في الوقت الراهن لا يسمح سوى للمستثمرين المعتمدين من أصحاب الثروة بالاستثمار في الشركات الخاصة. ومؤخراً أعلن رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصة مبادرة في مجال السياسات تهدف إلى تمكين المستثمرين العاديين من الاستثمار في الشركات الخاصة. والهدف المعلن هو تمكين المستثمرين الصغار من المشاركة في الاستثمارات البديلة وعالية الجودة، مثل شركات التكنولوجيا الخاصة كشركتي أوبر وإير بي إن بي. لكننا نرى أنّ هذه السياسة حتى ولو طبقت فإنها لن تقود إلى النتائج المرجوة، لأن المستثمرين العاديين قد لا يرغبون في الاستثمار في الشركات الناشئة، والشركات الخاصة قد لا ترغب في أن تأتي أموالها الاستثمارية من المستثمرين العاديين.
ومن الجدير بالذكر أنّ المستثمر العادي يمتلك خيارات بديلة تغنيه عن الاستثمار المباشر في الشركات الرقمية الناشئة. وبينما تنتمي غالبية شركات الأسهم الخاصة إلى نمط شركات الملكية الخاصة، يجري تداول بعضها مثل بلاكستون غروب (Blackstone Group)، وكيه كيه آر (KKR)، وكارلايل غروب (Carlyle Group)، وأبولو غلوبال مانجمنت (Apollo Global Management) في سوق البورصة. كما إنّ الكثير من الشركات المطروحة أسهمها للتداول مثل ألفابت وإنتل وآبل هي في جزء منها رؤوس أموال استثمارية مقنّعة. وفيما قد لا يمتلك المستثمرون فرصة الاستثمار في شركة أوبر تحديداً، إلا أنهم قد يستطيعون الاستثمار في أعمال ومشاريع مشابهة عبر شركة كيه كيه آر أو الاستثمار بشكل غير مباشر في شركات مثل شركة وايمو من خلال الاستثمار في جوجل أو في شركة تايتان عبر الاستثمار في آبل. فضلاً عن ذلك تبحث صناديق التقاعد بشكل متزايد عن الاستثمارات في صناديق الأسهم الخاصة. وقد يشكل ذلك نموذجاً أفضل بالنسبة للمستثمرين العاديين للاستثمار في الشركات الخاصة، وذلك لأسباب عدة.
تسعى الشركات الرقمية الناشئة عادة إلى النمو السريع ولذلك تمنى بخسائر كبيرة. ولذلك فهي تسعى إلى التعامل مع مستثمرين يتفهمون خسائرها الأولية ويمكنهم تيسير دورات تمويل ثانية إذا نمت عملياتها. علاوة على ذلك، تبحث الشركات الرقمية الناشئة في ضوء سعيها إلى الرشاقة التنظيمية عن مستثمرين يمتلكون الخبرة لمساعدتها في الاستعانة بمصادر خارجية للقيام بوظائفها غير الأساسية كالإنتاج والتوزيع والتسويق وتجهيز كشوف المرتبات. فضلاً عن ذلك، تبحث الشركات الاستثمارية باستمرار عن فرص لإيجاد من يستحوذ على الشركات التي تستثمر فيها، وهي طريقة تبدو بالنسبة لرواد الأعمال الرقمية جذابة بشكل متزايد في ضوء طول عملية الطرح العام الأولي لأسهمها في البورصة ومتطلبات مدة الحيازة المقررة للمستثمرين الأوائل.
ولذلك فإنّ رواد الأعمال الرقمية لا يختارون مموليهم بناء على ما يقدمونه من رأسمال فحسب، بل بناء على قيمة شراكتهم وخيارات الخروج التي يخلقونها للشركة أيضاً. فرأس المال المتاح اليوم يتخطى بشكل ملحوظ ما تتطلبه فرص الاستثمار القابلة للتحقق، ولذلك بمقدور رواد الأعمال الرقمية أن يكونوا انتقائيين في اختيار شركائهم الممولين. بحلول العام 2017، بلغ إجمالي عدد صناديق الأسهم الخاصة 7,700 صندوق، وبلغ حجم أموال الصناديق المتاحة للاستثمار 1.7 تريليون دولار. وفي ضوء هذا الكم الهائل من رؤوس الأموال الخاصة الباحثة عن فرص استثمار جيدة، يفضل رواد الأعمال الرقمية أن تظل ملكيتهم خاصة حتى يصبحوا على استعداد تام للامتثال للوائح التنظيمية وإصدار التقارير المالية الربع سنوية والاستجابة لمتطلبات مستثمري القطاع العام في تحقيق أرباح منتظمة، وهي أمور تغدو مطلوبة من الشركات بعد عملية الطرح العام الأولي لأسهمها في البورصة.
لقد مضت الفترة الذهبية في تسعينيات القرن الماضي عندما كانت الشركات التي تمتلك فكرة عمل والقليل من الإيرادات أو من دون إيرادات تستطيع ببساطة إجراء طرح عام أولي لأسهمها في البورصة. فلقد بلغ متوسط عمر الشركات التكنولوجية المدعومة من رؤوس الأموال الاستثمارية لحظة قيامها بالطرح العام الأولي 11 عاماً وهو في طور الازدياد. ولا شك أنّ 11 عاماً هو وقت طويل بالنسبة لشركة رقمية باقية على قيد الحياة، إذ إنه خلال هذا الوقت الطويل ربما تتضاعف قيمة استثماراتها الأولية. فعلى سبيل المثال، تضاعفت الاستثمارات الأولية التي دفعتها شركتا كلاينر بيركنز كوفيلد آند بايرز (Kleiner Perkins Caufield & Byers) وسيكويا كابيتال (Sequoia Capital) في شركة جوجل عام 1999 والبالغة 25 مليون دولار، أكثر من مائة مرة لدى طرح جوجل أسهمها للاكتتاب العام سنة 2004. ولذلك فإنّ فرص الاستثمار الأكثر ربحية ومردوداً لا ترى النور أبداً في السوق العامة. فهي تتلقى الدعم والرعاية والتمويل الصبور من مستثمرين القطاع الخاص الذين يقدم بعضهم تضحيات كبيرة. وعندما تصل فرص الاستثمار تلك إلى الأسواق العامة، إن وصلت أصلاً، تكون قد سُعّرت تماماً. ولذلك لا يستطيع المستثمرون في السوق العامة أن يأملوا بأن يصبحوا أثرياء للغاية على غرار بعض أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية المحظوظين.
بيد أنّ غياب فرص الاستثمار المربحة للغاية لا يبرر فتح سوق الاستثمار الخاصة أمام مستثمري السوق العامة. فالفرص التي تلاحقها صناديق الاستثمار الخاصة تنطوي على نسبة مخاطرة كبيرة وتتطلب آفاقاً زمنية طويلة، إذ إنّ متوسط فترة الحيازة يبلغ 5 سنوات وبعض الاستثمارات تتطلب فترة حيازة تصل إلى 10 سنوات. ومع أنّ الشركاء الأساسيين لصناديق الاستثمار الخاصة يقتطعون نسبة كبيرة من الرسوم الإدارية، إلا أنّ كفاءة تلك الصناديق لا تتضح إلا بعد ست سنوات على الأقل. وعلى العكس من ذلك يؤدي الاستثمار في أسواق الأسهم العامة، من خلال صناديق الاستثمار المشتركة على سبيل المثال، إلى تنويع المخاطر وخفض الرسوم الإدارية. كما إنّ أداء الاستثمارات العامة يمكن تقييمه على نحو يومي تقريباً وبالإمكان تسييل الاستثمارات بسرعة من خلال أسواق الأسهم. وهكذا يمكن القول إنّ الأداء الاقتصادي لصناديق الاستثمار الخاصة لا يعد جذاباً بالنسبة للمستثمرين العاديين، الذين لا يمتلكون فائضاً من الثروة ولا قدرة على دفع الرسوم الإدارية المرتفعة ولا يتمتعون بالصبر والمقدرة على تحمل المخاطر مثل المستثمرين الأغنياء. فضلاً عن ذلك، هل بمقدور المستثمر العام العادي تحمل الخسائر التي قد يتكبدها أصحاب رؤوس الأموال الاستثمارية في حال فشل استثماراتهم؟
الخلاصة، مع أنّ مقترح رئيس لجنة الأوراق المالية والبورصة الذي سبق الإشارة إليه في مستهل هذه المقالة نابع من نية حسنة، إلا أنه من غير المرجح أن ينجح. فنحن لا نتوقع من المستثمرين العاديين أن يسارعوا إلى الاستثمار في الشركات الرقمية الناشئة؛ كما إننا لا نتوقع أيضاً أن تبدأ تلك الشركات بالترحيب بالمستثمرين العاديين، حتى ولو جرى تعديل النظم والقواعد.