رأينا جميعنا بعض الأرقام المذهلة في السنوات الأخيرة حول إنترنت الأشياء (IoT). فقد صرحت شركة جنرال إلكتريك علناً بأنها ستنفق أكثر من مليار دولار على تطوير أجهزة الاستشعار والأجهزة اللاسلكية والبرامج ذات الصلة لتثبيتها على محركات الطائرات وتوربينات توليد الطاقة والقطارات القاطرة وغيرها من الآليات. كما استثمرت شركات، مثل فورد وتويوتا وكاتربيلر (Caterpillar) على نحو كبير في هذا المضمار. ووجدت الدراسة الاستقصائية التي أجريناها وشملت 795 شركة كبيرة (يبلغ متوسط إيراداتها 22 مليار دولار) في أميركا الشمالية، وأوروبا، وآسيا، والمحيط الهادئ، وأميركا اللاتينية، أن متوسط الإنفاق لكل شركة على مبادرات إنترنت الأشياء - الذي بلغ 86 مليون دولار في عام 2015 - ارتفع إلى 103 ملايين دولار بحلول عام 2018.
لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد أن إنترنت الأشياء هو مجال تنافس فقط للأثرياء ومتخصصي التكنولوجيا الخبراء. إذ بيّن لنا بحثنا وتجربة إشراك العملاء أن تحقيق عوائد مرتفعة من أجهزة الاستشعار الرقمية وأجهزة الاتصالات اللاسلكية والكاميرات الرقمية المثبتة في المباني وغيرها من الأجهزة الذكية المتصلة لا يعتمد على كتابة شيكات بمبالغ ضخمة أو أن يكون المرء بارعاً في التكنولوجيا. حيث إن الشركات التي تتمتع بأكبر قيمة مستقاة من إنترنت الأشياء حتى الآن هي الأفضل في التعامل مع كيفية أداء المنتجات تجاه الزبائن.
وحالما يتقبل المرء هذه الحقيقة، يصبح من الأسهل بكثير فهم ما يتعين عليه القيام به للحصول على قيمة من إنترنت الأشياء.
وبطبيعة الحال، فإن كل شركة تصل في نهاية المطاف إلى الحقيقة حيال كيفية أداء منتجاتها وخدماتها تجاه الزبائن. إذ يسجل مركز خدمة العملاء شكاوى الزبائن. وتصبح الاستبانات الفورية لمحات عن المساهمات المحدودة التي يقدمها الزبائن. وفي الآونة الأخيرة، وفرت أدوات مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي للشركات وسائل لمعرفة من يتحدث عن عروضها، على مدار الساعة وفي شتى أنحاء العالم. ولكن بالنسبة للعديد من الشركات، غالباً ما تتبين هذه الحقيقة بعد فوات الأوان؛ بعد أن يقرر الزبائن العثور على مورّد آخر.
ولنأخذ مثالاً حديثاً: حيث توقفت آلة صنع القهوة، التي اشتراها صديقي قبل عامين، عن العمل. وقد كانت آلة باهظة الثمن، لكنها تجاوزت فترة الضمان. اتصلت زوجته بالشركة المصنّعة التي أخذتها عبر الإجراءات الاعتيادية لاستكشاف الأخطاء وإصلاحها، ولكن دون جدوى. ثم قال مندوب الشركة: "إن الشركة سترسل أداة تشخيص للزبون عبر البريد خلال 7 إلى 10 أيام حتى يتمكن الزبون من استكشاف المشكلة".
وعلى غرار ثلثي البالغين الأميركيين الذين يستهلكون كوباً واحداً على الأقل من القهوة يومياً (وفق مؤسسة "غالوب")، شعر صديقي وزوجته بالضيق. إذ إنهم بحاجة إلى آلة لصنع القهوة على الفور، ولن ينتظروا أسبوعاً على الأقل على أمل إصلاح محتمل للآلة الموجودة لديهم. وأخبراني أنهما سيشتريان آلة لصنع القهوة من شركة منافِسة.
كان من الممكن أن تتجنب الشركة فقدان زبونها لو أنها ثبتت جهاز استشعار رقمي لاسلكي يبلغها عن مدى جودة أداء الآلة. ولو أنها فعلت ذلك، لربما تمكنت من تنبيه الزبون إلى أن الآلة ستتوقف عن العمل قبل توقفها، وأرسلت أداة التشخيص قبل تعطلها. الآن، ستخسر الشركة العائدات الضخمة المتدفقة المصاحبة للآلة من هذا الزبون، والمتمثلة في الربح الذي تجنيه من بيع حبوب القهوة.
يمثل هذا النوع من البيانات، حول كيفية أداء منتج الشركة ميدانياً للزبائن، في الواقع، الحقيقة المطلقة؛ لأنه يمكن أن ينبه الشركات للمشكلات المتعلقة بالمنتج والزبائن الذين هم على وشك وقف التعامل معها. ويمكن أن تكون هذه الحقيقة مختلفة تماماً عما اعتقدته الشركة إزاءها أو الصورة التي اعتادت تسويقها عنها. وهي الحقيقة المطلقة لأن معظم الشركات تحصل على هذه المعلومات بعد فوات الأوان، بعد أن يتركها أحد الزبائن المخلصين مستاءً وغاضباً.
وجدنا، في الدراسة الاستقصائية التي أجريناها، أنه بدءاً من عام 2015، وضعت 26% فقط من الشركات الكبرى تقنيات إنترنت الأشياء في منتجاتها. وبعبارات أخرى، ثلاث شركات من كل أربع شركات ليس لديها الوسائل للحصول على الحقيقة المطلقة حول أداء منتجاتها. والأدهى من ذلك، أن هذه النسبة تتناقص، عموماً، كلما انخفض سعر المنتج. على سبيل المثال، دمجت 6% فحسب من الشركات التي تبيع منتجات ذات أسعار أقل من 100 دولار أجهزة استشعار لاسلكية في عروضها. وعلى النقيض من ذلك، فإن 54% من الشركات التي يتراوح متوسط سعر مبيعات منتجاتها بين مليون دولار و10 ملايين دولار لديها أجهزة استشعار رقمية توفر لها معلومات عن أداء المنتج.
ولكن حتى إذا قامت شركتك بتثبيت تقنيات إنترنت الأشياء في منتجاتها، فإن هذا لا يعني أنها على وشك الحصول على الحقيقة المطلقة بشأن هذه المنتجات، أو أنها ستفعل شيئاً بهذه المعلومات. إذ يتطلب الأمر من شركتك أن تفعل أكثر من ذلك بكثير.
ونعتقد أن هناك أربعة عناصر رئيسية لاستخدام إنترنت الأشياء للحصول على الحقيقة المطلقة حول أداء المنتج:
- حَمْل الزبائن على الموافقة على مراقبة منتجاتهم، الذي يعني بدوره منحهم شيئاً ذا قيمة في المقابل. للحصول على قيمة من إنترنت الأشياء، عليك إعطاء القيمة أولاً. أو كما يقول جوناثان بالون، نائب رئيس شركة إنتل والمدير العام لقسم إنترنت الأشياء بالشركة: "يجب أن تكون الفائدة للزبائن. ويجب أن يكون هناك تبادل للقيمة". وينطبق هذا خاصة عندما ترسل أجهزة الاستشعار اللاسلكية للشركة بيانات الزبائن الحساسة مثل الحالات الطبية. وتوصلت شركة "آتش بي"، وهي قسم من شركة هوليت-باكارد (Hewlett-Packard) القديمة التي تصنّع الطابعات وحبر الطباعة وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة الرقمية الأخرى، إلى الأمر نفسه في "مبادرة آتش بي الفورية للحبر" (HP Instant Ink initiative). إذ قامت شركة "آتش بي" بتجهيز طابعاتها بأجهزة استشعار لاسلكية تراقب مستويات الحبر وتطلب الحبر تلقائياً قبل نفاده في طابعات الزبائن. وهكذا، عززت شركة "آتش بي" الوفورات في التكاليف لما يصل إلى 50%، وقللت المشكلات المتكررة التي تشكل مصدر إزعاج للزبائن (مثل نفاد الحبر)، وجذبت الكثير من الزبائن. إذ قال لنا ناريش شانكر، الرئيس التنفيذي للمعلومات بشركة "آتش بي": "يجب أن تكون هناك قيمة للزبائن، مثل توفير في التكاليف أو توفير حبر عالي الجودة أو تقديم تجربة رائعة للزبائن، وما إلى ذلك".
- يجب معالجة بيانات أداء المنتج والتعامل بناء عليها بسرعة. إذا كانت آلة صنع القهوة الخاصة بصديقي مزودة بجهاز استشعار رقمي، لكان لدى الشركة المصنعة فرصة للاحتفاظ به زبوناً مخلصاً لها. لكن ذلك يعني أن تكون قادرة على معالجة كميات ضخمة من البيانات الرقمية بسرعة (فكر في شركات بها ملايين الزبائن وملايين المنتجات في الأسواق). وقد يتطلب ذلك من الشركة، استحداث استجابة مؤتمتة، على سبيل المثال، مركز خدمة للوصول إلى الزبائن، أو رسالة بريد إلكتروني يتم إرسالها فحواها (على سبيل المثال) أن الشركة ستحاول تشخيص المشكلة وحلها عن بُعد، ثم (في حالة التوصل إلى الحل)، وجود نظام لتخطيط الموارد في المؤسسة يتم تشغيله لطلب قطعة لإيصالها إلى الزبون (إذا كان الزبون يستطيع إصلاحها بنفسه) وإصدار فاتورة لهذه القطعة. وبعبارات أخرى، يجب أن تكون أنظمة إنترنت الأشياء في الشركة مرتبطة بأنظمة تخطيط الموارد في المؤسسة لإصدار الفواتير، والتوزيع، والإصلاح وغيرها من الأنشطة "لتصحيح الوضع فيما يتعلق بالمنتج". ويعني هذا أن "المنتج" ليس هو الكائن المادي فحسب الذي جرى بيعه للزبون، بل إنه يتمثل أيضاً في المجموعة الكاملة من الأنظمة والخبرات التي تقف وراءه.
- ثقافة تقبّل الحقيقة مهما تكن سيئة. من بين جميع التقنيات التي طبقتها الشركات في السنوات الخمسين الماضية، قد يواجه إنترنت الأشياء أكبر ممانعة مؤسسية. إذ كيف يعقل أن يرغب قادة خطوط الإنتاج أو رؤساء أقسام المنتجات أو المسؤولون التنفيذيون للبحث والتطوير في أن يعرف الرئيس التنفيذي بشكل يومي أن المنتجات التي قاموا بتطويرها وطرحها تواجه مشكلة ميدانية لدى الزبائن؟ وكما قال جوناثان بالون، نائب رئيس شركة إنتل: "بلا شك، أكبر عائق أمام إنترنت الأشياء، بفارق كبير عن غيره من العوائق، هو العائق الثقافي. وهو الجمود المؤسسي الذي يعترض طريقه. إذ يخشى الأشخاص ما يمكن أن تكشفه التقنيات الجديدة عن الأعمال". وقد وجدنا، في الدراسة الاستقصائية التي أجريناها، أن إحدى النواحي العديدة التي تختلف بها الشركات، التي حققت أكبر الفوائد حتى الآن من إنترنت الأشياء، عن غيرها من الشركات تتمثل في توفير الدعم لإنترنت الأشياء في المستويات العليا من الشركة. حيث قال بالون: "الشركات التي أجدها تتحلى بالشجاعة تقود هذا التغيير من الأعلى. وغالباً ما تقبع وتتحفظ الشركات الأقل جرأة والعازفة عن التغيير، وتتوه في غمار المنافسة، وتستغرق وقتاً طويلاً في اتخاذ القرارات المتعلقة بالتكنولوجيا".
- يجب أن تصبح "إعادة تصور الأعمال" شعاراً. تتيح التقنيات الرقمية مثل إنترنت الأشياء للشركات القيام بأمور تشغيلية كانت مستحيلة أو غير قابلة للتطبيق من قبل. وقد استُخدمت تكنولوجيا مراقبة أداء المنتج على مدار عقود، ولكن كان استخدامها مقتصراً إلى حد كبير على المنتجات المهمة أو باهظة الثمن مثل المصاعد العامة. (من المفهوم الحرص على عدم بقاء الأشخاص عالقين في مصعد لوقت طويل. وقد زودت شركات مثل أوتيس إليفيتور (Otis Elevator) منتجاتها طيلة سنوات بالتقنيات التي تقدم تقارير عن هذه الأعطال). كما يتيح إنترنت الأشياء للشركات فرصة مراقبة أداء المنتج بالنسبة لأرخص المنتجات. على سبيل المثال، أنتجت شركة "بروكتر آند غامبل" فرشاة أسنان إلكترونية مزودة بأجهزة استشعار لاسلكية لمدة عامين. وقد وجدنا، في بحثنا الذي أجريناه، شركات مثل شركة البيع بالتجزئة العملاقة كروجر (Kroger) تقلل طوابير خدمة الزبائن باستخدام التكنولوجيا التي تراقب متاجرها. كما ظلت شركات التأمين على السيارات تقدم سياسات تستند إلى الاستخدام تعتمد على تقنيات لتتبّع الطريقة التي يقود بها الزبائن سياراتهم ببساطة عبر الاستفادة من الهواتف الذكية التي يستخدمها زبائنها. والواقع أنه ثمة فرص هائلة لإعادة تصور كيفية القيام بالأعمال التجارية. لكن هذه الفرصة تغتنمها فقط الشركات التي تكون منفتحة لإعادة تصور الطريقة التي تمارس بها أعمالها منذ سنوات.
وعندما تكون الشركات على استعداد للتعامل مع هذه العناصر الأربعة، سيكون من المرجح بدرجة كبيرة أن تدرك الإمكانات التي ينطوي عليها إنترنت الأشياء وتتصرف بفاعلية بناء عليها. ومن خلال تعامل هذه الشركات مع الحقيقة المطلقة المتمثلة في مستوى أداء منتجاتها بصورة يومية لدى الزبائن، سيكون من المرجح بدرجة كبيرة احتفاظها بزبائنها على المدى الطويل.