كيف تستخدم الحدس لاتخاذ قرارات أفضل؟

6 دقيقة
الحدس في مجال صناعة القرار
دياغريز/غيتي إميدجيز

بدت فكرة خدمة أوبر سيئة جداً عام 2008؛ إذ عارضها معظم المستثمرين المخضرمين بسبب المعوقات القانونية وحقيقة أن نموذج العمل الجديد غير مثبت، ولأن فكرة طلب توصيلة من شخص غريب عبر تطبيق على الهاتف الذكي بدت مريبة. نظرياً، لم تكن الفكرة منطقية، لكن بضعة من الداعمين المبكرين كان لديهم شعور مختلف؛ لم يكن اليقين بل الوضوح، وبدت الفكرة جيدة بالنسبة لهم.

لم يتمكن هؤلاء من تفسير شعورهم تماماً آنذاك، لكنهم ببساطة علموا أن الفكرة جيدة.

هذا الإدراك اللحظي العابر هو ما يسميه الكثيرون "الشعور الداخلي"، ويسيء الكثيرون غالباً فهمه في مجال صناعة القرار التنفيذي ظناً منهم أنه اندفاعي أو عاطفي، لكنه في الواقع شعور أدق وأكثر فعالية، وهو ناتج عملية تحمل اسم "الحدس".

من خلال أبحاث استمرت على مدى سنوات طويلة في مجال العلوم السلوكية والتدريب المستقل لكبار القادة، توصلت إلى أنه بينما يركز أغلب القادة عند تقديم النصائح القيادية على البيانات، فإن أفضل الرؤساء التنفيذيين أداءً في العالم غالباً ما يعتمدون على شيء آخر تماماً، وهو الحدس؛ وهم لا يتعاملون معه على أنه موهبة فذة فطرية، بل مهارة عملوا على صقلها.

ما هو الحدس؟

عرفت الحدس في بحثي على أنه العملية الداخلية، اللاشعورية أحياناً، التي نمزج فيها بين الخبرة والبيانات. نستخدم الحدس عندما تعتمد أدمغتنا على مخزونها الهائل من الأنماط التي ميزتها وذاكرتها العاطفية وطلاقتها السياقية لتوليد شعور توجيهي. تولد هذه العملية الداخلية ما نسميه "الشعور الداخلي"، الذي نعرف عند تولده ما يجب أن نفعله بوضوح.

يخلط الكثيرون بين هذين المفهومين، لكن التمييز بينهما مهم جداً:

  • الحدس هو العملية.
  • الشعور الداخلي هو النتيجة.

عندما يقول الرؤساء التنفيذيون المخضرمون: "أنا أثق بشعوري الداخلي"، فإن ما يفعلونه غالباً، سواء كانوا يعون ذلك أم لا، هو أنهم يثقون بخلاصة آلاف القرارات الجزئية والإخفاقات والأنماط وحلقات الملاحظات والنماذج الذهنية التي شكلوها على مر السنين. يصقل حدس هؤلاء المدراء نفسه باستمرار وكأنه خوارزمية تتدرب باستخدام بيانات مخصصة بدرجة عالية، خاصة عندما يتأملون في هذا الحدس ويعيدون معايرته ويدركون حدوده.

الشعور الداخلي ليس مجرد عاطفة، بل هو مزيج من الخبرة والبيانات

درست في أطروحتي المستثمرين في المراحل المبكرة من الاستثمار والطرق التي يتبعونها لاتخاذ القرارات ذات المخاطر العالية في السياقات التي تفشل فيها طرق التحليل التقليدية. لاحظت أن ما شعر به هؤلاء عندما كانوا يقولون "كان لدي شعور داخلي" لم يكن مجرد حدس متهور، بل كان نتاج عملية فطرية داخلية ومفصلة دمجوا فيها المعلومات التحليلية بالخبرة الممثلة بالعواطف.

ما يثير الاهتمام أكثر هو أن البيانات التي جمعها المستثمرون اندمجت تماماً بذاكرتهم وعاطفتهم قبل أن ينتابهم ذلك الشعور الداخلي، لدرجة أنهم لم يشعروا بأن المعلومات التي يمتلكونها خارجية، بل شعروا بأنها شخصية وداخلية. يشبه الأمر شرب الشاي المثلج المحلى؛ تعرف أن أحداً ما أضاف السكر إليه، لكن السكر ذاب بالكامل؛ أي أنك لا تتذوق المكونات المنفصلة، بل تشعر بتجربة شرب الشاي المثلج المحلى بأكملها.

هذا ما يجعل تفسير الشعور الداخلي بوضوح يأتي بنتائج عكسية غالباً. ينتهي المطاف بالمستثمرين الذين يحاولون تبرير قراراتهم باستخدام المنطق والحقائق فقط بإقناع أنفسهم بعدم اتخاذ القرار الصحيح. في الحقيقة، لا يقتصر الحدس على ما تعتقده، بل يتعلق بما تعلم أنه صحيح، حتى لو لم تدرك ذلك.

كمية مفرطة من البيانات

بما أننا نتعرض في يومنا هذا لكمية هائلة من البيانات على شكل لوحات التحكم والقياس والتوصيات الخوارزمية وما إلى ذلك، وبما أننا نعاني الحمل الإدراكي الزائد، لا يكمن التحدي الحقيقي الذي يواجهه القادة في الحصول على البيانات، بل في فهمها وتحديد الطرق الصحيحة لاستخدامها؛ وهنا يمنحك الحدس ميزة استراتيجية.

يتمتع الرؤساء التنفيذيون الأنجح بأداء عال في الظروف والأوساط الغامضة، مثل الأزمات العالمية والأسواق الناشئة ومجالات التكنولوجيا المتطورة وتقلب العرض والطلب في سوق أصحاب المواهب. قد تكون البيانات ناقصة أو متناقضة في هذه الحالات، ولكن على القادة اتخاذ القرارات على الرغم من ذلك، غالباً بسرعة وتحت الضغط.

هذا ما يجعل الحدس عاملاً مميزاً وليس مهارة شخصية.

لا يعني التمتع بحدس حاد تجاهل الحقائق، بل يعني تحديد الحالات التي تكون فيها البيانات غير كافية وتلك التي يجب فيها الاسترشاد بالمشاعر الداخلية. قال لي الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات المدرجة في قائمة فورتشن 100: "هناك قرارات تعتمد على البيانات بنسبة 85%، بينما تعتمد النسبة المتبقية على الحدس دائماً".

تعلم الإنصات إلى حدسك

أصبح مجال القيادة حالياً أكثر صخباً من أي وقت مضى؛ إذ تلفت السرديات الإعلامية وضغوط السوق والتوقعات الاجتماعية وحتى نماذج الذكاء الاصطناعي انتباهنا على نحو مفرط. بيد أن عملية صناعة القرار الحدسية هي عملية هادئة وهادفة تستند إلى البيانات التي حللناها والخبرة التي جمعناها.

المشكلة هي أننا لسنا مهيئين للاستماع إلى ما هو هادئ؛ فالضوضاء الاجتماعية مستمرة وبارزة، أما الحدس من ناحية أخرى فليس بارزاً أو صاخباً، وهو مؤشر محفز وناشئ. يكمن التحدي الحقيقي في تعلم الإنصات إلى الأصوات الداخلية الهادئة، لأنها هي التي تولد الرؤى الثاقبة غالباً.

لماذا يتمتع بعض القادة بحدس أكثر حدة؟

تختلف حدة الحدس من شخص لآخر؛ فبعض المسؤولين التنفيذيين يتمتع ببوصلة داخلية موثوقة، بينما يتخذ البعض قرارات يظنها ناتجة عن رؤى ثاقبة وهي في الواقع ناتجة عن القلق أو التحيز أو الغرور. العامل الحاسم غالباً هو مستوى تدريب الحدس.

لاحظت في عملي 4 شروط رئيسية تميز أصحاب الحدس الفعال:

  1.  حجم الخبرة ونطاقها. يكتسب القادة الذين مروا بمجموعة متنوعة من المواقف القدرة على تمييز الأنماط بدقة أكبر. يجمع الرؤساء التنفيذيون الذين نجوا من العديد من فترات الركود الاقتصادي أو عمليات إعادة الهيكلة التنظيمية أو التوسعات في السوق خبرة شخصية تغذي الغرائز المستقبلية.
  2. التأمل المنظم. الخبرة ليست كافية لصقل الحدس وحدها، بل ثمة حاجة إلى الخبرة المحللة. يخصص القادة الناجحون وقتاً كافياً لمراجعة القرارات وتحليل النجاحات والإخفاقات، ويسألون: "بماذا كنت أشعر؟ ما الذي قرأته من الموقف؟ وما الذي أخطأت في قراءته؟" يزيد هذا الوعي فوق المعرفي حدة الحدس في المستقبل.
  3. المعايرة السياقية. لا يسترشد القادة ذوو الحدس الحاد بالحدس نفسه في السياقات جميعها؛ فهم قادرون على تمييز الحالات التي يكون فيها الحدس صائباً عن تلك التي يكون فيها قاصراً. على سبيل المثال، أخبرتني مديرة تنفيذية بأنها لا تعتمد أبداً على حدسها عند مراجعة العقود القانونية، لكنها تعتمد عليه عند تقييم ملاءمة الموظفين لمؤسستها. الحدس فعال في المجالات التي تتمتع فيها بخبرة عميقة، ولكنه خطير في المجالات الأخرى.
  4. الإنصات الهادئ. الحدس صوت داخلي خافت، وهو ينشأ من السكون الذهني بين الاجتماعات أو في أثناء المشي أو الكتابة أو التأمل. في عالمنا الذي تسوده الضوضاء ويعتمد على السرعة، يتعلم القادة أصحاب الحدس الحاد البحث عن السكون والإنصات إلى الأصوات الداخلية بعد تجاوز الضوضاء.

طرق عملية لصقل الحدس

إذا أردت صقل حدسك، فابدأ باعتباره عضلة تزداد قوة من خلال تدريبها على نحو مدروس.

إليك 5 ممارسات أوصي المسؤولين التنفيذيين من مختلف القطاعات باتباعها:

  1. "اختبار الهدوء". قبل أن تتصرف بناءً على دافع يبدو مبرراً، اسأل: "هل كنت سأتخذ هذا القرار لو كنت هادئاً تماماً؟" يساعدك هذا السؤال البسيط على التمييز بين الوضوح والإلحاح العاطفي. العواطف ليست مضرة بالضرورة، ولكنها مختلفة عن الحدس.
  2. التأمل في القرار. احرص على تدوين ما شعرت به والأنماط التي لاحظتها والإشارات التي اتبعتها بعد اتخاذ كل قرار عالي المخاطر. أعد النظر فيما دونته بعد أسابيع أو أشهر لتقييم دقته. بمرور الوقت، ستشكل مكتبة إشارات داخلية خاصة بك.
  3. أطلق اسماً على العملية. احرص على إطلاق اسم على المرحلة التي تمر بها. قل: "أنا أجمع المعلومات" أو "أنا أفسر الإشارات" أو "أنا أفكر في ضوء عدم اليقين" أو "توصلت إلى صورة واضحة". إن إطلاق اسم على المرحلة التي تمر بها في عملية استخدام الحدس يعزز وعيك ويخفض اندفاعك.
  4. أحط نفسك بالمنطقيين. أنشئ حلقة من الزملاء أو المستشارين الموثوق بهم الذين يتحدون افتراضاتك، ليس بهدف توفير الإجابات لك، بل لمساعدتك على الإنصات إلى حدسك بوضوح أكبر. الأسئلة الذكية التي يطرحها الآخرون هي الأكثر فعالية في التحقق من صحة الحدس غالباً.
  5. استفد من القرارات الجزئية. يطبق أفضل القادة عملية صناعة القرار الحدسية في المسائل البسيطة أيضاً، مثل تحديد الموظفين الذين تجب ترقيتهم وطرق الاستجابة في الاجتماعات وتحديد الأوقات الملائمة لالتزام الصمت. كل قرار جزئي هو نقطة بيانات يمكن استخدامها لاكتساب بوصلة داخلية أدق تثق بها أكثر.

الإجراءات تجعل الشعور الداخلي مفيداً

هناك عنصر أخير لا يحظى بالتقدير الكافي في صناعة القرار الحدسية، وهو الحسم. لا تكمن فعالية الشعور الداخلي في توليده للرؤى الثاقبة فقط، بل في الاستعداد لاتخاذ إجراء بناءً عليه، بسرعة وعلى نحو هادف.

لم يكتف المستثمرون المبكرون في شركة أوبر بشعورهم بأن الفكرة واعدة، بل اتخذوا إجراءات بناءً على هذا الشعور. جسد هؤلاء ما شعروا به في إجراءات جريئة ثم ضمنوا أن يكون قرارهم في الاستثمار صحيحاً من خلال الإرشاد وتوفير الموارد والتوجيه الاستراتيجي. عزز هذا الحسم صحة شعورهم الداخلي وزاد حدة الحدس في المستقبل.

باختصار: لا يقتصر دور الشعور الداخلي على توجيه القرار فحسب، بل يؤثر في النتيجة أيضاً.

الحدس ليس طريقة سحرية للنجاح، بل خلاصة ما جمعته من خبرة، وهو مركز في صوت داخلي أكثر هدوءاً من مشاعر الخوف أو الغرور أو الضغط، لكنه موجود دائماً.

الحدس هو ميزة بالنسبة للرؤساء التنفيذيين الذين تعلموا صقله وتسخيره. في عالمنا المهووس بالتنبؤ والأداء، يذكرنا الحدس بأن الحكمة تنتج عن السكون أحياناً، وأن الإشارات المهمة ليست بارزة دائماً، وأن القرارات الجيدة لا تعتمد على البيانات دائماً.

أحياناً، تعتمد هذه القرارات على صوت داخلي خافت.

 

   

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2025.

المحتوى محمي