مع الآخرين وأُغير المسار.
وكنت أضع أنواع التغيير كأولوية في عملي. جعلني التعبير عن امتناني أسعد من ذي قبل كما طوّر من العمل الجماعي. أما التغيير الأصعب فكنت أضعه في آخر جدول أعمالي. على مدار عام كامل، كتبت فرضيتي وتوقعاتي وتعقبت مدى دقتهم ومطابقتهم للواقع بمرور الوقت باستخدام طريقة "براير سكور" (Brier Score) التي تقيس مدى دقة التوقعات المحتملة بالنظر للنتائج. للأسف، وجدت أني مخطئ أكثر بكثير مما توقعت. تجرعت التواضع مع التسليم لحقيقة أن وضع آراء الآخرين في الاعتبار لن يكون أكثر خطراً من الاعتماد على آرائي وحدها. خشيت أيضاً من تقويض مصداقيتي جراء الضحك على الأخطاء الكثيرة. لكن بدلاً من ذلك، كانت النتيجة هي الوصول لطرق أكثر تعاونية لتطوير الفرضية والحصول على نتائج أفضل وثقة أكبر.
وبعد أن صارت هذه السلوكيات أسهل، بدأت بإضافة المزيد من الأشخاص. حينها شعرت بسعادة وتحكم أكبر. وكنت مستعداً لبدء اختبار توجهات "أجايل" مع فرقي.
طوّر فريق "أجايل"
أقود ممارسات الابتكار الدولية لشركة باين آند كومباني، ما يعني أنّ معظم فرقي هم بالفعل فرق العملاء الساعين لابتكارات فارقة. كان لديّ فكرة وقررت أن أعرض عليهم صفقة تضرب عصفورين بحجر واحد. قلت: "يسعدنا أن نساعدكم في اكتشاف وتصميم وتطوير هذا المنتج، لكن ماذا لو ساعدناكم على تكوين فريق "أجايل" ليفعل هذا؟ يمكننا تدريبكم ولعب دور الخبراء في هذا المجال أثناء عملية التأهيل. ستعرفون حينها كذلك طرقاً أكثر إرضاء وإنتاجية للعمل. وبعد مغادرتنا، عندما يطرأ احتمال قوي لحاجة المنتج للتغيير، فستعرفون كيف تفعلون ذلك وحدكم".
ثلثا العملاء الجدد تقريباً يرفضون عرضي (بما يضر ببراير سكور الخاص بي). إلا أنه لديهم بالتأكيد تفسيرات منطقية مثل: "يجب أن نتمسك بطلب المقترح. نحن مشغولون للغاية. ليس لدينا الوقت لتعلم توجهات جديدة. ليس لدينا الأشخاص المناسبين للقيام بهذا. المسؤولون التنفيذيون لن يسمحوا لنا بذلك أبداً. ثقافتنا ستقتله".
ومع ذلك، فإنّ العملاء الذين قبلوا العرض لم يندموا عليه. بعد الموافقة، نجمع فرقاً متعددة التخصصات ونقوم بتدريب مشترك بينهم. نلاحظ ونحاور فرق "أجايل" الناجحة، نوضح الأهداف ونُقسّم المشكلات الكبرى لمهام مقدور عليها. ونبني ونعطي أولويات ونضع تسلسلاً للأنشطة المحتملة. ونطور طرقاً مبدعة لبناء نماذج أولية سريعة نختبرها مع عملاء حقيقيين. ونتعرف على المعوقات ونزيلها في عملية الابتكار. ونتعقب التغييرات التي تطرأ على سعادة وإنتاجية عضو من أعضاء الفريق وسلوكيات العملاء ورضائهم كما نتعقب التغييرات في المبيعات والأرباح.
في نهاية سباق "أجايل" السريع، نمى إلى سمعي حديث فريق من خمسة أفراد. قال أحدهم: "صدقاً، سأستقيل ولا أعود إلى الأسلوب القديم في العمل".
تعلّم ودرّب آخرين
يكشف ممارسو "أجايل" دائماً عن طرق أفضل للعمل، حيث يساعدون الآخرين في العمل بها. يتبين بعد ذلك أنّ كلا النشاطين مرتبطين ببعضهما البعض.
اعتبر ريتشارد فاينمان، الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء عن عمله في كهروديناميكا الكم، أنّ أفضل طريقة لإتقان أية مهارة جديدة هي عن طريق تعليمها للمبتدئ. اعتقد فاينمان أنّ الخبراء غالباً ما يختبئون خلف المصطلحات والمفردات الباطنية لإخفاء جهلهم. أرى هذا عندما أكافح لتفسير أشياء بلغة بسيطة وأجدها فرصة لتعلم المزيد. أحاول التعمق حتى أستطيع تفسيرها لطفل أو لمسؤول تنفيذي كبير متشكك فيما أقول.
بينما تطور إمكانيات "أجايل" وتبدأ تعليمها للمبتدئين، لا تتفاجأ إن وجدت الرئيس التنفيذي أو أي أعضاء آخرين باللجنة التنفيذية يجلسون ضمن متدربينك. في الوقت الذي لن ينتظر فيه ممارسو "أجايل" رعاية عليا، فإنهم يميلون لخلق نتائج وشغف يسيطرون عليها وهذا يساعد الكل في الهروب من أقفاصهم الحديدية.