هنالك عدد كبير جداً من الأفكار العظيمة الهادفة لحل المشاكل الاجتماعية الضاغطة التي لا تُطبَّق على النطاق الذي تستحقه لأن آلاف المؤسسات غير الربحية تتأرجح على حافة الانهيار. فمن بين ما يقارب الـ300,000 مؤسسة غير ربحية في الولايات المتحدة، هنالك ثلثا هذا العدد لا تتجاوز ميزانية الواحدة منها 500,000 دولار، الأمر الذي يمنعها من توسيع مجال عملياتها أو تعظيم نطاق حلولها. وتعد مسألة تأمين التمويل التحدي الأكبر على الإطلاق بالنسبة لمؤسسات هذا القطاع، وحتى لتلك الأكثر نجاحاً ضمنها. ففي دراسة استقصائية أجريتُها على قادة أكثر من 200 مؤسسة اجتماعية عالية الأداء، حدد 81% من أولئك القادة مسألة تأمين التمويل الكافي لمؤسساتهم بوصفها أكبر همومهم. وإذا لم تستطع المؤسسة ضمان الاستمرارية، والتي أعرّفها بضمان تأمين إيرادات بحوالي 2 مليون دولار سنوياً وبشكل موثوق، فإنّ احتمال أن تشهد تلك المؤسسة ركوداً أو أن تتوقف عن العمل يكون كبيراً جداً.
أردت أن أعرف ما الذي تجيد فعله الشركات التي تتجاوز إيراداتها السنوية عتبة الـ2 مليون دولار؟ وهل هنالك وصفات سرية للنجاح في تأمين التمويل؟ ومع اطلاعي عن كثب على قصص نجاح وفشل عدد كبير من المؤسسات، اكتشفت أنّ الجواب هو "نعم ولا" في الوقت نفسه. كما وجدت أيضاً أنّ التصور التقليدي حول تأمين التمويل لا أساس له من الصحة ومغلوط إلى حد بعيد.
تقول النصيحة التقليدية أنّ على المؤسسات تنويع مصادر تمويلها، ساعية إلى توزيع تلك المصادر على ثلاثة أقسام متساوية تقريباً، وهي الجهات المانحة والأفراد المانحين، والمنح الحكومية، والإيرادات المحققة. فمن شأن مثل هذا النهج في إدارة محفظة التمويل أن يقلل من مخاطر الإفراط في الاعتماد على أحد مصادر التمويل الرئيسية من دون سواه. ولكن مع أنّ هذه المحاكمة قد تبدو منطقية، فقد أظهرت البحوث أنّ ذلك النهج ليس هو النهج الذي تتبعه أكثر المؤسسات نجاحاً.
لقد أجرى ويليام فوستر وفريقه في ذا بريدجسبان غروب دراسة أظهرت أنّ كلاً من المؤسسات غير الربحية الـ144 التي أنشئت منذ العام 1970 والتي نمت حتى بلغ حجم إيراداتها أكثر من 50 مليون دولار سنوياً، إنما تعتمد بشكل أساسي على واحد فقط من مصادر التمويل دون سواه، وهو ما أطلق عليه فوستر وزملاؤه عبارة "التوافق الطبيعي". فعلى سبيل المثال يعتمد نادي سييرا كلوب بشكل أساسي على رسوم الأعضاء، في حين تركز مؤسسة سوزان كومين في تأمين تمويلها على تنظيم أنشطة السباق. كما أظهرت الدراسة أنّ المؤسسات الناجحة غالباً ما تتأخر في تركيز مصادر تمويلها إلى حين وصول إيراداتها السنوية إلى عتبة الـ3 مليون دولار. وحتى بلوغ هذه العتبة تعمل تلك الشركات على اختبار طيف واسع من نُهج تأمين التمويل من دون اتباع وصفات معروفة وجاهزة.
وللتعرف أكثر على كيفية انخراط القادة الناجحين في هذه العملية من التجريب والاختبار، أجريت مقابلات مع أكثر من 100 منهم، ووجدت مراراً وتكراراً أنهم كانوا مرنين وخلاقين إلى أبعد الحدود في تجريب واختبار طيف واسع من الأفكار والمقترحات. كما وجدت أنّ أولئك القادة الناجحين كانوا في الواقع منفتحين على الاستكشاف والاكتشاف لدرجة أنهم كانوا على استعداد لتغيير نموذج عملهم كلياً عندما يبدو ذلك مستحسناً.
خذ على سبيل المثال برنامج مطبخ الخبز الساخن "هوت بريد كيتشن"، وهو برنامج تدريبي مخصص للسيدات صاحبات الدخل المنخفض، اللواتي يرغبن في العمل ضمن قطاع الأغذية بمدينة نيويورك. وفي مطاردتها لحلم الكثير من أصحاب المؤسسات الخيرية الساعية إلى الخروج من حلقة تأمين التمويل المفرغة، اعتقدت مؤسّسة هذا البرنامج جيسامين رودريغز في بادئ الأمر أنّ بمقدوره جعل البرنامج من البرامج المستقلة مادياً ومكتفي ذاتياً من خلال تحقيق إيرادات كافية من بيع الخبز الذي ينتجه. وجربت نُهجاً متنوعة من بيع الخبز في مقهى ضمن المؤسسة إلى ترتيبات لافتة على نطاق أوسع كبيع الخبز لشركات كبرى كخطوط طيران جيت بلو ومتاجر هوول فودز. وعندما وجدت أنّ هذه النهج لم تحقق النجاح المطلوب، أدركت أنّ ما تحتاجه هو نهج هجين يعتمد جزئياً على الإيرادات المحققة وجزئياً على المصادر الخيرية.
فمن خلال استعدادها لتلقي الدعم من مؤسسات التمويل، لم تحقق رودريغز الاستقرار المالي فحسب، بل كسبت أيضاً خبرة وحكمة حيويتين حول تطوير خدماتها. فقد أخبرتني أنها "أدركت أنّ هنالك فائدة عظيمة متأتية من مصادر التمويل الخيري، التي تسمح لنا بفعل المزيد لصالح السيدات اللواتي نخدمهن". فقد كان باستطاعتها على سبيل المثال أن توفر رعاية الأطفال أثناء دروس الطبخ للسيدات اللواتي لديهن أطفال صغار. ولقد بات اليوم برنامج مطبخ الخبز الساخن يحقق 65% من ميزانيته على شكل إيرادات محققة و35% منها على شكل منح مالية يقدمها الأفراد والمؤسسات. ولا تزال رودريغز وفريقها يختبرون مصادر التمويل المختلفة الأخرى كالدخول في شراكات مع الحكومة، وذلك سعياً لإيجاد نموذج التمويل المثالي.
إنّ طرح النماذج الأولية لا يناسب فقط تسويق المنتجات
في تجاربهم المختلفة لإيجاد النهج الأمثل لتأمين التمويل يعمد العديد من قادة المؤسسات إلى اتباع أسلوب تصميمي موجه نحو الإنسان في إجراء البحوث بمشاركة المستخدمين النهائيين ومن ثم الإسراع بطرح نماذج أولية بسيطة ومنخفضة التكلفة لاختبار جدواها. والمستخدمون النهائيون في هذه الحال هم المانحون. ويمكن البدء بمثل هذه التجارب على نطاق ضيق لا يشمل سوى عدد قليل من المانحين والطلب إليهم من دون قيد أو شرط أن يزودوا المؤسسة بملاحظاتهم ومقترحاتهم حول الجهود القائمة والأفكار الجديدة التي تستحق التجريب. وبناء عليه يمكن تجريب واختبار الأفكار الجديدة المقترحة من خلال نماذج أولية بسيطة وعلى نطاق ضيق.
عندما قرر أليخاندرو غاك-أرتيغاس أن يعمل على إنشاء مؤسسة تكرس نفسها لزيادة معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة بين أطفال الأسر منخفضة الدخل من خلال تدريب أهالي الأطفال على كيفية دعمهم في ذلك، لم تكن لديه أية فكرة حول كيفية تمويل برنامجه. لقد رمى بنفسه في حقل التجريب واستكشاف الفرص المختلفة، بما في ذلك الاتصال بأكبر عدد ممكن من المدراء والمشرفين على المدارس لمعرفة كم هم على استعداد لأن يدفعوا ثمن تلك الخدمة. ولقد أفاد عدد منهم بأنهم قد يدعمونه في حال استطاع إثبات أنّ قراءة الأطفال ستتحسن فعلاً نتيجة برنامجه. وللقيام بذلك طرح نموذجاً أولياً في إحدى المدارس. ولقد كانت النتائج مبهرة، حتى إنّ مؤسسته سبرينغبورد كولابوراتيف باتت اليوم تنظم دوراتها التدريبية على مستوى البلد بأسره، مع تأمين الجزء الأكبر من ميزانيتها السنوية البالغة 7 ملايين دولار من خلال الرسوم التي تدفعها المدارس المشاركة في البرنامج.
والمثال الآخر الذي اتبع هذه الطريقة في إيجاد الأسلوب الأمثل لتأمين التمويل لمؤسسته هي بيث شميدت، المدرسة السابقة التي أسست موقع ويشبون للتمويل الجماعي الذي يساعد طلاب الجامعة من ذوي الدخل المنخفض على تحقيق طموحهم المهني من خلال المشاركة في نشاط تجريبي عملي أثناء عطلة الصيف كالمشاركة في مخيم صيفي أو اتباع ورشة عمل متخصصة. ولم تبدأ بتأمين تمويل مشروعها عبر إطلاق موقع مكلف، بل لجأت ببساطة إلى تصوير بعض أفضل المقالات التي كتبها طلابها وأرسلتها إلى أفراد أسرتها وأصدقائها طالبة منهم بعض التبرعات. وقد تلقت آلاف الدولارات، وأيقنت أنّ بداية مشروعها ناجحة. وحينئذ فقط بدأت بعملية إطلاق منصتها الرسمية على الإنترنت.
في كلتا الحالتين أدت التجارب بسرعة إلى التركيز على الحلول المثلى، لكن كثيراً ما تحدث مفاجآت مكلفة وغير سارة. خذ على سبيل المثال مؤسسة سبارك التي كنت مشاركاً في تأسيسها والتي تسعى إلى إشراك الشباب من جيل الألفية في أشكال جديدة من الأعمال الخيرية لدعم المساواة بين الجنسين. وفي بدايات المشروع قمنا باستثمار قسم كبير من الموارد المتوفرة في التماس التمويل من الشركات وصياغة خلاصة المشروع والعمل مع أعضاء مؤسستنا لنسج العلاقات مع مؤسسي شركاتهم. لكن بعد سنوات عدة من الجهود الفاشلة أدركنا أنّ رعاية الشركات للمشروع لم يكن حلاً مثالياً بالنسبة لنموذج مؤسستنا، وضاعفنا اعتمادنا على تأمين التمويل من الرسوم التي يدفعها أعضاء مؤسستنا الذين أبدوا استعدادهم بكل رحابة صدر لدعم أعمالها.
لا شك في أنّ نهج التحدث إلى المانحين وإجراء اختبارات سريعة وقليلة التكلفة، يتعارض كلياً مع ما هو سائد حول الأسلوب الأمثل لتأمين تمويل المؤسسات غير الربحية الذي يركز على الحملات الإعلامية البراقة إلى أبعد حد. غير أنّ الجيل الجديد من المبتكرين والمجددين في مجال العمل الاجتماعي يظهر أنّ التجريب، لا اعتماد صيغة مسبقة من تنويع التمويل، هو النهج الأمثل للتقليل من مخاطر عدم القدرة على تأمين مصدر ثابت لتمويل المؤسسات غير الربحية.